السبت، 31 يوليو 2021

الاذن المطلقة

 

الاذن المطلقة 

 


يمتلك عدد قليل من الناس القدرة على تمييز طبقة أو درجة الصوت دون الحاجة إلى معرفة الطبقة (الدرجة) القياسية. بعبارة أخرى سيتعرف الشخص على النغمة فوراً دون أن يحتاج إلى مقارنتها بصوت قياسي (وهو عادة نغمة لا وقيمتها الترددية 440 هرتس). تسمى هذه الظاهرة الاذن المطلقة أو السمع المطلق، وهي ترجمة للمصطلح الأوروبي الذي يقابلها. لا يشترط أن يمتلك الموسيقيون هذه الصفة بالطبع، فالظاهرة الأخرى المسماة الاذن النسبية أو السمع النسبي، هي الشائعة بين الموسيقيين، وهي تأتي عبر تدريب قدرات الاذن على التمييز بين الأصوات. ويعتبر ودرس الصولفيج الشهير في المعاهد الموسيقية أحد أهم هذه التدريبات، يكمن جوهره في تعليم القراءة الشفاهية للنوطة وقراءة الأصوات. التدريب المهم الآخر هو درس السماع الموسيقي والغناء في كورس مع الآخرين.

لكن ما السر الكامن وراء هذه الظاهرة النادرة؟ لا يوجد تفسير دقيق لها، ويعتقد بعض الباحثين بالأسباب الوراثية، ويعتقد آخرون بأن الجميع يولدون بهذه القابلية وما علينا سوى الحفاظ عليها من الضياع وتنميتها بالتدريب. لكن الخبرة تقول بأن نسبة من يتمتع بها بين الأطفال الذين يتلقون تدريباً موسيقياً قبل الرابعة (أو السادسة) من العمر هي أعلى بكثير من أقرانهم على العموم. وتدل أبحاث الدماغ أن الأمواج التي تنبعث من منه تشير إلى نشاط أقل في عملية استخراج المعلومات المخزونة ومقارنتها بالمعلومات الجديدة، فمن يتمتع بالسمع المطلق يستعمل خزين الذاكرة بدرجة أقل.

هناك مجموعة خاصة هم من يستطيع تحديد الصوت القياسي (لا) في ذهنه بدقة، ويحدد باقي الأصوات بمقارنتها مع هذه الدرجة. لهذا السبب أدخل الباحثون مفهوم سرعة التعرف على الصوت عند بحث السمع المطلق للتمييز بين هذه المجموعتين. هذا الفارق يقودنا إلى الحديث عن أنواع السمع المطلق: فهناك من يستطيع تمييز درجة الأصوات بغض النظر عن طبيعتها موسيقية أو صوت محرك السيارة أو ارتطام جسم بالأرض. وهناك من يستطيع تمييز الأصوات التي تصدرها الأداة الموسيقية التي يعزف عليها بسهولة، بينهما يصعب عليه تمييز أصوات أداة موسيقية أخرى. على العموم، التعرف على سلم دو الكبير بالنسبة لمن تربى على الموسيقى الغربية أسهل بسبب التمرين المستمر، هذا يعني معرفة أصوات المفاتيح البيضاء في البيانو، بينما يصبح التعرف على أصوت المفاتيح السوداء أصعب.

نعرف من تاريخ الموسيقى بعدد كبير من المؤلفين المشهورين الذين تمتعوا بهذه القدرة الفائقة، قد يكون موتسارت أحدهم، فقد علق ذات مرة أن كمان عائلة أصدقاءه لا يزال منصوبا بربع صوت أقل مثلما كان عند الزيارة السابقة. أما بيلا بارتوك فكان قادراً على تسمية نغمات البيانو وهو في الغرفة الثانية، وكان قادراً على تمييز كوردات (مركبات صوتية) بسيطة بالسماع. وقد ساعدت هذه القدرة الفائقة بارتوك كثيراً في تجميعه للموسيقى والأغاني الشعبية. من ناحية ثانية كان بارتوك حساساً تجاه للغاية ما يصدر من أصوات في محيطه. فحتى صوت راديو الجيران الذي تسرب خافتاً عبر السقف كان يزعجه، لذلك "ابتكر" وسيلة أسماها ماكنة الضجيج تصدر أصواتا دونما درجة معينة ومحددة كي يطمس الأصوات القادمة من الطابق الأعلى. ونعرف أن الحساسية المفرطة تجاه الصوت قد تكون واحدة من علامات أمراض التوحد، وهناك إشارات إلى احتمال مرض بارتوك بدرجة ما من طيف مرض التوحد.

تشير الأبحاث الى ارتباط اللغة والسمع المطلق بالجانب الأيسر من الدماغ، هذا يأخذنا إلى تأثيرات طبيعة اللغة الأم على القدرات الموسيقية للطفل. أبرز من بحث هذه الظاهرة العالمة الإنكليزية - الأمريكية ديانا دويتش (1938، جامعة كاليفورنيا - سان دييغو). أثبتت دويتش العلاقة بين نوع اللغة والاذن المطلقة عند مقارنة المتحدثين باللغة الإنكليزية والمتحدثين باللغات المتميزة باستعمال التلحين، مثل لغة الماندرين الصينية أو اللغة الفيتنامية حيث تبلغ نسبة من يتمتع بالسمع المطلق أعلى بكثير من أقرانهم الأمريكان. فقد أجرت دراسة على طلبة روتشستر إيستمان للموسيقى في نيويورك وطلبة الكونسرفاتوار المركزي في بكين، وتبين أن من يمتلك هذه القدرة بين من بدأ دراسة الموسيقى بعمر 3 - 4 سنوات في نيويورك كان 14% مقابل 60% من الصينيين. لكن عند مقارنة من بدأ دراسة الموسيقى في أعمار 6 – 7 سنوات كانت هذه النسبة 6% مقابل 55%. واستمر البحث بدراسة من بدأ تعلم الموسيقى متأخراً عن هذه الأعمار فوجدوا نسبة تقرب من الصفر مقابل 42% بين الصينيين. 

ويقول المتخصصون في فيلولوجيا اللغات الشرقية بوجود أربعة أنماط من الانسيابية الصوتية أو التوكيد في لغة الماندرين واستعمالها المختلف يعطي معانٍ مختلفة عند استعمال نفس المقطع. وتزداد هذه الأنماط عند النزول صوب الجنوب، فيصبح العدد 8 أو 9 في اللغة الكانتونية، و9 – 10 في اللغة الفيتنامية. وأذكر أنني حاولت مرة أن أنطق كلمة مثلما كان ينطقها زميل فيتنامي، لكني توقفت عن المحاولة بعد دقائق لأنني عجزت عن قولها بشكل صحيح رغم تكراري نطقها بعده، إذ لم أتمكن من سماع الفارق في اللحن.

ارتباطاً بالحديث عن اللغة والموسيقى، نعرف أن موريس رافيل قد أصيب بمرض عصبي أثر على قدرته في التعبير اللغوي – الكتابي ولاحقاً الموسيقي، وهي الفترة التي ألف فيها عمله الغريب بوليرو، عندما فشل النصف الأيسر من الدماغ تحويل الأفكار الموسيقية المتولدة في النصف الأيمن إلى إشارات موسيقية، مثلما تعذر عليه كتابة أفكاره على الورق.

المثال المعاكس هو فقدان السمع، ففي حالة بيتهوفن ساعد السمع المطلق ونشاط الدماغ الموسيقي على استمراره بتأليف روائع الأعمال الموسيقية حتى بعد اقترابه من الصمم الكامل، رغم اننا لا نستطيع الجزم بامتلاك موتسارت أو بيتهوفن ملكة السمع المطلق بسبب حداثة العلم الذي يدرس هذه الظاهرة. إذ لم يبدأ الاهتمام بها إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأعطى التطور العلمي التقني في القرن العشرين دفعة لهذا البحث، خاصة مع ظهور تقنية الرنين المغناطيسي عند مراقبة نشاط الدماغ عند التعرض لمختلف المؤثرات.

الدفعة الحقيقية للبحث في التفكير والموسيقى جاءت بعد تطور تقنيات فحص الدماغ مثل التصوير بالرنين المغناطيسي والتوموغرافيا الكومبيوترية وتوموغرافيا الانبعاث البوزيتروني (MRI - CT - PET) التي تصور المخ أثناء عملية النشاط الدماغي. يرى العلماء إن تعامل الدماغ مع الموسيقى هو عملية غاية في التعقيد، وقد تكون أعقد عملية يقوم بها الدماغ استناداً إلى اشتراك أجزاء متعددة منه فيها لا علاقة لها ظاهرياً بالسمع. وهنا وجد العلماء اختلافات كبيرة في نشاط المخ بين السماع المطلق والنسبي، لكن تفسير ذلك وفهمه لا يزال بعيداً عن المنال. مثلاً يبلغ حجم المنطقة القشرية المرتبطة باللغة والموسيقى (Planum Temporale) في النصف الأيسر من المخ أضعاف حجمها في النصف الأيمن، لكن الاختلاف بين الاثنتين أكبر بكثير عند أصحاب السمع المطلق.

ويعرف العلم نسبة أعلى من أصحاب الأذن المطلقة بين من يعاني من أمراض معينة، مثل فقدان حاسة أخرى كالبصر، كذلك ترتفع نسبتهم في حالة بعض الأنواع من التوحد كما ذكرت في مثال بيلا بارتوك. وتؤثر الأمراض الاعتيادية مثل الزكام أو الانفلونزا على إداء أصحاب الأذن المطلقة، كأن يتصور السلم الموسيقي عندهم على نصف درجة مثلاً، وهو أمر مربك لهم لحين شفائهم وعودة الإدراك الى مستوياته السابقة.

من جانب آخر قد ينزعج أصحاب الاذن المطلقة عند سماع ما يسمى الإداء التاريخي لعصر الكلاسيك أو الباروك، عندما تدوزن الأدوات بتردد أوطأ، مثلا بنصف درجة (أي 432 هرتس بدلا من440 هرتس المعتادة). عندها تقع السلالم الموسيقي التي اعتادوا عليها في مكان آخر. ويصف بعض عازفي البيانو حالة الارتباك عندما يجلسون عند بيانو تغيرت درجته أو نصب على درجة مختلفة فلا يتطابق الصوت الذي يسمعونه مع المفتاح الذي يضربون عليه. ويروى عن الموسيقار المجري أرنو (أرنست فون) دوهناني (1877 – 1960) قدرته على تصوير أي عمل في ذهنه على درجة أخرى وإدائه على البيانو مع الأوركسترا دون صعوبة حتى مع تغير موقع الأصابع وترتيبها بسبب اختلاف النغمات البيضاء والسوداء، وهذا إنجاز ذهني هائل. وقد يختلف مستوى هذه القدرة كذلك مع تقدم العمر، ويقال إن عازف البيانو الشهير سفياتوسلاف ريختر عاد إلى استعمال المدونة الموسيقية في أواخر عمره بعد أن كان يؤدي من الذاكرة بسبب تغير موقع الطبقات الموسيقية في ذهنه.

ختاماً أشير إلى أن هذه الملكة موجودة في كل الأنظمة الموسيقية. وقد ذكر لي الصديق جميل جوزي الكوران أحد مخضرمي فرقة الانشاد العراقية الشهيرة عن امتلاك الفنان الراحل روحي الخماش هذه القابلية الفريدة. هذا يعني معرفة كل الأبعاد العربية المرهفة المبنية على أساس السلم الموسيقي الطبيعي وأجناس المقامات التي ابتكر أصلها الموسيقيون السومريون وحفظها لنا الموسيقيون البابليون ومن تلاهم حتى اليوم.


 صدرت في صحيفة المدى بثلاث حلقات بين 20 حزيران و 4 تموز 2021

 

الجمعة، 30 يوليو 2021

بغداد أمس


سوميخ، ساسون: بغداد أمس. ترجمة د. محمود عباسي.
دار المشرق، شفاعمرو 2011


مؤلف هذا الكتاب النادر والمفيد هو أحد أهم الباحثين في الأدب العربي الحديث، على الخصوص أدب الكتاب المصريين الكبار نجيب محفوظ ويوسف إدريس وغيرهم. ولد البروفيسور ساسون سوميخ في بغداد ودرس في مدرسة مدام عادل الاهلية ثم تخرج سنة 1950 من مدرسة شماش التابعة للطائفة اليهودية (الموسوية كما كانت تدعى آنئذ) قبل أن يهاجر إلى إسرائيل ربيع 1951. تعرفت على المؤلف خلال مؤتمر عالمي أقامه قسم اللغات العربية والسامية في جامعة بودابست للعلوم صيف العام 1995. وصلنا قاعة المؤتمر متأخرين، فجلسنا وكان البروفيسور ساسون سوميخ يقدم بحثاً عن الأدب العربي الحديث باللغة الانكليزية. لكننا انتبهنا إلى لكنته العراقية عندما قرأ نماذج شعرية. عندما ذهبنا لنتعرف عليه بادر إلى القول "تره آني هم عراقي من جماعتكم".


ساسون سوميخ (1933 – 2019)

شغل البروفيسور سوميخ كرسي الأدب العربي في جامعة تل أبيب لسنوات طويلة، حصل على الدكتوراه من جامعة اوكسفورد العام 1968 في اطروحة كتبها عن أدب نجيب محفوظ صدرت في 1973 عن دار بريل الهولندية الشهيرة. يعيش اليوم في رامات گان قرب تل أبيب وينشط في دعم اللغة العربية في اسرائيل وهو من الأعضاء المؤسسين لمجمع اللغة العربية (ومقره في حيفا)، كما تفرغ للتأليف والبحث فصدرت له مؤخراً في 2012 سبعة كتب هامة بينها كتاب "ملامح اسلوبية جديدة في الأدب العربي الحديث" (مجمع اللغة العربية، حيفا 2012)، كما نشط كذلك في ترجمة الأدب العربي إلى اللغة العبرية، ومن آخر ترجماته عدد من قصائد محمود درويش ستصدر قريباً في كتاب. تنادى مع عدد من المثقفين بينهم الكاتبان سامي ميخائيل وشمعون بلاص، البروفيسور يهودا شنهاب والعديد من الأكاديميين ورجال الأعمال المولودين في العراق لتشكيل جمعية الدفاع عن الشعب العراقي في اسرائيل سنة 1998 عندما عزّ الصديق، وتسابق العالم كله لمعاقبة الشعب العراقي بجريرة حاكمه. وجاء في البيان التأسيسي للجمعية "يرمي هذا التنظيم إلى إقامة الجسور الدائمة مع الأوساط العراقية المعارضة التي تعمل الآن في الغرب، وإلى التذكير بالتجربة الحياتية المشتركة التي كانت تجمع اليهود وغير اليهود في بلاد الرافدين حتى الهجرة الجماعية التي تمت في أوائل الخمسينيات". ومن مفارقات القدر رفض السلطات الاسرائيلية تسجيل الجمعية رسمياً بحجة الخوف من تحولها إلى وكر تجسس لحساب صدام!

اطلعت على كتاب مذكراته "بغداد أمس" قبل نحو عشر سنين بترجمته الانكليزية، وترجمت منه فصلاً نشر في صحيفة المؤتمر الصادرة في لندن آنئذ في أيار 2002، بعنوان مقهى بغداد - شارع الرشيد 1950 (ونشر الشاعر فوزي كريم نفس الفصل في مجلة اللحظة الشعرية سنة 2009). تحدث البروفيسور سوميخ فيه عن مدرسته شماش التي تقع في منطقة الميدان مقابل جامع الحيدرخانة بجوار مقهى حسن عجمي الأسطورية، وعن أساتذته فيها الشهيد حسين مروة (اغتيل في 1988) ومحمد شرارة (توفي في 1979) وعن لقائه بالجواهري الكبير وعلاقته ببدر شاكر السياب وانشغاله بالأدب والصحافة آنئذ.

أما الترجمة العربية الحالية فقد أنجزها صاحب مجلة الشرق الأدبية د. محمود عباسي، وهو من الكتاب العرب المعروفين في اسرائيل، من نفس جيل البروفيسور ساسون سوميخ، أو أصغر منه بسنتين أو ثلاث سنوات. صدرت هذه المذكرات عن دار المشرق في شفاعمرو العام 2011 مع ملحق بعدد من الصور التاريخية التي تصور حياة عائلة سوميخ. وكان المؤلف قد نشر فصولاً من كتابه هذا باللغة العبرية في الملحق الأدبي لصحيفة ها آرص بين 2000 - 2003. وصدرت الترجمة الإنكليزية في سنة 2007 عن دار نشر إيبيس، لندن. وتبع هذه المذكرات الجزء الثاني الذي يصف حياة هذا الشاب اليهودي العراقي في اسرائيل بعد هجرته اليها بعنوان "الحياة بعد بغداد".

لعل أهم ما في هذه المذكرات المثيرة - إلى جانب قيمتها الفنية الأدبية واسلوبها الساحر - هو قيمتها التوثيقية لحال بغداد في مرحلة نهاية الأربعينات. فيتحدث عن مجتمع متعدد الطوائف والأديان وعن العلاقات التي تسود بينها، ويفصّل في مساهمة اليهود في المجتمع العراقي آنئذ، وعلاقاته بأقرانه من التلاميذ، والفورة الأدبية لسنوات ما بعد الحرب، وظهور الأساليب الشعرية الجديدة. كما يتناول بشيء من التوسع وثبة كانون والضربات التي تلقاها الحزب الشيوعي وقادته بعد الوثبة، ويتحدث بالتفصيل عن خلفيات قرار غالبية اليهود تسقيط الجنسية والهجرة إلى اسرائيل بعد أن بدأوا يشعرون باستحالة مواصلة حياتهم السابقة.

يتكلم سوميخ عن علاقاته بالأدباء الشباب ولقاءاتهم في مقهى حسن عجمي القريب من المدرسة، ومحاولاته الصحفية والأدبية وترجماته من الإنكليزية التي كان ينشرها في صحف بغداد مثل صدى الأهالي (صحيفة الجادرجي) والنبأ والنديم (لصاحبها الصحفي والناشر محمد حسن الصوري، وقد تعرفت عليه عن طريق الأديب عبد الغني الخليلي عندما استضافنا في برلين سنة 1980). وعن أيامه الأخيرة في بغداد يحدثنا سوميخ عن لقائه الشاعرين رشيد ياسين وعبد الرزاق عبد الواحد، مع آخرين من الشعراء الشباب في مقهى حسن عجمي قبل هجرته لتوديعهما، ويقول انه عاهدهما بعدم نسيان الصداقة، "والقسم بالبقاء على وفائي للغة العربية. لقد أقسمت وأعتقد أنني وفيت بقسمي" (ص 143). كما زار صديقه الشاعر الدكتور أكرم الوتري الذي أفرد لقصة لقائهما الأخير فصلاً كاملاً في كتابه، دون أن ينسى ذكر ديوانه "الوتر الجاحد" الذي أخذه معه إلى إسرائيل ولا يزال يحتفظ به إلى اليوم.

يكتب سوميخ بإسهاب عن الحركة الشيوعية ومساهمة بعض اليهود فيها. ويذكر أن يوسف سلمان يوسف - فهد - قد ألقى القبض عليه مع ابراهيم ناجي ويعقوب سحّيق وهما يهوديان ثريان كانا يمتلكا مذخر أدوية جوري اخوان. وحكم ناجي بالإعدام لكن الحكم خفف إلى المؤبد، ولم يخرج من السجن إلا بعد ثورة تموز، التحق بعدها بزوجته أيلين درويش في اسرائيل.

ويسهب في الحديث عن ساسون دلال الذي قاد الحزب لفترة بعد اعدام فهد ورفاقه زكي بسيم وحسين الشبيبي ويهودا صدّيق، ويصف دلاّل بالقائد الشيوعي المقدام الجسور، ويعتبر ادعاء حنا بطاطو عن دلاّل أنه عمل بدوافع صهيونية ادعاءاً سخيفاً وشريراً للغاية (ص 104). ويقول إنه لم يعرف ساسون دلاّل، ألا أنه كان يعرف أخاه الأكبر عبّودي الذي درّس اللغة الانكليزية في مدرسة شماش لفترة وجيزة، وأخاه الأصغر فتحي وكان صديقه وزميله في الصف.

يُعرف عن الحزب الشيوعي العراقي أنه يضم كل أطياف الشعب العراقي، وكان لليهود حضورهم في قياداته كما هو الحال مع ساسون دلال ويهودا صدّيق وغيرهم. ومع حرب 1948 والنكبة وما تلا ذلك من تصاعد في النفس القومي وعلى الخصوص في سوريا ولبنان، بدأ تمثيل اليهود في قيادات الأحزاب الشيوعية العربية بالتقلص. وقد حدثني عمار بكداش أن أبوه القائد الشيوعي السوري خالد بكداش فرض على قادة المجموعات الشيوعية العراقية في لقاء عقدوه بدمشق لتوحيدها في الخمسينات، أن يُستبعد اليهود من قيادات الحزب العليا كلّياً.

ونجد معلومات مثيرة في أحد الفصول عنوانه عمبة هندية، وهو فصل درس فيه المؤلف التجارة التي أجراها التجار اليهود مع دول الشرق، وانتقال أعداد منهم إلى الهند ولاحقاً إلى اندونيسيا وسنغافورة وحتى إلى الصين، وتأسيسهم شركات ناجحة. ويحدثنا عن داود ساسون (1792 - 1864) الذي أثرى في الهند، وعن انتقال أبنائه إلى بريطانيا مبكراً، واندماجهم بالحياة السياسية والاقتصادية هناك ومنهم من أصبح عضواً في البرلمان البريطاني (مثلما أصبح أفراد عائلة ساعچي التي هاجرت إلى بريطانيا من العراق من أثرياء البلد، ومنهم البارون موريس ساچي عضو مجلس اللوردات). وما دمت ذكرت العمبة، أقول لا أزال أذكر طعم طرشي المنگا المحفوظ في براميل خشبية كنا نشتريه في أوائل ستينات القرن الماضي من بائع يهودي في بداية سوق حنّون عند شارع الكفاح (شارع غازي سابقاً، وهي منطقة سكنها اليهود قبل هجرتهم(.

في تقديري أن أهم شخصية تأثر بها سوميخ وتحدث عنها في كتابه هي استاذه محمد شرارة. فيذكر أن حبه للأدب العربي وتذوقه للأدب إنما ازدهرا بفضل هذا المربي اليساري البارز. ويذكر سوميخ هذا المربي والأديب والصحفي الكبير في مواقع عديدة، كما كتب مبكراً كتابات جميلة عنه وعن زميله مروة في مجلة الكرمل الحيفاوية التي رأسها الأديب والمناضل أميل حبيبي (1922 -1996).

وما أثار انتباهي في الكثير من الأحداث والذكريات التي رواها سوميخ هو العلاقات الجميلة والمتسامحة بين المثقفين في ذلك الوقت. فكان الكبار يصغون للأصوات الشابة الواعدة ويحيطونها بالرعاية ويقدمون المساعدة لها سواء بتقديم النصح أو البحث عن منفذ لنشر نتاجات المبدعين الشباب.

يحدثنا سوميخ في الفصل السابع "اللغات" عن اللهجة البغدادية القديمة. ويذكر أن لهجة يهود بغداد هي الأقرب إلى اللهجة البغدادية الأصلية التي حافظ اليهود عليها بسبب مجتمعهم المنغلق، بينما تأثر جيرانهم من المسلمين بتغلغل اللهجات البدوية (ص 46 (. والحق يقال أن هجرة القبائل البدوية مثل شمر وعنزة في القرن السابع عشر وبداية الثامن عشر وسيطرتها على مناطق واسعة من المناطق المتاخمة للفرات ودجلة قد غير من التركيبة السكانية للعراق (انظر لونغريك أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث). وبينما احتفظت الموصل بلهجتها القديمة، تغيرت لهجة بغداد. وهذه اللهجة القديمة - شأنها شأن لهجة الموصل - كانت زاخرة بالكلمات والتعابير الآرامية وببقايا قواعد هذه اللغة. وهذا أمر ليس بغريب في عالم الألسنيات. ويكفي أن أضرب مثلاً عن تحول طريقة قراءة الصابئة للنصوص المندائية والحديث بها - وهي من أنقى اللغات الآرامية - إلى لهجة تماشي اللهجة البدوية التي بدأت تسود منذ قرنين في العراق، وإلى لهجة فارسية الصوت عند صابئة الأهواز في إيران.

يعزو سوميخ سبب إسقاطه الجنسية العراقية إلى رغبته في مواصلة دراسته في الجامعة، وهو أمر أشبه بالمستحيل في بغداد وقتئذ بالنسبة لتلميذ يهودي مثله. إذ يقول إنه لم يقرر الذهاب إلى إسرائيل لأسباب دينية أو سياسية، فلم يكن متديناً وما كانت السياسة تستهويه - كان بعيداً كل البعد عن الصهيونية، لكنه تعاطف مع اليسار-، بل رغبته في الذهاب إلى الجامعة. ولم يتحقق له حلمه إلا بعد سنوات طويلة وصعبة.

(صدرت في مجلة تاتو عدد شباط 2013)


بحث هذه المدونة الإلكترونية

صدر مؤخراً

بارتوك وتجميع الموسيقى الشعبية

الجذور كان الموسيقي المجري البارز بيلا بارتوك (1881 - 1945) من بين أوائل الباحثين الذين وضعوا أسس علم الموسيقى الشعبية (Ethnomusicology)، وك...