ترجماتي المنشورة

 



لمحات من الأدب المجري، دار المدى للنشر، دمشق 2002



فضل الله الحداد، ميهاي: رحلي الى بلاد الرافدين وعراق العرب

داركتب للنشر، بيروت 2004

مقدمة الكتاب

عُرف الشعب المجري بحبه للخيل والفروسية منذ القدم، وكان الفرسان المجريون من أشجع وأقوى المقاتلين قبل أكثر من ألف عام. وهم الذين ابتدعوا سلاح الفرسان الخفيف سريع الحركة (هوسار Huszár) في مقابل الفارس الأوروبي التقليدي المثقل بالأسلحة والدروع التي تعيق الحركة والمناورة.

لكن لا يوجد فارس من دون فرس، لذلك اهتم المجريون بتربية الخيول. ولهذا اختار الامبراطور النمسوي اسطبلات المجر تحديداً لتكثير وتحسين نسل الخيل. وبين أهم هذه الأماكن تشتهر بلدة بابولنا Bábolna الصغيرة الواقعة غربي العاصمة بودابست على الطريق السريع المؤدي إلى النمسا بتربية الخيول العربية الصحراوية الأصيلة، وبتطوير زراعة الأعلاف وبالذات الذرة الصفراء التي تحولت إلى ”صناعة“ زراعية في العقود الأخيرة من القرن العشرين.

ورد ذكر هذا التجمع السكني للمرة الأولى في العام 1268، واتخذ اسم عائلة النبلاء الذين امتلكوه: بابوناي. لكن المنطقة أقفرت أثناء الاحتلال العثماني ولم تعد إليها الحياة الا في زمن يوزف الثاني امبراطور النمسا (1741-1790)، الذي أمر في العام 1789 ببناء اسطبل لتربية الخيول التي يحتاجها الجيش، وأختير قصر ساباري Szapáry ليكون مركزاً لذلك الاسطبل، وهو قصر شيد في بداية القرن الثامن عشر، ويعد حالياً أقدم مبنى في المدينة.

وعانى القصر من تقلب أحوال الدهر، فقد أمر نابليون بإحراقه مع كل الاسطبلات بعد احتلالها سنة 1809 في أعقاب معركة جور Győr، وذلك انتقاماً من الجيش النمساوي - المجري الذي تمكن من نقل كل الخيول من هذا الموقع إلى مكان آخر أكثر أمناً.

وحلّ كثير من السياسيين والشخصيات المعروفة في القصر منذ ذلك الحين. وفي الأزمنة الحديثة، خلال العهد الاشتراكي، استضاف قادة وسياسيين من حلفاء المجر وقتها مثل الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف.

ولا تزال بابولنا الآن مركزاً مهماً من مراكز تربية الخيول، وتحولت الثكنة العسكرية المجاورة للقصر إلى فندق أفتتحت حوله متاحف للخيول والصيد والعربات. وجرى التركيز في الفترات الأخيرة على السياحة، فأصبحت المنطقة مقصداً لمحبي الخيول، ومركزاً للمؤتمرات العالمية عن الفروسية، اذ يعقد مؤتمر عالمي كل سنتين في نهاية أيار أو بداية حزيران. وينظم في بابولنا سباق عالمي لقفز الخيول في 20 آب من كل عام.

في البداية جرى تكثير خيول من سلالات اسبانية وترانسلفانية ومولدافية، وتقرر في العام 1816 تربية الخيول العربية والشرقية فقط. جاء هذا القرار بالعكس من التوجه الأوروبي العام لإعتماد الخيول الأنكليزية بعد تفوقها على الخيول العربية والإسبانية التي استعملها الفرنسيون في حروب نابوليون. بهذا أصبحت المجر عامة وبابولنا بالخصوص أحد أهم مراكز تربية الخيول العربية الأصيلة في أوروبا. ولهذا الغرض أرسل الجيش النمسوي إلى بلاد الشام والعراق العديد من البعثات لشراء أفضل الخيول. وحصلت الاسطبلات في العام 1836 على حصان من سورية اسمه شاجيا Shagya تميز بخصائص الجمال والذكاء والقوة، فأصبح نقطة انطلاق لسلالة اشتهرت على صعيد عالمي باسم حصان شاجيا العربي أو جواد بابولنا العربي.

ورغم الاقتصار حالياً على تربية سلالة حصان شاجيا، فان بابولنا أنجبت كذلك خيولاً عربية أصيلة وشهيرة من نسل كحيلان وغزال وعبيان وصقلاوي وغيرها. وفاز كثير من خيول بابولنا بالجوائز الاولى في السباقات العالمية مثل معرض باريس الدولي سنة 1900.

ويستمر الجهد الدؤوب لتربية خيول نبيلة إلى يومنا هذا، ولم يتراجع عدد الخيول حتى بعد التغيرات السياسية في 1989-1990 كما حصل مع الثروة الحيوانية عموماً في المجر. ففي 1989 كان عدد الخيول 74 ألفاً ارتفع في 1995 إلى 87 ألفاً. ويذكر أن عدد الخيول في أراضي الامبراطورية النمسوية-المجرية بلغ مليوني جواد في نهاية القرن التاسع عشر، وكانت تسيطر على صناعة تنسيل الخيول في أوروبا.

كانت بعثة الفارس رودولف فون برودرمان Rudolf Ritter von Brudermann (1810-1889) من أشهر البعثات، وقد وصلت بيروت في تشرين الاول 1856، وتجولت في لبنان وسورية وفلسطين لشراء أفضل الخيول. وبرودرمان هو ضابط نمسوي وصل رتبة لواء أصبح آمراً على بابولنا لفترة قصيرة بعد عودته في 1857 حيث نظّم زراعة الأعلاف للخيول بشكل صحيح وأصلح من مناطق الرعي. ونعرف الكثير عن هذه البعثة من خلال كتاب ألفه أحد أعضائها وهو أدوارد فون لُفلَر Eduard von Löffler[1] الذي صدر في العام 1860، فقد دون فيه أخبار البعثة والكثير من المعلومات عن البدو وعاداتهم وطرق تربيتهم الخيول. وحسب وثائق البعثة، كانت المهرة ”حمدانية“ أول ما اقتنته من قبيلة بني شاكر، وفي غزة وجنين اقتنت المزيد، وتجولت في مضارب ولد علي وعنزة وغيرهما من القبائل البدوية المهتمة بتربية الخيول العربية الأصيلة.

أما بعثة ميهاي [ميخائيل] فضل الله الحداد في العامين 1901-1902 فقد تميزت عن سابقاتها بتوغلها عميقاً في بلاد العرب (العراق) وجلبها لعدد من الخيول الممتازة. وألف فضل الله هذا الكتاب الذي صدر في بودابست العام 1904 عن البعثة تلك، وفيه وصف لأحوال بلاد الشام والعراق آنذاك. وقد وصلت البعثة إلى تخوم الصحراء عند مدينة النجف، وجالت في ريف ما بين دجلة والفرات (المناطق الواقعة بين الديوانية والكوت) فاشترت خيولاً من قبائل شمّر وأقامت في بغداد فترة من الزمن. وقد سافر فضل الله الحداد قبل ذلك مرات عدة إلى الشرق الأوسط لجلب المزيد من الخيول، وأثبتت معرفته اللغة والعادات المحلية فائدة كبيرة لا تقل عن فائدة خبرته العميقة في تربية الخيول.

عانت بابولنا ومحطة تربية الخيول فيها كثيراً من الحروب، إذ علاوة على إحراقها من قبل نابليون وتأثرها بسبب الثورة التحررية التي قام بها المجريون في 1848-1849 للتحرر من النير النمسوي، جلبت الحرب العالمية الأولى وما تلاها من سنوات مضطربة إبان ثورة 1919 الإشتراكية والحرب التي تلتها وإحتلال الجيوش الأجنبية للمجر للقضاء على الثورة الكثير من المصاعب وقلصت من قوام خيولها (على سبيل المثال أخذ الجيش الروماني الذي ساهم في القضاء على ثورة 1919 الحصان صقلاوي بغدادي الذي جلبه فضل الله معه من بغداد). وتمكن الجنرال تيبور بتكو-سانتنرPetkó-Szandtner Tibor من إعادة بناء المركز بعد 1932 وأحيائه خلال سنوات قبل أن تأتي الحرب العالمية الثانية بدمارها الشديد. وقد استعادت بابولنا بعض خيولها في 1948، غير أن الزمن الذهبي لبابولنا كان قد انقضى. ومن الجدير بالذكر أن تيبور بتكو-سانتنر شخصية معروفة في الدول العربية، فقد أدار الجنرال سانتنر الإسطبلات الملكية في مصر بعد الحرب العالمية الثانية، وهو الذي نقل الخيول النجدية إلى القاهرة وحافظ عليها وكثّرها في الزهراء، فأصبحت تعرف بنوع الأصيل.

وتلخص المتاحف التي أُقيمت في بابولنا هذا التأريخ الحافل، وتتحدث عن الجهد الكبير الذي بذل في تربية وتكثير الخيول العربية الأصيلة. ونجد في متحف الخيول الجوائز التي فازت بها أشهر خيول بابولنا، والوثائق والكتب المتعلقة بتربية الخيول، وصوراً أصلية قديمة للخيول التي جلبت من البلاد العربية، والهيكل العظمي لـ ”امبريال“ أحد أشهر الخيول. وخصصت قطعة من الأرض مقبرة للخيول، وتحولت إلى حديقة تذكارية يزورها السواح من جميع أنحاء العالم، وهي موقع لا نجد له مثيلاً في أوروبا.


 ميهاي فضل الله الحداد

 ولد ميهاي (ميخائيل) فضل الله الحداد في لبنان سنة 1843 في قضاء بيت شباب قرب بكفيا وجعيتا، وجاء إلى المجر مع بعثة رودولف برودرمان في سنة 1857، ويقال إنه تعلق بحصانٍ باعه أبوه للبعثة ولم يشأ مفارقته. وسرعان ما حظي بمحبة الجنود والضباط في الجيش النمسوي المجري. وتروى قصة مثيرة عن لقائه بإمبراطور النمسا المجر فرانس يوزف. تبدأ القصة بحصوله على سيف كهدية من بعض الضباط افتخر به كثيراً. وفي 28 تموز 1857 زار الإمبراطور فرانس يوزف بابولنا ليطلع على نتائج بعثة برودرمان ويتفقد الخيول العربية الأصيلة التي جلبتها من الشرق. ورأى الإمبراطور الفتى العربي فضل الله واقفاً إلى جانب فرسة عربية، فتعجب له واقترب منه ليسأله من هو ومن أين أتى، ولمس السيف، فما كان من فضل الله أن ضربه على كفه محتجاً: كيف يجرأ ويمس سيفه وهو شرفه، فشحبت وجوه أفراد حاشية أمبراطور أقوى دولة في وسط أوروبا، ألا أن الإمبراطور ابتسم وأعجب بالفتى اللبناني وأمر بتعليمه. لا أحد يعرف مقدار الحقيقة في هذه الرواية، غير أنها رواية اشتهرت كثيراً.

دخل فضل الله المدرسة العسكرية بتشجيع ودعم من برودرمان، وتخرج منها وتعلم اللغة المجرية بشكل ممتاز تشهد عليه لغة الكتاب، لكنه حافظ على لغته الأم وحبه لبلده الأم لبنان والعرب عموماً، ويتجلى ذلك في العديد من مواقع الكتاب. قام بعدة رحلات إلى الشرق الأوسط وتركيا لشراء الخيول تحدث عنها باقتضاب في مقدمة كتابه. وقد زار لبنان وقريته بيت شباب خلال هذه الرحلات، والتقى بأقاربه. وقد عثرت بين صور بعثة 1901-1902 على العديد من الصور التي التقطت له مع أقاربه في بيت شباب، منها صورة لأربعة من أعمامه، وهم زندي [Zenedius] ومرقس ويوسف وأبراهيم، وهناك صور أخرى مع أقاربه نقولا وميشيل وإيلي وداود من عائلة حايك Haig، وآل حايك هم أخوال فضل الله الحداد.

خدم فضل الله في العديد من مزارع واسطبلات تربية الخيول في المجر، واستقر أخيراً في بابولنا، وهي أهمها، ثم أصبح آمرها في 1899 إلى أن تقاعد في سنة 1913 برتبة لواء. أصبح فضل الله معلماً من معالم تربية الخيول في المجر، ويعود له الفضل في تحول بابولنا إلى واحدة من أهم مراكز تكثير الخيول العربية الهجينة والأصيلة في أوروبا. توفي فضل الله في بابولنا سنة 1924 وهو في الحادية والثمانين ودفن فيها، ولا يزال قبره هناك.

 الكتاب والترجمة


 كتب فضل الله الكتاب بلغة مجرية جميلة وبسيطة تنم عن معرفة تامة لهذه اللغة الصعبة التي تعلمها في صباه. فهو يكتب كأي مجري متعلم في تلك الفترة من أوائل القرن العشرين. زيادة على ذلك نلمس عنده ميلاً إلى الكتابة الأدبية ونجد صياغات جميلة في الكثير من مواقع الكتاب، قدم لنا فيها صوراً أدبية بديعة عن جمال لبنان أو ريف الفرات الأوسط مثلاً. ونعجب عند قراءة الكتاب لسعة إطلاع فضل الله وثقافته العامة ومعرفته لتأريخ الأقدمين والتراث الأوروبي والشرقي على حد سواء. وفوق ذلك لا يخلو الكتاب من الظرافة والتعليقات المليحة الذكية.

وتتميز آراؤه عن البدو وطريقة تفكيرهم بالكثير من الأصالة والخبرة العميقة وفهم النفسية البدوية والعربية عموماً. وتجلى ذلك في الحديث عن خبرته الغنية في أسلوب التعامل معهم. كما اهتم بشرح أحوال المسيحيين الموارنة في لبنان – وهو واحد منهم – وبالدروز، ويعتبر الطائفتين من نسل الفينيقيين القدماء.

ويتميز الكتاب بموضوعيته، وقد عرض فضل الله علينا صورة واقعية لحال هذا الجزء من المشرق العربي في بداية القرن العشرين دون تزويق أو تجميل. وقد أعجبته مناظر كثيرة دوّن انطباعاته عنها، مثلما دوّن انطباعاته عن مناظر أخرى لم تعجبه. وكتاب فضل الله من الكتب المشوقة التي تجعل المرء ينكب على قراءتها في جلسة واحدة حتى لو امتدت القراءة الممتعة حتى الصباح.

اصطدمت عند ترجمتي لهذا الكتاب الممتع بعقبة غير متوقعة، فقد سبب لي التشوش في كتابة الأسماء العربية بالحروف اللاتينية مصاعب جمة. ومرد ذلك إلى أسباب ثلاثة برأيي، أولها خلط فضل الله بين النظام الكتابي المجري والألماني، فتارة يستعمل حرف sz المجري، وتارة أُخرى حرف s الألماني للدلالة على حرف السين العربي، بالمقابل يستعمل حرف s في الأبجدية المجرية لكتابة حرف الشين الذي يكتب بالألمانية sch (وهو يستعمل أحياناً sh الإنكليزية للدلالة على نفس الصوت!) فيأتي التشوش مضاعفاً عندئذ، خاصة عند كتابته أسماء الخيول التي غالباً ما كتبها بالحرف الألماني، دون أن ينبذ تماماً استعمال الحروف المجرية.

السبب الثاني هو استعماله لعدة أشكال كتابية عند الإشارة إلى أسم واحد، فقد ورد مثلاً اسم نسل صقلاوي بعدة صيغ، منها Siglavy و Seklavy. ويتكرر الأمر عند كتابته بعض الأسماء والمناطق والمدن العربية أيضاً. ويعود هذا الخلل جزئياً إلى عدم وجود نظام معتمد لكتابة الأسماء الأجنبية باللغة المجرية آنئذ كما هو الحال الآن، فقد جرى الإتفاق في أكاديمية العلوم المجرية على كيفية كتابة الأسماء والكلمات العربية بالحرف المجري.

أما السبب الثالث فهو يعود إلى قدرات فضل الله في فهم الأسماء العربية، خاصة في اللهجة العراقية ولهجة حوض الفرات والبادية الشامية القريبة من اللهجة العراقية الغريبة على الإذن اللبنانية. لكن كتابة الأسماء بشكل مشوه حدث أحياناً حتى مع أسماء البلدات اللبنانية مثل المعلقة قرب زحلة التي كتبها Malakka، أو البلدات الشامية (ولهجة الشام قريبة إلى اللهجة اللبنانية كما نعلم) مثل القطيفة التي كتبها بشكل Teiffa. علاوة على كل ذلك حصلت بعض الأخطاء المطبعية التي عقدت الأمر أكثر فأكثر. وقد أجتهدت في فك طلاسم هذه الأسماء وأسماء القرى والمدن، وقد أكون وفقت في بعضها، لكني عجزت عن فك رموز البعض الآخر وتشخيص أسمائها. وقد استفدت من تعليقات الملازم أول جولا هالاتشي عضو البعثة الذي قام بتصوير الكثير من محطاتها، والتي عثرت عليها كاملة محفوظة في أرشيف صور المتحف الزراعي في بودابست، إذ وضحت تعليقاته بعض النقاط الغامضة الواردة في كتاب فضل الله فيما يتعلق بأسماء بعض المواقع.

أضفت خلال قيامي بترجمة الأسطر التي قدرت أنها في حاجة إلى توضيح أكثر هوامشاً تحوي بعض التعليقات والشروح، خاصة فيما يتعلق بأحوال وخصوصيات المجر التي لا يعرف عنها القارئ العربي كثيراً، أو تلك التي اعتبرت آراء فضل الله فيها غير دقيقة أو تحتاج إلى بعض الإفاضة أو التأكيد.

لعل ترجمة هذا الكتاب المثير القيم إلى اللغة العربية ونشره هو أفضل إحتفاء بالذكرى المئوية لصدوره، وهو تذكير بقيمة ودور وأهمية ميهاي فضل الله الحداد في تأريخ تربية الخيول في المجر، ووقفة إجلال لهذه الشخصية الجديرة بالإعجاب. ولعل القاريء العربي المشرقي، اللبناني والسوري والعراقي، يجد في كتاب فضل الله متعة كبيرة، ولربما يفاجأ البعض منهم عندما يقرأ أخباراً عن أجداده مثل ترجمان فضل الله سليم درعوني المسيحي الماروني أو ملحم الدرزي الذي نجا من الجدري، أو الشيخ نايف شيخ شمر، أو عبد الله أغا الشمري العجوز الكريم.

ختاماً أود أن أتقدم بجزيل الشكر لسعادة سفير الجمهورية اللبنانية في بودابست الأستاذ حسين الموسوي لتفضله بتزويدي نسخة مصورة من كتاب فضل الله الحداد بعد أن عجزت عن الحصول على نسخة منه لندرته.

 

ثائر صالح

بوداأُرش – في 20 آب 2004



[1] E. von Löffler: „Die Österreichische Pferde-Ankauf-Mission unter dem k. k. Obersten Ritter Rudolf von Brudermann, in Syrien, Palaestina und die Wüste, in die Jahren 1856 und 1857”. Troppau, 1860.

”بعثة شراء الخيول النمسوية بقيادة العقيد الفارس رودولف فون برودرمان إلى سوريا وفلسطين والصحراء، في العامين 1856 و 1857“



ثائر صالح: مخاضات ما بعد الولادة

 
(صدرت في صحيفة الحياة، 21/2/2005)
 
لم يهدأ لي بال حتى بعد صدور ترجمتي لكتاب ميهاي فضل الله الحداد ”رحلتي إلى بلاد الرافدين وعراق العرب“ (دار كتب – بيروت 2004)، إذ كانت الترجمة حبلى بالعديد من الأسئلة والإحتمالات، وبقيت متردداً بشأن ترجمة بعض الأسماء وتحديد بعض الأحداث حتى اللحظة الأخيرة. وزادت من هواجسي الأكتشافات اللاحقة التي توصلت إليها أثناء شروعي بتهيئة النص المجري الأصلي للطبع في حلة معاصرة.
صدر الكتاب باللغة المجرية في العام 1904، وهو يروي قصة رحلة ميهاي [ميشيل أو ميخائيل] فضل الله الحداد عقيد الجيش النمسوي المجري إلى بلاد الشام والعراق على رأس بعثة لشراء خيول عربية أصيلة لحساب الجيش الامبراطوري الملكي في شتاء 1901-1902. وميهاي فضل الله الحداد (1841-1924) أحد أشهر مربي الخيول في تأريخ المجر، أصبح آمراً على بابولنا، أهم محطة لتربية الخيول في الإمبراطورية النمسوية المجرية من 1899حتى 1913 عندما تقاعد برتبة لواء. أطلعت على الكتاب لأول مرة في 1987، عندما طلب الباحث العراقي عبد الرزاق الحميري المقيم في النمسا من الباحث والكاتب المعروف علي الشوك الذي كان يقيم في بودابست آنئذ مساعدته وتعريفه بفحوى الكتاب، فقمت بالمهمة بدلاً عنه لتمكني من اللغة المجرية. فقررت عندها أن هذا الكتاب يستحق الترجمة. ثم شاءت الصدف أن أذكر الكتاب والمؤلف في كلمة لي عن بابولنا ومركز تربية الخيول فيها نشرتها صحيفة الحياة قبل أكثر من عام، ليتنبه خبير الكتب النادرة وجامع الصور المعروف السيد بدر الحاج إلى أهميته، فتكللت جهوده بصدور ترجمة هذا الكتاب في وقت قياسي بهذه الطبعة الجميلة.
يصف الكتاب ما لاقته البعثة المجرية التي نزلت البر في بيروت وسارت من دمشق إلى دير الزور عبر بادية الشام، ومنها إلى بغداد بعد أن عبرت جسر الفلوجة الخشبي المتهرئ (وقد وجدت صوراً للجسر في المتحف)، ومن بغداد إلى الحلة والعتبات الشيعية المقدسة النجف وكربلاء، ثم أخيراً في المنطقة القريبة من الدغّارة شمال شرق مدينة الديوانية نجح في اللقاء بقبائل شمر (وهي شمّر طوقة، التي حلّت في جنوب العراق ما بين الرافدين، وقد تشيّعت بخلاف شمّر الجربا القاطنة في منطقة الجزيرة بالعراق وسوريا، وهم سنة). اقتنى فضل الله أحسن الخيول من شمّر، ثم عاد إلى بغداد ليشتري خيولاً من مساعد آمر الحامية التركية في بغداد وأقفل راجعاً مع مقتنياته من الخيول العربية الأصيلة عبر المحمودية إلى البادية الشامية، ثم لبنان دون أن يمر بدمشق هذه المرة بل عبر حمص وعرّج على تل الكلخ، فوصف لنا جمال الساحل اللبناني وصفاً أدبياً بديعاً، ليرحل بحراً إلى وطنه الثاني عائداً من بيروت مروراً بالأسكندرية بعد أن قطع نحو 3600 كيلومتراً على ظهر حصان أدهم خلال 85 يوماً. والكتاب مزيج موفق ومتوازن من عدة صنوف أدبية، تجد فيه أدب الرحلات الشيق والتحليل السيكولوجي العميق للشخصية البدوية وتفاصيل علوم تربية الخيل والكثير من القصص الظريفة والتعليقات الذكية والآراء المثيرة، ويثير الموقف اللا طائفي لمؤلفه الإنتباه، وفي نفس الوقت الإعتزاز، إذ يقول: ”كان مُكاريّونا موارنة ودروز، وعندما جلت ببصري بينهم لم أفهم كيف يستطيع هؤلاء الناس الذين لا يختلفون عن بعض في شيء أن يدخلوا في قتال مرير مع بعضهم البعض، قتال اجتاحت تفاصيله الدامية والقاسية كل أوروبا بجلبته وفظائعه... لكن الكثير من الماء جرى في نهر العاصي منذ تصادم الموارنة والدروز مع بعضهم البعض. والآن انسجم الطرفان بشكل مثالي خلال الطريق، وقدموا امثولة مضيئة على الصلابة والصبر“ (ص 29). كما عثرت أثناء أبحاثي التي قمت بها عند ترجمة الكتاب على أكثر من 280 صورة فوتوغرافية أصلية التقطها الملازم أول جولا هالاتشي، أحد أعضاء البعثة، محفوظة في أرشيف المتحف الزراعي المجري في بودابست، وانتقيت من بينها صوراً لم تنشر في الكتاب الأصلي، تصور مضارب البدو أو أقارب فضل الله الحداد في بيت شباب (لبنان) أو ”ترجمانه“ الماروني اللبناني سليم درعوني.
ورغم متعتي الكبيرة بترجمة هذا الكتاب، واجهتني عوائق أشرت إلى بعضها في كلمتي التي تصدرته. فقد عانيت كثيراً أثناء ترجمة وتشخيص الأسماء العربية (الجغرافية أو أسماء الأعلام) بسبب تشوش الكاتب والخلط الذي وقع فيه أحياناً. غير أنني حصلت أثناء زيارتي لبيروت أيام دورة معرض الكتاب لتوقيع ترجمتي على فرصة نادرة لتوثيق بعض المعلومات عن فضل الله الحداد والتحقق من بعض الحوادث. فقد التقيت بعدد من شخصيات بلدة بيت شباب (محل ولادة المؤلف)، بينهم الأستاذ إلياس الأشقر عمدة بيت شباب وسعادة الوزير أسعد رزق، علاوة على الأستاذ إيلي حداد مدرس الرياضيات المتقاعد وهو أحد أقارب ميهاي فضل الله الحداد. وكانت رواية الأستاذ حداد عن التراث الشفوي المتناقل في عائلة حداد وفي بيت شباب عن إبن البلدة الشهير ذات فائدة كبيرة، إذ يغلب المصادر المجرية والأوروبية عموماً التي تتحدث عن فضل الله الحداد الطابع الأسطوري، وتفتقر إلى المعطيات الدقيقة، خاصة فيما يتعلق بحياته في لبنان قبل ذهابه إلى المجر سنة 1857 مع بعثة العقيد رودولف برودرمان التي زارت بلاد الشام لشراء الخيول. لكن لنقرأ ما قاله لي الأستاذ حداد بلهجة لبنانية جميلة: ” كان اسمه نخلة، يتيم الأب راح يجمع ديونه من الشام، أهله كانوا يشتغلون في الحرير، ومعمل الحرير يسموه عندنا الكَرْخانه، هناك يغلوا الشرانق بعد ما يربوا دود القز الذي يطعموه التوت. كل المنطقة مزروعة بالتوت، والتوت لا يحتاج إلى الماء. [والتجار] كانوا يأتون من الشام أحياناً حتى يشتروا خيوط الحرير المصنوعة بالكرخانة، وأهله كانوا يتعاطون بذلك. هناك في الشام تعرف على القنصل الإيطالي، فأخذ يعمل عنده خادماً. عندما جاء برودرمان بالخيل وكان يريحها في الساحة بالشام جفل حصان أو حصانين، فطلب برودرمان من المتفرجين، أن يمسكوا الحصان ومن يمسك الحصان يهديه يعطيه جائزة. من الجموع هجم ميشيل، نخلة، على الحصان فأمسك به وسلمه بكل رواقة، كان نخلة قبضاي، يعني حداد، عنده همّة، فأعطوه جائزة. وكان الحصان الثاني عنيفاً، فقال النمسوي إذا [ما] أمسك أحد بالحصان الثاني يعطيه جائزة أكبر. هجم عليه نخلة ومسكه من رأسه، فعضه الحصان من خده ومع ذلك لم يتركه، فبقى أثر على خده طول حياته. أعجب به برودرمان فصاح للترجمان وطلب منه أن يجلبه له ويسأله، إن كان يحب يروح معنا إلى النمسا، قال له نعم“.
وتأتي هذه الرواية لتصحح الأساطير القائلة بأن نخلة (وكتبت في المصادر المجرية Nagle) تعلق بحصانٍ باعه أبوه لبعثة برودرمان ولم يطق فراقه، فسافر معه، أو أن أباه أرسله مع البعثة خوفاً عليه لشعوره بتصاعد التوتر الطائفي الذي سبق مجازر 1860 الخ. بالمقابل، كدست الروايات اللبنانية أساطير جديدة عن حياة فضل الله الحداد في أوروبا، بذلك لا بد من تفحص الروايتين، الأوروبية واللبنانية، للخروج بسيرة فضل الله الحقيقية.
الفائدة الثانية من زيارتي لبيروت كانت اقتنائي بعض الكتب، وبينها نسخة من كتاب قرأته في طفولتي، وهو عمل لونكريك الشهير ”أربعة قرون من تأريخ العراق الحديث“ من ترجمة جعفر الخياط. فقد تمكنت أخيراً، ولو متأخراً، من تحديد اسم إحدى الشخصيات المحورية في الكتاب، وهو مساعد آمر حامية بغداد وصهر السلطان عبد الحميد الثاني الذي أسماه فضل الله Chazim Pasa. وقد فضلت ترجمته بصيغة حازم باشا، رغم ترددي الشديد حتى قبل اطلاعي على ملاحظات الملازم أول جولا هالاتشي ضمن تعليقاته على صور البعثة التي كتب فيها الأسم بصيغة Kazim Pasa، أولاً لأطمئناني إلى معرفة فضل الله الحداد للغة العربية، ثانياً، لأن حرف Ch يستعمل تقليدياً لكتابة حرف (ح) العربي والعبري كذلك، وقيمته الصوتية (خ)، وقد استعمله الكاتب في تدوين اسم طباخ البعثة النباتي، الشيعي  اللبناني Chalil، الذي قدّرت أنه يقابل الأسم العربي خليل. بعد كل هذا وجدت في كتاب لونكريك الهامش التالي على صفحة 373 دون أن تصبني أدنى مفاجأة: ”كاظم باشا: أخو زوجة السلطان عبد الحميد، وقد أبعد إلى بغداد لأسباب سياسية، فكان فيها قائداً للخيالة“، فكان الصواب مع هالاتشي مجدداً. هل كان فضل الله الحداد يستعمل الأبجدية الإيطالية التي أجادها في صباه، حيث يقابل حرف Ch حرف ك العربي؟ كان كاظم باشا (حازم باشا في الكتاب) من باع لفضل الله عدداً من أحسن الخيول، وبينها الحصان صقلاوي بغدادي الذي أخذه الجيش الروماني الذي ساهم في القضاء على ثورة 1919 الاشتراكية وجمهورية المجالس المجرية، كغنيمة حرب.
كلما تعمقت في قصة فضل الله الحداد أكثر فأكثر، يزداد اهتمامي بهذه الشخصية الفذة التي دخلت التأريخ، ويتعزز تصميمي على إعطاء الرجل ما يستحق من اهتمام، عبر تعريف القارئ العربي والمجري على حد سواء بتراث إبن بلدة بيت شباب اللبنانية الذي قدم إلى المجر قبل ما يقرب من قرن ونصف قرن من الزمان ليصبح بطلاً قومياً مجرياً، وعلماً من أعلام تربية الخيول في العالم أجمع.





كرتيس، إمره: لا مصير. دار المدى للنشر، دمشق 2005





كرتيس، إمره: الراية الانجليزية / المحضر. دار المدى للنشر، دمشق 2005





بابيتش، ميهاي: ابن الراهب. دار نون للنشر، الشارقة 2014




كارويي، اوتّو: مدخل الى الموسيقى. دار نون للنشر، الشارقة 2014










ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بحث هذه المدونة الإلكترونية

صدر مؤخراً

بارتوك وتجميع الموسيقى الشعبية

الجذور كان الموسيقي المجري البارز بيلا بارتوك (1881 - 1945) من بين أوائل الباحثين الذين وضعوا أسس علم الموسيقى الشعبية (Ethnomusicology)، وك...