مقدمة الكتاب
عُرف الشعب المجري بحبه للخيل
والفروسية منذ القدم، وكان الفرسان المجريون من أشجع وأقوى المقاتلين قبل أكثر من
ألف عام. وهم الذين ابتدعوا سلاح الفرسان الخفيف سريع الحركة (هوسار Huszár) في
مقابل الفارس الأوروبي التقليدي المثقل بالأسلحة والدروع التي تعيق الحركة
والمناورة.
لكن لا يوجد فارس من دون فرس،
لذلك اهتم المجريون بتربية الخيول. ولهذا اختار الامبراطور النمسوي اسطبلات المجر
تحديداً لتكثير وتحسين نسل الخيل. وبين أهم هذه الأماكن تشتهر بلدة بابولنا Bábolna الصغيرة
الواقعة غربي العاصمة بودابست على الطريق السريع المؤدي إلى النمسا بتربية الخيول
العربية الصحراوية الأصيلة، وبتطوير زراعة الأعلاف وبالذات الذرة الصفراء التي
تحولت إلى ”صناعة“ زراعية في العقود الأخيرة من القرن العشرين.
ورد ذكر هذا التجمع السكني
للمرة الأولى في العام 1268، واتخذ اسم عائلة النبلاء الذين امتلكوه: بابوناي. لكن
المنطقة أقفرت أثناء الاحتلال العثماني ولم تعد إليها الحياة الا في زمن يوزف
الثاني امبراطور النمسا (1741-1790)،
الذي أمر في العام 1789 ببناء
اسطبل لتربية الخيول التي يحتاجها الجيش، وأختير قصر ساباري Szapáry
ليكون مركزاً لذلك الاسطبل، وهو قصر شيد في بداية القرن الثامن عشر، ويعد حالياً أقدم مبنى
في المدينة.
وعانى القصر من تقلب أحوال
الدهر، فقد أمر نابليون بإحراقه مع كل الاسطبلات بعد احتلالها سنة 1809 في أعقاب
معركة جور Győr، وذلك انتقاماً من الجيش النمساوي - المجري الذي تمكن من نقل كل
الخيول من هذا الموقع إلى مكان آخر أكثر أمناً.
وحلّ كثير من السياسيين
والشخصيات المعروفة في القصر منذ ذلك الحين. وفي الأزمنة الحديثة، خلال العهد
الاشتراكي، استضاف قادة وسياسيين من حلفاء المجر وقتها مثل الزعيم السوفياتي
نيكيتا خروتشوف.
ولا تزال بابولنا الآن مركزاً مهماً
من مراكز تربية الخيول، وتحولت الثكنة العسكرية المجاورة للقصر إلى فندق أفتتحت
حوله متاحف للخيول والصيد والعربات. وجرى التركيز في الفترات الأخيرة على السياحة،
فأصبحت المنطقة مقصداً لمحبي الخيول، ومركزاً للمؤتمرات العالمية عن الفروسية، اذ
يعقد مؤتمر عالمي كل سنتين في نهاية أيار أو بداية حزيران. وينظم في بابولنا سباق
عالمي لقفز الخيول في 20 آب من كل عام.
في البداية جرى تكثير خيول من
سلالات اسبانية وترانسلفانية ومولدافية، وتقرر في العام 1816 تربية الخيول العربية
والشرقية فقط. جاء هذا
القرار بالعكس من التوجه الأوروبي العام لإعتماد الخيول الأنكليزية بعد تفوقها على
الخيول العربية والإسبانية التي استعملها الفرنسيون في حروب نابوليون. بهذا أصبحت
المجر عامة وبابولنا بالخصوص أحد أهم مراكز تربية الخيول العربية الأصيلة في
أوروبا. ولهذا الغرض أرسل
الجيش النمسوي إلى بلاد الشام والعراق العديد من البعثات لشراء أفضل الخيول. وحصلت
الاسطبلات في العام 1836 على حصان من سورية اسمه شاجيا Shagya
تميز بخصائص الجمال والذكاء والقوة، فأصبح نقطة انطلاق لسلالة اشتهرت على صعيد
عالمي باسم حصان شاجيا العربي أو جواد بابولنا العربي.
ورغم الاقتصار حالياً على
تربية سلالة حصان شاجيا، فان بابولنا أنجبت كذلك خيولاً عربية أصيلة وشهيرة من نسل
كحيلان وغزال وعبيان وصقلاوي وغيرها. وفاز كثير من خيول بابولنا بالجوائز الاولى
في السباقات العالمية مثل معرض باريس الدولي سنة 1900.
ويستمر الجهد الدؤوب لتربية
خيول نبيلة إلى يومنا هذا، ولم يتراجع عدد الخيول حتى بعد التغيرات السياسية في
1989-1990 كما حصل مع الثروة الحيوانية عموماً في المجر. ففي 1989 كان عدد الخيول
74 ألفاً ارتفع في 1995 إلى 87 ألفاً. ويذكر أن عدد الخيول في أراضي الامبراطورية
النمسوية-المجرية بلغ مليوني جواد في نهاية القرن التاسع عشر، وكانت تسيطر على
صناعة تنسيل الخيول في أوروبا.
كانت بعثة الفارس رودولف فون برودرمان Rudolf Ritter von Brudermann (1810-1889) من أشهر البعثات، وقد وصلت بيروت في تشرين
الاول 1856، وتجولت في لبنان وسورية وفلسطين لشراء أفضل الخيول. وبرودرمان هو ضابط نمسوي وصل رتبة
لواء أصبح آمراً على بابولنا لفترة قصيرة بعد عودته في 1857 حيث نظّم زراعة
الأعلاف للخيول بشكل صحيح وأصلح من مناطق الرعي. ونعرف الكثير عن هذه البعثة من
خلال كتاب ألفه أحد أعضائها وهو أدوارد فون لُفلَر Eduard von Löffler[1] الذي صدر في العام 1860، فقد دون فيه أخبار البعثة والكثير من
المعلومات عن البدو وعاداتهم وطرق تربيتهم الخيول. وحسب وثائق البعثة، كانت المهرة ”حمدانية“ أول ما
اقتنته من قبيلة بني شاكر، وفي غزة وجنين اقتنت المزيد، وتجولت في مضارب ولد علي
وعنزة وغيرهما من القبائل البدوية المهتمة بتربية الخيول العربية الأصيلة.
أما بعثة ميهاي [ميخائيل] فضل
الله الحداد في العامين 1901-1902 فقد تميزت عن سابقاتها بتوغلها عميقاً في بلاد
العرب (العراق) وجلبها لعدد من الخيول الممتازة. وألف فضل الله هذا الكتاب الذي صدر
في بودابست العام 1904 عن البعثة تلك، وفيه وصف لأحوال بلاد الشام والعراق آنذاك.
وقد وصلت البعثة إلى تخوم الصحراء عند مدينة النجف، وجالت في ريف ما بين دجلة
والفرات (المناطق الواقعة بين الديوانية والكوت) فاشترت خيولاً من قبائل شمّر وأقامت
في بغداد فترة من الزمن. وقد سافر فضل الله الحداد قبل ذلك مرات عدة إلى الشرق
الأوسط لجلب المزيد من الخيول، وأثبتت معرفته اللغة والعادات المحلية فائدة كبيرة
لا تقل عن فائدة خبرته العميقة في تربية الخيول.
عانت بابولنا ومحطة تربية
الخيول فيها كثيراً من الحروب، إذ علاوة على إحراقها من قبل نابليون وتأثرها بسبب
الثورة التحررية التي قام بها المجريون في 1848-1849 للتحرر من النير النمسوي، جلبت
الحرب العالمية الأولى وما تلاها من سنوات مضطربة إبان ثورة 1919 الإشتراكية
والحرب التي تلتها وإحتلال الجيوش الأجنبية للمجر للقضاء على الثورة الكثير من
المصاعب وقلصت من قوام خيولها (على سبيل المثال أخذ الجيش الروماني الذي ساهم في
القضاء على ثورة 1919 الحصان صقلاوي بغدادي الذي جلبه فضل الله معه من بغداد). وتمكن
الجنرال تيبور بتكو-سانتنرPetkó-Szandtner
Tibor من إعادة بناء المركز بعد 1932 وأحيائه خلال
سنوات قبل أن تأتي الحرب العالمية الثانية بدمارها الشديد. وقد استعادت بابولنا
بعض خيولها في 1948، غير أن الزمن الذهبي لبابولنا كان قد انقضى. ومن الجدير
بالذكر أن تيبور بتكو-سانتنر شخصية معروفة في الدول العربية، فقد أدار الجنرال سانتنر الإسطبلات الملكية في مصر بعد الحرب العالمية
الثانية، وهو الذي نقل الخيول النجدية إلى القاهرة وحافظ عليها وكثّرها في
الزهراء، فأصبحت تعرف بنوع الأصيل.
وتلخص المتاحف التي أُقيمت في
بابولنا هذا التأريخ الحافل، وتتحدث عن الجهد الكبير الذي بذل في تربية وتكثير
الخيول العربية الأصيلة. ونجد في متحف الخيول الجوائز التي فازت بها أشهر خيول
بابولنا، والوثائق والكتب المتعلقة بتربية الخيول، وصوراً أصلية قديمة للخيول التي
جلبت من البلاد العربية، والهيكل العظمي لـ ”امبريال“ أحد أشهر الخيول. وخصصت قطعة
من الأرض مقبرة للخيول، وتحولت إلى حديقة تذكارية يزورها السواح من جميع أنحاء
العالم، وهي موقع لا نجد له مثيلاً في أوروبا.
دخل فضل الله المدرسة
العسكرية بتشجيع ودعم من برودرمان، وتخرج منها وتعلم اللغة المجرية بشكل ممتاز
تشهد عليه لغة الكتاب، لكنه حافظ على لغته الأم وحبه لبلده الأم لبنان والعرب
عموماً، ويتجلى ذلك في العديد من مواقع الكتاب. قام بعدة رحلات إلى الشرق الأوسط
وتركيا لشراء الخيول تحدث عنها باقتضاب في مقدمة كتابه. وقد زار لبنان وقريته بيت
شباب خلال هذه الرحلات، والتقى بأقاربه. وقد عثرت بين صور بعثة 1901-1902 على
العديد من الصور التي التقطت له مع أقاربه في بيت شباب، منها صورة لأربعة من
أعمامه، وهم زندي [Zenedius] ومرقس ويوسف وأبراهيم، وهناك
صور أخرى مع أقاربه نقولا وميشيل وإيلي وداود من عائلة حايك Haig،
وآل حايك هم أخوال فضل الله الحداد.
خدم فضل الله في العديد
من مزارع واسطبلات تربية الخيول في المجر، واستقر أخيراً في بابولنا، وهي أهمها،
ثم أصبح آمرها في 1899 إلى أن تقاعد في سنة 1913 برتبة لواء. أصبح فضل الله معلماً
من معالم تربية الخيول في المجر، ويعود له الفضل في تحول بابولنا إلى واحدة من أهم
مراكز تكثير الخيول العربية الهجينة والأصيلة في أوروبا. توفي فضل الله في بابولنا
سنة 1924 وهو في الحادية والثمانين ودفن فيها، ولا يزال قبره هناك.
وتتميز آراؤه عن البدو
وطريقة تفكيرهم بالكثير من الأصالة والخبرة العميقة وفهم النفسية البدوية والعربية
عموماً. وتجلى ذلك في الحديث عن خبرته الغنية في أسلوب التعامل معهم. كما اهتم
بشرح أحوال المسيحيين الموارنة في لبنان – وهو واحد منهم – وبالدروز، ويعتبر
الطائفتين من نسل الفينيقيين القدماء.
ويتميز الكتاب بموضوعيته،
وقد عرض فضل الله علينا صورة واقعية لحال هذا الجزء من المشرق العربي في بداية
القرن العشرين دون تزويق أو تجميل. وقد أعجبته مناظر كثيرة دوّن انطباعاته عنها،
مثلما دوّن انطباعاته عن مناظر أخرى لم تعجبه. وكتاب فضل الله من الكتب المشوقة
التي تجعل المرء ينكب على قراءتها في جلسة واحدة حتى لو امتدت القراءة الممتعة حتى
الصباح.
اصطدمت عند ترجمتي لهذا
الكتاب الممتع بعقبة غير متوقعة، فقد سبب لي التشوش في كتابة الأسماء العربية
بالحروف اللاتينية مصاعب جمة. ومرد ذلك إلى أسباب ثلاثة برأيي، أولها خلط فضل الله
بين النظام الكتابي المجري والألماني، فتارة يستعمل حرف sz
المجري، وتارة أُخرى حرف s الألماني للدلالة على حرف
السين العربي، بالمقابل يستعمل حرف s
في الأبجدية المجرية لكتابة حرف الشين الذي يكتب بالألمانية sch
(وهو يستعمل أحياناً sh الإنكليزية للدلالة على نفس
الصوت!) فيأتي التشوش مضاعفاً عندئذ، خاصة عند كتابته أسماء الخيول التي غالباً ما
كتبها بالحرف الألماني، دون أن ينبذ تماماً استعمال الحروف المجرية.
السبب الثاني
هو استعماله لعدة أشكال كتابية عند الإشارة إلى أسم واحد، فقد ورد مثلاً اسم نسل
صقلاوي بعدة صيغ، منها Siglavy و Seklavy.
ويتكرر الأمر عند كتابته بعض الأسماء والمناطق والمدن العربية أيضاً. ويعود هذا
الخلل جزئياً إلى عدم وجود نظام معتمد لكتابة الأسماء الأجنبية باللغة المجرية
آنئذ كما هو الحال الآن، فقد جرى الإتفاق في أكاديمية العلوم المجرية على كيفية
كتابة الأسماء والكلمات العربية بالحرف المجري.
أما السبب
الثالث فهو يعود إلى قدرات فضل الله في فهم الأسماء العربية، خاصة في اللهجة العراقية
ولهجة حوض الفرات والبادية الشامية القريبة من اللهجة العراقية الغريبة على الإذن
اللبنانية. لكن كتابة الأسماء بشكل مشوه حدث أحياناً حتى مع أسماء البلدات
اللبنانية مثل المعلقة قرب زحلة التي كتبها Malakka،
أو البلدات الشامية (ولهجة الشام قريبة إلى اللهجة اللبنانية كما نعلم) مثل
القطيفة التي كتبها بشكل Teiffa. علاوة على كل ذلك حصلت بعض
الأخطاء المطبعية التي عقدت الأمر أكثر فأكثر. وقد أجتهدت في فك طلاسم هذه الأسماء
وأسماء القرى والمدن، وقد أكون وفقت في بعضها، لكني عجزت عن فك رموز البعض الآخر
وتشخيص أسمائها. وقد استفدت من تعليقات الملازم أول جولا هالاتشي عضو البعثة الذي
قام بتصوير الكثير من محطاتها، والتي عثرت عليها كاملة محفوظة في أرشيف صور المتحف
الزراعي في بودابست، إذ وضحت تعليقاته بعض النقاط الغامضة الواردة في كتاب فضل
الله فيما يتعلق بأسماء بعض المواقع.
أضفت خلال
قيامي بترجمة الأسطر التي قدرت أنها في حاجة إلى توضيح أكثر هوامشاً تحوي بعض
التعليقات والشروح، خاصة فيما يتعلق بأحوال وخصوصيات المجر التي لا يعرف عنها
القارئ العربي كثيراً، أو تلك التي اعتبرت آراء فضل الله فيها غير دقيقة أو تحتاج إلى
بعض الإفاضة أو التأكيد.
لعل ترجمة هذا الكتاب المثير
القيم إلى اللغة العربية ونشره هو أفضل إحتفاء بالذكرى المئوية لصدوره، وهو تذكير
بقيمة ودور وأهمية ميهاي فضل الله الحداد في تأريخ تربية الخيول في المجر، ووقفة
إجلال لهذه الشخصية الجديرة بالإعجاب. ولعل القاريء العربي المشرقي، اللبناني
والسوري والعراقي، يجد في كتاب فضل الله متعة كبيرة، ولربما يفاجأ البعض منهم عندما
يقرأ أخباراً عن أجداده مثل ترجمان فضل الله سليم درعوني المسيحي الماروني أو ملحم الدرزي الذي نجا من الجدري، أو الشيخ نايف شيخ شمر، أو عبد الله أغا الشمري
العجوز الكريم.
ختاماً أود أن أتقدم
بجزيل الشكر لسعادة سفير الجمهورية اللبنانية في بودابست الأستاذ حسين الموسوي لتفضله
بتزويدي نسخة مصورة من كتاب فضل الله الحداد بعد أن عجزت عن الحصول على نسخة منه
لندرته.
ثائر صالح
بوداأُرش – في 20 آب 2004
[1] E. von
Löffler: „Die Österreichische Pferde-Ankauf-Mission unter dem k. k. Obersten
Ritter Rudolf von Brudermann, in Syrien, Palaestina und die Wüste, in die
Jahren 1856 und
”بعثة شراء
الخيول النمسوية بقيادة العقيد الفارس رودولف فون برودرمان إلى سوريا وفلسطين والصحراء،
في العامين 1856 و 1857“
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق