الأحد، 7 مايو 2023

هايدن



الطفولة


مرت بالأمس الأول 31 آذار ذكرى ولادة فرانس يوزف هايدن (1732 - 1809)، واحد من أهم الموسيقيين في تاريخ الموسيقى الغربية. تشير كنية بابا هايدن التي نعته بها الموسيقيون وقتها إلى هذا، فهو من مهّد الطريق أمام موتسارت وبيتهوفن، وهو من صقل شكل السوناتا، أحد أهم الأشكال الموسيقية في أوروبا منذ القرن التاسع عشر. وطوّر العديد من الأشكال الموسيقية، بالدرجة الأولى شكل السيمفونية.

ولد هايدن في قرية روراو شرقي فيينا في عائلة هوت الموسيقى، فأبوه كان عازفاً ومغنياً شعبياً من الهواة، ومنه تعلم الغناء في صغره وبرع فيه، حتى أخذه معه أحد أقارب العائلة يوهان ماتياس فرانك في 1738، الذي كان مدير مدرسة وقائد جوقة غناء في مدينة هاينبورغ القريبة الواقعة على الدانوب. كان يوزف في السادسة من العمر وقتها. 

لم تعتنِ عائلة فرانك بالطفل النابغ كثيراً، كانت ملابسه قذرة ولم يحصل على طعامٍ كافٍ، وكثيراً ما كان يُضرب. لكنه تعلم عندهم أساسيات الموسيقى والعزف على الهاربسيكورد والكمان وصقل موهبته الغنائية بالاضافة إلى الدروس الاعتيادية مثل اللاتينية والدين والكتابة والرياضيات حتى قدوم الموسيقي المعروف جورج فون رويتر (1708 - 1772) مدير الكورس في كاتدرائية سنت شتفان في فيينا (الكاتدرائية الجميلة الموجودة في مركز المدينة) بحثاً عن مواهب جديدة يعزز بها كورس الأطفال في الكاتدرائية، وذلك في سنة 1739. انتقل هايدن الصغير إلى فيينا في ربيع 1740، ليقضي تسعة أعوام في الكورس ويسكن مع الأطفال الباقين. حصل على تأهيل عملي ممتاز لكنه لم يتلق تعليماً موسيقياً مناسباً في النظرية والتأليف، ولا حتى الطعام الكافي أحياناً. يقول أنه كان مضطراً لتقديم أفضل أداء أملا في الحصول على دعوات لتقديم حفلات في بيوت النبلاء أو في القصر الإمبراطوري حيث يمنح الأطفال بعض الطعام. وكان يحصل كذلك على بعض المال من تدريس الموسيقى أو كعازف مصاحبة عند الموسيقى الإيطالي نيكولا بوربورا (1686 - 1766) مؤلف الأوبرا الشهير خلال عمله في فيينا. وقد حصل هايدن اليافع على الكثير من التقريع والسباب من بوربورا، لكنه كان ممتناً له رغم ذلك، فقد تعلم منه الكثير من علوم الغناء والتأليف وحتى اللغة الإيطالية. 

وحادثته مع ماريا تريزيا أمبراطورة النمسا في 6 حزيران 1745 مشهورة، فقد كان يلعب مع زملائه فتيان الكورس على منصّات بناء قصر شونبرون خلال واحدة من العروض التي قدمت في هذا القصر الجديد. رأته لوحده من دون أقرانه وطلبت من رويتر "ضبطه". وكانت ماريا تريزيا قد أشارت لرويتر سنة 1748 بأن صوت يوزف هايدن قد بدأ يغلظ بسبب البلوغ (استعملت تعبير نعيب)، فخلفه أخوه ميخائيل هايدن (1737 - 1806) في أداء الأدوار المنفردة، وكان قد التحق بكورس سنت شتفان في 1745.

آخر مشاركة لهايدن مع فرقة كنيسة سنت شتفان كانت في 22 تشرين الأول 1748 قبل أن يطرده رويتر من الفرقة في تشرين الثاني عقب مقلب دبّره هايدن لأحد زملائه (وبالطبع بسبب تغير صوته)، إذ كان هايدن صاحب دعابة منذ صغره، وتنعكس روح الدعابة في أعماله بشكل جلي كذلك. 


القداس القصير في فا الكبير، أول عمل موثّق لهايدن بتاريخ 1750

https://www.youtube.com/watch?v=Puke9tHFoQ0


قصر أسترهازي في فرتود - المجر


الشباب والنضوج


بدأ هايدن حياته العملية سنة 1750 في البحث عن مصدر دخل لإعالة نفسه. عمل بأعمال مؤقتة مختلفة مثل العزف والتدريس والقيام بخدمات متنوعة، خاصة المرافقة الموسيقية والغنائية عند نيكولا بوربورا (1686 - 1766) ومساعدة الشاعر وكاتب الليبرتّو (نصوص الأوبرا) الإيطالي المعروف بيَترو مَتاسْتاسيو (1698 - 1782) الذي كتب نصوص الكثير من الأوبرات باللغة الإيطالية لموسيقيين معروفين مثل ليوناردو فنتشي (1690 - 1730) وأنتونيو كالدارا (1670 - 1736) ويوهان آدولف هاسه (1699 - 1783) وهو الألماني الذي بزّ الموسيقيين الطليان في الأوبرا الإيطالية. في نفس الوقت درس التأليف عند بوربورا وواصل دراساته الذاتية وانهمك في تأليف اوبرات هزلية وأعمال دينية غنائية وموسيقى الحجرة بتكليف من بعض النبلاء. بنى هايدن لنفسه سمعة بين النبلاء وحاز إعجابهم تنامت بدأبه ومثابرته، فحصل على أول وظيفة له كمدير موسيقي في بلاط الكونت مورتسين سنة 1758. وكان يقضي الشتاء في فيينا والصيف في قصر الكونت قرب بلزن في بوهيميا. ألف في هذه الفترة أولى سيمفونياته التي تألفت عموماً من ثلاث حركات، لكنه بدأ بكتابة سيمفونيات من أربع حركات مبكراً كذلك، وهو العدد الذي أصبح العدد المعتاد لحركات السيمفونية لفترات طويلة، قبل أن يبدأ الموسيقيون بالتحرر من هذا التقييد في الفترة الرومانتيكية.

لم يستمر عمله طويلاً عند الكونت الذي اضطر لتقليص نفقاته بسبب أزمة مالية فحل الفرقة الموسيقية، لكنه أوصى الأمير المجري أنتل (آنتون) أسترهازي بهايدن. حصل هايدن على عمل في أوركسترا الأمير في نيسان 1761 مساعداً لقائد الفرقة غريغور يوزف فرنر (1693 - 1766) بأجر مضاعف عن أجره السابق عند الكونت. لكن الأمير آنتون توفي في العام التالي ليخلفه أخوه ميكلوش الأول (نيكولاوس) الذي عُرف بحبه للموسيقى والفنون، وقد أصبح هايدن قائداً للفرقة بعد وفاة فرنر. 

تُعد عائلة أسترهازي المجرية من أثرى العوائل في الامبراطورية النمساوية. يقع مقر الأمير ميكلوش الأول في قصر فخم في آيزنشتات (بورغنلاند النمساوية)، لكنه بدأ بين 1762 - 1766 بتوسيع قصر آخر للعائلة في أسترهازا (في الريف المجري) وجعله مشابهاً لقصر فرساي، وألحق به في 1775 دار أوبرا صغيرة قدمت فيها أوبرات ومسرحيات، منها أعمال هايدن. وقد اعتاد الأمير قضاء الصيف في هذا القصر الباذخ، فيأخذ معه حاشيته وخدمه بضمنهم الفرقة الموسيقية لكن من دون استصحاب عوائلهم. وهنا حصلت حادثة تأليف هايدن سيمفونية الوداع سنة 1772 لإيصال رسالة إلى الأمير مفادها أن إقامة أعضاء الفرقة في القصر الصيفي قد طالت، وحان وقت العودة إلى منازلهم وعوائلهم. فقد كان تعامل النبلاء مع الموسيقيين لا يختلف عن تعاملهم مع خدمهم كثيراً، وكانت المؤلفات الموسيقية التي يكتبها هايدن ملكاً لمخدومه. لكن الأمر تغير بعد تجديد عقد العمل سنة 1779، فتمكن هايدن من تلبية طلبات خارجية بالإضافة إلى مهامه الموسيقية المتعددة لدى الأمير وبلدية آيزنشتات. عندها ألف الكثير من الرباعيات الوترية والسيمفونيات، بينها السيمفونيات الباريسية (1785 - 1786).


من السيمفونيات الأولى في بلاط الأمير أسترهازي: سيمفونية رقم 6 (الصباح) من 1761. جوفاني أنتونيني يقود Il Giardino Armonico 

https://www.youtube.com/watch?v=XtWEvUnC1Vs&t=852s


جوفاني أنتونيني يقود Il Giardino Armonico في سيمفونية الوداع من سنة 1772

https://www.youtube.com/watch?v=GMaM6ivx8X8





الشهرة والزيارة الأولى إلى بريطانيا


كان الأمير نيكولاوس (ميكلوش) أسترهازي (1714 - 1790) سخياً فيما يتعلق بالموسيقى، وقد خصص ميزانية تبز ميزانية البلاط الإمبراطوري ذاته. ساعد هذا هايدن على التعاقد مع أفضل الموسيقيين والمغنين، وتجربة الجديد من الأفكار في تطوير الأشكال الموسيقية واستخدام الأوركسترا والتوازن الصوتي فيها وتثبيت إستعمال المزيد من الأدوات فيها (الترومبيت والكلارينيت مثلا)، ونسمع هذا التطور التدريجي في سيمفونياته بمرور الوقت. وقد زادت سمعة بلاط الأمير أسترهازي في أوروبا وزاره النبلاء والملوك وتمتعوا بالأعمال التي ألفها هايدن خصيصاً في مثل هذه المناسبات، من سيمفونيات أو أوبرات أو مسرح الظل أو المسرحيات الموسيقية، كل هذا ساعد في نشر سمعة هايدن في أوروبا. وبدأت المدن الأوروبية تقدم أعماله بنجاح كبير. مثلاً أرسل الملك الإسباني كارلوس الثالث علبة تبغ من الذهب مرصعة بالألماس هدية لهايدن بواسطة سفيره في فيينا الذي سافر إلى أسترهازا خصيصاً لهذا السبب. أما فرنسا فقد هامت بموسيقاه وقدم الفارس دو سان جورج (1745 - 1799) في باريس ست سيمفونيات كتبها هايدن بتكليف من كونت فرنسي سنة 1787. وبلغت شهرته هناك حد قيام موسيقيين مغمورين بتأليف وطبع ونشر سيمفونيات لكن بتوقيع هايدن لضمان المبيعات. ووصلت شهرته بريطانيا حيث تلقى دعوات لزيارتها وقيادة أفضل الفرق هناك، لكن هايدن اعتذر عن ذلك لأنه لم يود الاستقالة من عمله عند الأمير ميكلوش الذي لم يكن يسمح لهايدن بترك موقعه في إجازات طويلة. رغم ذلك كان هايدن يعاني من عزلة "فنية" بسبب اقتصار إقامته على آيزنشتات وأسترهازا، بخلاف أقرانه الذين كانوا يقومون بجولات فنية في كل أوروبا. وحتى فيينا العاصمة الامبراطورية كان يزورها لمرات قليلة ولفترات قصيرة، وهناك التقى بموتسارت وعقد معه صداقة رغم الفارق في السن (أصبح الإثنان أعضاء في نفس المجمع الماسوني سنة 1785).

لكن الأمر تغير فجأة بعد وفاة الأمير ميكلوش في خريف 1790، عندها خلفه ابنه أنتون (أنتل) (1738 -1794) الذي حل الأوركسترا بسبب الديون الكثيرة على البلاط وبسبب عدم اهتمامه بالموسيقى والفنون. لكنه أبقى هايدن في وظيفته عنده دون مهام محددة ودون قيود، فاستأجرهايدن بيتاً للسكن في فيينا على الفور. الآن فقط سنحت له الفرصة لزيارة لندن في 1791 للمرة الاولى، وبقي هناك لعام ونصف حيث حقق نجاحاً ساحقاً جلب له ثروة صغيرة. قدم هناك العديد من السيمفونيات ومُنح الدكتوراه الفخرية في جامعة اوكسفورد في تموز 1791، حيث قدمت سيمفونيته المعروفة باسم اوكسفورد (رقم 92) عدة مرات. وقد أطلق الاسم على هذه السيمفونية رغم تأليفها في أسترهازا سنة 1788. تأثر هايدن عند سماع أوراتوريات هندل التي قدمت في مهرجان ضخم في ويستمنستر استمر عدة أيام في أيار وحزيران 1791.

التقى هايدن بيتهوفن الشاب في مدينة بون وهو في طريقه إلى لندن، ومرة ثانية كذلك في عودته صيف 1792، قبل أن ينتقل بيتهوفن إلى فيينا شتاء نفس العام، ليصبح تلميذاً عند هايدن لفترة وجيزة. لكنه لم يحب دروسه في النظرية التي اعتمدت كتاب الموسيقي النمساوي الكبير يوهان يوزف فوكس (1660 - 1741) بقدر اهتمامه بحديث أستاذه عن التأليف الموسيقي وخبراته وكيف بنى سمعته الموسيقية.


سيمفونية اوكسفورد في صول الكبير (رقم 92) آدام فيشر يقود اوركسترا هايدن النمساوية - المجرية

https://www.youtube.com/watch?v=hEFiTZF9E9E


نصب الموسيقى (هايدن وموتسارت وبيتهوفن) في متنزه تيرغارتن - برلين



القمة


أصبح هايدن أهم موسيقي في أوروبا خلال عقد التسعينات، فقد توفي موتسارت في 1791 وبدأ بيتهوفن للتو خطواته الأولى ليرتفع نجمه لاحقاً في سماء فيينا عاصمة الموسيقى الأوروبية. قام هايدن بزيارة ثانية إلى بريطانيا في بداية 1794 قدم فيها ستة سيمفونيات جديدة. هذه المرة عرضت عليه العائلة المالكة البريطانية الاستقرار هناك لكنه رفض العرض السخي متعللا بالتزاماته لدى الأمير أسترهازي، فيعود إلى فيينا في أوائل أيلول 1795. 

عاد هايدن من لندن وفي جيبه ثروة تحقق له الاستقلال الاقتصادي عن أي مخدوم، وفي جعبته الجديد من الأفكار، سيما بعد سماعه أوراتوريات هندل التي قدمت هناك باستمرار. وكان قد تسلم من الملكة هدية ثمينة هي مخطوطة عمل هندل آلام المسيح وفق النص الألماني الذي كتبه الشاعر بارتولد هاينريش بروكس سنة 1712 (وقد استعمل نفس النص العديد من المؤلفين مثل جورج فيليب تلمان ويوهان فريدريش فاش وغوتفريد هاينريش شتُلتسل علاوة على هندل وكلهم من عظماء موسيقيي عصر الباروك المتأخر).

توفي الأمير أنتون في 1794 ليخلفه ابنه نيكولاوس الثاني (1765 - 1833) الذي قرر تكليف هايدن بإعادة تشكيل اوركسترا أسترهازي وفرقة الأوبرا. لم يكن الأمير الجديد يحب قصر أسترهازا، فكان يمضي الصيف في آيزنشتات والشتاء في قصره في فيينا. أهتم الأمير الجديد بالموسيقى الكنسية، بخلاف أسلافه، وتميز بذوقه المحافظ الذي يقرب من فن الباروك. لذلك لم يكتب هايدن  سوى القليل من الأعمال الدنيوية، رباعيات وترية (مجموعة رقم 76 بتكليف من الكونت المجري أردودي) وكونشرتو وبعض السوناتات للبيانو، بينما كتب ستة قداديس للأمير، والأهم من ذلك كتب اوراتوريو الخليقة الذي استند نصه على عمل ميلتون "الفردوس المفقود" وأجزاء من العهد القديم. كتبت النص الشاعرة الانكليزية آنّ هنتر (1742 - 1823) التي كتبت كذلك نصوص 14 أغنية إنكليزية لحنها هايدن. قُدّم الأوراتوريو للمرة الأولى في نيسان 1798 بنجاح كبير، وهو بنسختين، إنكليزية وألمانية. تبعه بأوراتوريو الفصول الذي قدم في نيسان 1801، لكنه لم يلق نفس النجاح مثل الخليقة.

تغيرت أوروبا بعد الثورة الفرنسية بشكل كبير، فقد قامت حروب وتغيرت الخارطة السياسية وزالت دول ونشبت حرب التحالف الأول (1792 - 1797) بين إمبراطورية هابسبورغ والفرنسيين. كتب هايدن النشيد الوطني النمساوي في هذا المناخ الملتهب مستلهما حماس الانكليز عند سماع النشيد البريطاني "ليحفظ الرب الملك / الملكة"، وقدم للمرة الأولى في 12 شباط 1797 في فيينا. استعمل هذا النشيد رسمياً حتى "ضم" النمسا إلى ألمانيا سنة 1938 (عدل النص بعد سنة 1918 عندما انهارت إمبراطورية هابسبورغ لتستقل الدول التي كانت تحت سيطرتها وتولد الجمهورية النمساوية). في نفس الوقت استعملت جمهورية فايمار ولاحقاً ألمانيا النازية نفس اللحن الذي كتبه هايدن لكن بنص مختلف واعتمدته نشيداً وطنياً استمر استعماله في جمهورية ألمانيا الاتحادية (الغربية) حتى اليوم بعد توحيد ألمانيا.

في مثل هذه الأجواء قُبل هايدن على الفور رئيساً فخرياً مدى الحياة في جمعية الفنون الموسيقية في فيينا في كانون أول 1797، بعد أن اُهمل من قبل الجمعية لعقود بسبب بعده على الحياة الموسيقية في فيينا والبلاط الإمبراطوري.


النشيد الوطني النمساوي (ثم الألماني لاحقاً) Hob. XXVIa:43: "ليحفظ الرب الإمبراطور فرانتس" ألفه هايدن بعد اعجابه بالنشيد البريطاني "ليحفظ الرب الملك / الملكة".  

https://www.youtube.com/watch?v=4SOy4R3085M


الرباعي الوتري عمل رقم 76 / 3 في دو الكبير (المعروف برباعي الامبراطور)، عزف رباعي كوداي. الحركة الثانية البطيئة هي النشيد الوطني النمساوي (1797)

https://www.youtube.com/watch?v=LahomNDksQg&t=6s


اوراتوريو الخليقة، كريستوفر هوغوود يقود أكاديمية الموسيقى القديمة (AAM)

https://www.youtube.com/watch?v=5gYREY8kLRE



 مسودة نشيد ليحمي الرب قرانتس القيصر بخط هايدن


الشيخوخة


عاش هايدن عمرا مديداً مقارنة بمعدلات الحياة في تلك العصور، فقد توفي ولم يتم الثامنة والثمانين من العمر. وشهد العقد الأخير من حياته المزيد من الاضطراب في أوروبا بسبب حروب نابليون. فقد انتصرت فرنسا على النمسا وروسيا في معركة آوسترليتس الحاسمة في كانون الأول 1805، نفس العام الذي دمّر الأميرال نيلسون الأسطول الفرنسي - الإسباني في معركة ترافالغر (الطرف الأغر كما تسميها العرب). وقد زار لورد نيلسون آيزنشتات سنة 1800 فقدم هايدن عدة حفلات على شرفه، بين الأعمال التي قدمها قداس أصبح يعرف باسم قداس نيلسون، وأهدى له أغنية "سطور من معركة النيل" (معركة وقعت في 1798 وهي واحدة من أهم انتصارات نيلسون). وقد قتل نيلسون في معركة الطرف الأغر كما نعرف.

استمر هايدن بالعمل على طبع أعماله وقيادة الفرق لتقديمها بوتيرة متصاعدة مع تصاعد شعبيته، لكنه لم يؤلف في سنواته الأخيرة أعمالاً موسيقية ذات بال. قال لكاتب سيرته في 1799 "للأسف تتكاثر أشغالي، بقدر ما تتكاثر سنين عمري". وبدأت أعماله الأخيرة الناضجة، اوراتوريو الخليقة والفصول على الخصوص، تقدم في مختلف العواصم الأوروبية لتجلب له المزيد من المردود، وأصبح هايدن عضواً فخرياً في المزيد من الأكاديميات والجمعيات الموسيقية الأوروبية. بالمقابل نشط في جمع التبرعات للأعمال الخيرية وتمويل المشافي ودور الأيتام عبر تخصيص ريع بعض حفلاته لهذا الغرض. وكان تقديم أعماله وحضوره فيها مناسبة اجتماعية هامة، يحضرها النبلاء والشخصيات والموسيقيون.

احتلت جيوش نابليون فيينا في تشرين ثاني 1805 للمرة الأولى، أما احتلالها في منتصف أيار 1809 فترافق مع أيامه الأخيرة. كان هايدن الشيخ يهدئ من روع خدمه أثناء قصف المدفعية الفرنسية قائلا: "يا أولادي، لا تخافوا، حيثما يوجد هايدن، لا يحصل أي مكروه". وتشتهر حادثة زيارة كابتن في الجيش الفرنسي الذي احتل فيينا هايدن في بيته للتعبير عن إعجابه بهذا المؤلف الكبير في 17 أيار وغنائه بعض أغاني هايدن. 

جلس هايدن عند البيانو للمرة الأخيرة يوم 26 أيار وأنشد "ليحمي الرب فرانتس القيصر" ثم مات يوم 31 أيار. سُجي جثمانه في كنيسة أيجيديوس القريبة من داره قبل دفنه ثم قُدّم فيها قداس من تأليف أخيه ميخائيل هايدن في اليوم التالي، وأقيم له استذكار كبير في الكنيسة الاسكتلندية في قلب فيينا قُدّم فيه قداس من تأليف موتسارت بعد اسبوعين من وفاته عقب عودة الحياة إلى العاصمة الإمبراطورية المحتلة. لكن في مفارقة من مفارقات القدر قدم عمل هايدن Te Deum في كاتدرائية سنت شتفان حيث كان هايدن صبياً في الكورس، احتفالاً بمناسبة بلوغ نابوليون عامه الأربعين في 15 آب 1809.

وصفت موسيقى هايدن ذات مرة بأنها تجلب السعادة. إذا أمعنّا في الأمر سندرك إن هذه السعادة تكمن في الوصول إلى حالة من التوازن. فقد كان يجمع بين الفكاهة والجد بلا تعارض وبشكل نادر. أما الحركات التي استعملها في السيمفونية والرباعي الوتري فهي سريعة (بعد مدخل بطيء قصير)، بطيئة، راقصة، وختمها بحركة سريعة، وهذا السعي إلى التوازن هو مصدر من مصادر السعادة. 


قداس نيلسون. غريته بدرسن تقود كاميراتا أوسلو وفرقة الهوائيات النرويجية وكورس أوسلو:

https://www.youtube.com/watch?v=O1lGDuB9NP8

سطور من معركة النيل غناء دوروتي ميلدز ولوسيوس رول على الفورتبيانو:

https://www.youtube.com/watch?v=6_UXVyZSK6Q


نشرت في صحيفة المدى بين 2 نيسان - 7 أيار 2023 في خمس حلقات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بحث هذه المدونة الإلكترونية

صدر مؤخراً

بارتوك وتجميع الموسيقى الشعبية

الجذور كان الموسيقي المجري البارز بيلا بارتوك (1881 - 1945) من بين أوائل الباحثين الذين وضعوا أسس علم الموسيقى الشعبية (Ethnomusicology)، وك...