السبت، 26 سبتمبر 2020

الرحّالة ديلاّ ڤـالّه سابق زمانه

 


اكتشفت أوروبا الشرق عبر الترجمة الى اللاتينية ومن خلال عيون الرحّالة والتجار الأوروبيين. من المحتمل أن يكون الإيطالي بييترو ديلا ڤـالّه (1586 – 1652) أحد أهم هؤلاء تأثيراً. فرسائله صدرت مطبوعة لاحقاً في 1650 تحت عنوان "رحلات الحاج بييترو ديلا فالّه مع تفاصيل أهم مشاهداته في 54 رسالة الى صديقه ماريو سكيبانو..." بعدة أجزاء. وقد ترجم الراحل الأب د. بطرس حداد (1937 – 2010) وحقق الجزء المتعلق بالعراق من الأصل الإيطالي بعنوان "رحلة ديللا ڤـاليه إلى العراق" (بغداد – 2001، ثم في طبعة الدار العربية للموسوعات 2006). تميزت كتاباته التي غطت الفترة بين 23 آب 1614 حتى 1 آب 1626 بالملاحظة الدقيقة لأحوال الناس (التسجيل الأثنوغرافي) والمنهج العلمي في تحليل الظواهر ومناقشتها، حتى لو كانت مذكورة في الكتب المقدسة، ويندهش القارئ المعاصر لسعة ثقافته وتنوعها. زار ديلا ڤـالّه القسطنطينية ومصر وبلاد الشام والعراق وفارس ووصل الهند. كان من الأوربيين الذين تفصلوا في وصف آثار بابل وطيسفون وأول من زار أور (المقيّر) السومرية، وقدم كل ذلك بأسلوب رائع فحصل على شعبية هائلة في أوروبا، فقد قال عنها العظيم غوته "إن قراءة رحلة ديللا ڤـاليه كشفت له الشرق". كما أخذ معه الكثير من المخطوطات والآثار (حيث رأى الأوروبيون المومياء الفرعونية والكتابة المسمارية فأدهشتهم) والأعمال الفنية والملابس.

ونعتقد إن أحد أسباب شهرة الرسائل هو حبه الرومانتيكي للبغدادية الست معاني جويريدة وزواجه منها، ثم وفاتها سنة 1621 ونقل رفاتها معه حيثما رحل ليدفنها في مقبرة العائلة في روما بعد عودته في 1626.


ولد ديلا ڤـالّه في روما في اسرة ثرية ونبيلة، وحصل على تعليم ممتاز فدرس العلوم المختلفة والكلاسيكيات واستهوته الموسيقى والتمثيل وأتقن فنون الفروسية، لكنه صدم في شبابه بعد أن رفضته شابة نبيلة عشقها، ولم تبادله الحب، فقرر التجوال في البلاد المشرقية. أمضى خمس سنوات في نابولي يتهيأ لرحلته بدراسة العلوم والمعارف قبل أن يبحر الى القسطنطينية ويمكث فيها ويتعلم التركية ثم تعلم العربية والفارسية خلال أسفاره الى جانب معرفته اليونانية واللاتينية. ألف في نحو اللغة التركية وترجم بعض الكتابات من الفارسية والعربية الى الإيطالية أو اللاتينية.

تعلم الموسيقى على يد ستيفانو تافولاتشي ثم كينتيو سوليني قبل أن يدرس عند الموسيقي المعروف باولو كوالياني (1555 – 1628) وتعاون معه لكتابة ليبرتو (نص) بعض المسرحيات الغنائية، مثل "عربة الإخلاص في الحب" (1611). ألف عددا من الأعمال لم يصلنا منها سوى أوراتوريو ألفه لمصلى الصليب المقدس التابع لكنيسة القديس مارسيل في روما.

أهتم كذلك بنظرية الموسيقى وله مؤلفات في هذا الموضوع منها "مناقشة موسيقى عصرنا، روما 1640"، وكان منشغلا بتحليل النظريات الموسيقية اليونانية القديمة ولابد انه اطلع على الموسيقى العثمانية والعربية فحفزته على هذا الاهتمام، إذ درس الفلاسفة العباسيون نظريات الاغريق الموسيقية التي أخذوها من بابل وطوروها ووضعوا نظرياتهم استنادا الى فهمهم لها.

(صدرت في المدى الثقافي عدد 27/9/2020)

الخميس، 24 سبتمبر 2020

في رحيل عبد الأمير الصراف

 

 

رحل عبد الأمير الصراف (1935 – 25/5/2020) بهدوء، مثلما عاش بهدوء وتواضع. لم يشر الى رحيله سوى نعي يتيم من نقابة الفنانين العراقيين، وبعض التنويهات في الوسائط الاجتماعية مثل تنويه الإعلامي البارز علي عبد الأمير عجام.

تركة الصراف غنية ومتنوعة، لم يهتم لها أحد كثيراً رغم أصالتها وأهميتها الفائقة في تشكيل ذاكرة بلد أصيب بفقدان الذاكرة. إذ لو اقتصرنا على ذكر دوره الطليعي في تأليف الموسيقى التصويرية للأفلام الوثائقية والروائية والمسرحية فلن نجد أحدا يبزه في منتجه طوال أكثر من 45 عام، بدءاً بموسيقى "الأهوار" (1975) و"بيوت من ذلك الزقاق" (1977) لقاسم حول حتى أفلام الثمانينات والتسعينات. لكنه كان كذلك أول (وربما الوحيد) من ألف موسيقى الباليه في المنطقة، فالأجنحة السحرية التي قدمها كأطروحة تخرج في الأكاديمية الوطنية البلغارية للموسيقى سنة 1971 وقدمت كذلك في قاعة الشعب ببغداد في 1974 بمشاركة طلاب مدرسة الموسيقى والباليه لا تزال دون منافس.

درس الكمان عند أكرم رؤوف ولويس زنبقة (1928 – 1979 مؤلف السلام الجمهوري العراقي الوحيد)، ثم في معهد الفنون الجميلة عند آرام تاجريان قبل أن يكمل دراسته الموسيقية في بلغاريا في التأليف الموسيقي وقيادة الأوركسترا بالإضافة الى دراسة البيانو. كان استاذه في التأليف مارين گولأمينوف (1908 – 2000)، أحد أهم المؤلفين الموسيقيين البلغاريين في القرن العشرين، وهو الذي شجعه على تأليف باليه الأجنحة السحرية ودعمه لتقديمها في أوبرا صوفيا. أما استاذه في الإثنوموسيقولوجي (علم الموسيقى الشعبية) الذي درسه لسنة بعد تخرجه فكان أهم باحث بلغاري في موضوع الموسيقى الشعبية، هو البروفيسور ستويان جوجيف (1902 - 1997) وقد ربطها بالمقامات الشرقية. قدم الصراف بحث التخرج في موضوع المقامات العربية (وربما كان البحث أساس كتابه "المقامات الموسيقية العربية وسلالم المقامات العراقية").

تعين بعد عودته من الدراسة في بلغاريا في دائرة الفنون الشعبية سنة 1972، فقام بمسح فولكلوري ميداني بين 1974 – 1984.

عين كذلك مستشارا فنيا في دائرة السينما والمسرح سنة 1973، فألف الموسيقى التصويرية للكثير من الأفلام الروائية والوثائقية وموسيقى لخمس رقصات للفرقة القومية للفنون الشعبية، ولأربع من مسرحيات الفرقة القومية للتمثيل. ثم أتم كورس التأليف عند الموسيقي الكبير آرام خاتشاتوريان (1903 – 1978) في موسكو سنة 1977. تعرفت عليه في تلك الفترة بمساعدة الصحفي الراحل حسين الحسيني وكنت أستفسر منه عن الكثير من المعلومات الموسيقية فيجيبني عليها بالتفصيل وبكل صبر وتواضع. ولا أنسى جلوسي مع الصراف والأب فيليب هيلايي في قاعة الخلد سنة 1978 أثناء حضورنا تدريبات الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية الموسعة بعازفين من المجر وبولونيا قبل تقديم سيمفونية "القادسية" التي ألفها الموسيقي اللبناني وليد غلمية (1938 – 2011). لم يكن رد فعلهما متحمساً. وكان ما كتبته عن "تلك" القادسية وقتها في صحيفة طريق الشعب عرضاً أكثر مما هو تقييم، تجنباً للمشاكل. للتنويه، كان غلمية يذكر اسم الصراف في المقدمة عند الحديث عن الموسيقيين العراقيين، والموسيقيون يعرفون قدرات بعضهم البعض.

استمر الصراف بالتأليف الموسيقي ونشر الأبحاث حتى بعد 2003، فصدر كتابه الهام "تبسيط علم الهارموني" عن دائرة الفنون الموسيقية في وزارة الثقافة العام 2006، بينما عزفت الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية مؤلفه "السيمفونية العراقية" سنة 2011.

وكانت للصراف اهتمامات أدبية، فكتب السيناريو لبعض الأفلام، وله ثلاث مسرحيات من وحي ملحمة كلكامش.

بحث هذه المدونة الإلكترونية

صدر مؤخراً

بارتوك وتجميع الموسيقى الشعبية

الجذور كان الموسيقي المجري البارز بيلا بارتوك (1881 - 1945) من بين أوائل الباحثين الذين وضعوا أسس علم الموسيقى الشعبية (Ethnomusicology)، وك...