الثلاثاء، 13 أكتوبر 2020

 

ثائر صالح: نظرية الموسيقى البابلية 2

(نشرت في صحيفة المدى البغدادية عدد 11 تشرين الأول 2020)


بابل - رسم أكواريل رسمه المنقب الألماني فالتر آندريه سنة 1902 أثناء التقيبات التي قامت بها البعثة الألمانية الشهيرة

نعود اليوم لنكمل ما بدأناه عن كتاب البروفيسور دمبريل في الموسيقى البابلية الأسبوع الماضي، لكن بشيء من التفصيل. ذكرت اللوح البابلي المكتوب في 800 ق.م. وقلت إنه يذكر أوتار القيثارة التسعة. اسم اللوح في المصادر هو U.3011 أو نابنيتو 32، وهو جزء من مجموعة ألواح تشكل معجماً سومرياً – أكدياً، وهو اللوح الثاني والثلاثين من هذه المجموعة التي تتناول مختلف العلوم. اللوح عثر عليه وولي كما ورد، وقد أعيد للمتحف العراقي في سبعينات المتحف العراقي (ولا تعرف حالته اليوم).

الأوتار التسعة باللغة الأكدية هي: قُدمو[اوم] أي الأول (ومنها جاءت كلمة القديم)، شاموشوم أي المجاور أو الجار، شالشو قا[تنو] أي الثالث النحيف، أيا بانو أي الاله أيا الخالق وهو الوتر الرابع (أيا هو إله المياه العذبة)، خامشو أي الوتر الخامس، يليه ريبي اوخريـ [ـم] أي الرابع من الآخر، ثم شالشي أوخريم أي الثالث من الأخير، بعده شني اوخريم أي الثاني من الأخير، ختاما يأتي أوخروم، أي الأخير.

نستدل من أسماء الأوتار أن النظام البابلي يختلف عن النظام المستعمل حالياً. السلم الموسيقي يبدأ الآن بالنغمة الأساسية (الأساس، بيت المقام، القرار) ثم تتوالى النغمات / الدرجات صاعدة الثانية والثالثة (الوسطى) والرابعة ثم الخامسة (المسيطرة) فالسادسة والسابعة حتى الأوكتاف (الجواب). هذا هو السلم سباعي النغمات (السلم الهبتاتوني). أما السلم البابلي فيفترض وقوع النغمة الأساسية في الوسط، تحيط بها أربع نغمات من الجهتين صعوداً إلى خامسة ونزولاً إلى خامسة، أي أن السلم يتألف من تسع نغمات. وهو ما كان معروفاً عند الإغريق كذلك كما يقول دمبريل، فقد استعملوا قيثارة بتسعة أوتار التي لربما أخذ
وها من المثال السومري.

يعتقد دمبريل أن الأنظمة الموسيقية في الشرق القديم وبضمنه بلاد الإغريق استعملت هذا السلم حتى فترات متأخرة، ولا تزال أصداؤه ترن في النظام الموسيقي العربي، فيقارن اعتبار الوتر الثاني مجاوراً للوتر الأول، مع استعمال الموسيقى الشرقية درجة "مُجنّب" التي تعني لغةً إلى جانب، أو مجاور، وهذا نفس مفهوم شاموشوم الأكدي. والمجنب عدة أنواع مما يدل على اختلاف قيمتها وصغر بعدها. وقد شاع استعمال مصطلح المجنب لدى المنظرين الشرقيين منذ الفارابي على الأقل، وهو ما يدل على وجود تواصل تاريخي مع النظام الموسيقي البابلي.


تمكن دمبريل من تحديد قيمة هذه النغمات التسعة استنادا الى التقنية المعروفة في تقسيم طول الوتر (تنصيفه) واستنباط ما يعرف بالسلسلة الهارمونية التي تطلقها النغمة المنفردة، وهي سلسلة من النغمات أو الأصوات التي تتولد طبيعياً عند إصدار الصوت أو النغمة، وهذه تستند إلى القوانين الفيزياوية للصوت.

أحد الاستنتاجات المهمة التي خلص إليها دمبريل أن وجود علم الموسيقى ضمن أرقى وأهم معجم سومري – أكدي مع العلوم الأساسية الأخرى يدل على أهمية العلوم الموسيقية لدى البابليين وعلو شأنها. الاستنتاج الثاني هو أن تطور النظام الموسيقي السومري البابلي جاء في موازاة تطور اللغة وبالتزامن معها.


عازف هارب من مدينة أشنونا - متحف اللوفر، باريس

المدى الثقافية عدد 11 تشرين الأول 2020

السبت، 3 أكتوبر 2020

موسيقى الأحد: نظرية الموسيقى البابلية


ثائر صالح

صحيفة المدى عدد 4 تشرين الأول 2020



نتحدث اليوم عن كتاب البروفيسور ريتشارد دمبريل الباحث في علم الموسيقى الآثاري "نظرية الموسيقى السامية" (2019). يحلل فيه نظرية الموسيقى البابلية ويحقق عددا من النصوص المسمارية. يغطي الكتاب الفترة بين 3200 ق.م. حتى القرنين الأول والثاني بعده، ويدرس فيه بعض النصوص المكتوبة باللغتين السومرية والأكدية ليستعرض لنا أقدم نظرية موسيقية متكاملة لا يوجد مثلها في كل أرجاء العالم حسبما يقول.

سبقت نظرية الموسيقى البابلية النظريات اليونانية بقرون عديدة، إذ بدأت العلوم البابلية بالانتقال الى اليونان في حدود القرن الثامن ق.م. مع انفتاح اليونان على الشرق، ومنها انتقلت الى الرومان فيما بعد بشكل غير مباشر. ويصف دمبريل انتقال نظرية الموسيقى البابلية الى اوروبا لاحقاً عبر "نهب مكتبات المشرق العربي منذ أول حملة صليبية قادها أوربان الثاني [بابا الكنيسة الكاثوليكية 1035 – 1099م] في أواخر القرن الحادي عشر، وما تلاها من حملات صليبية". ويقول "أقدم مخطوطة تحفظ النظرية اليونانية القديمة في الموسيقى موجودة الآن في جامعة هايدلبرغ، نسخها نيكولاوس كالّيغرافوس على الضفة الغربية لدجلة في وادي الرافدين في 14 كانون الثاني سنة 1040م." في إشارة الى مدينة سلوقيا المقابلة لطيسفون على الجهة الاخرى من دجلة.

يعود أحد الألواح الى المرحلة البابلية القديمة حوالي 1850 ق.م. اكتشفه ليونارد وولي (1880 – 1960) وفيه تعليمات حول تغيير ميزان أوتار الأدوات الموسيقية وفقاً لأجناس المقام التي هي الأبعاد الموسيقية المكونة للسلالم / المقامات.

اللوح الآخر من مكتشفات وولي كذلك، هو جزء من الجداول السومرية الأكدية، ويعود الى الفترة البابلية الحديثة حوالي 800 ق.م. المثير في الأمر أن النص يذكر أسماء أوتار القيثارة ذات الأوتار التسعة التي كانت شائعة على المنحوتات بين 3200 – 2600 ق.م.، لكنها اختفت واهملت بعدها وحلت محلها أدوات موسيقية أخرى. هذا يعني أن نظرية الموسيقى البابلية تعود الى جذور سومرية، وأنها قد تبلورت مبكراً ولم تتغير كثيرا خلال ألفي عام تقريباً.

وهناك لوح من نفّر يعود للمرحلة البابلية الحديثة في حوالي 600 ق.م. يبدو أنه تمارين لتصوير الأبعاد الموسيقية ونقلها الى درجات أخرى. أعطي لهذه الأبعاد أسماء دالّة اندثر معناها مع الزمن. ويفترض دمبريل ان أسماء هذه الأبعاد الموسيقية مماثلة تماماً لما نعرفه في الموسيقى العربية، بالتحديد في استعمال أسماء الأجناس.

يخلص دمبريل ان النظام الموسيقي البابلي استعمل كذلك في العهد الإسلامي أو ربما قبل ذلك بإضافة عدد آخر من الأجناس وباستعمال أسماء تقابل الأسماء البابلية للأجناس. في هذا الصدد يقارن دمبريل أجناس مقام العجم مع "المقام" البابلي المسمى "إيشارتوم" ويعتبرهما متشابهين.

ويحلل دمبريل كذلك لوحاً من راس الشمرا (أوغاريت، سوريا) عثر عليه كلود شيفر، وهو مكتوب بالرموز المسماربة لكن باللغة الحورية استعمل فيه النظام الموسيقي البابلي، وهو لوح وصل لنا كاملاً تقريبا بعد لصق الأجزاء المكسورة الثلاثة، دونت عليه أغاني وأسماء مؤلفيها للمرة الأولى في تاريخ الموسيقى. وقد قدم دمبريل اغنية حورية من هذا اللوح في دمشق سنة 2011، واندهش عنما شعر الموسيقيون الحاضرون بأن هذه الموسيقى ليست غريبة عليهم، وبدأوا يحللون أجناسها فتوصلوا الى البيات والحجاز. هنا يشير دمبريل الى العلاقة الوثيقة بين النظام البابلي والنظام المقامي المعروف الآن.

×××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××

ولد ريتشارد دمبريل سنة 1947 ودرس الموسيقى أكاديمياً في شبابه ثم انتقل الى المغرب سنة 1975 لدراسة الموسيقى التقليدية والعمل هناك لفترة في إدارة مؤسسات موسيقية مهمة وأسس فرقة موسيقية لتقديم الموسيقى الأندلسية من القرون الوسطى. درس الموسيقى في العراق وسوريا ولبنان والأردن كذلك قبل أن يعود الى بريطانيا سنة 1988 ليعمل في المتحف البريطاني حيث تعاون مع باحث الآشوريات المعروف إرفينغ فنكل أحد أمناء المتحف البريطاني. لديه الكثير من الأبحاث والكتب في موسيقى الشرق الأدنى القديم، آخر ما صدر منها الى جانب الكتاب أعلاه "سبع أغاني من وادي الرافدين" (2019)، "موجز نظرية الموسيقى السومرية البابلية" (2018)، "إعادة اكتشاف القيثارة الفضية من أور" (2015) وموسوعته "علم الموسيقى والأدوات الموسيقية في الشرق الأدنى القديم" (1998). من ترجماته الى الانكليزية كتاب الفارابي المعروف "الموسيقي الكبير". أسس المؤتمر الدولي لعلم الموسيقى الآثاري (الأركيولوجي) في الشرق الأدنى، وعقد المؤتمر عدة جلسات منها واحدة في المتحف البريطاني وأخرى في جامعة السوربون بباريس.

هذه سبع أغاني من العراق القديم، ثمرة البحث الدؤوب للبروفيسور ريتشارد دمبريل. غناء السوبرانو السورية الأرمنية سيفان حبيب.

https://www.youtube.com/watch?v=vp8vz1TwAnc&t=440s

 


السبت، 26 سبتمبر 2020

الرحّالة ديلاّ ڤـالّه سابق زمانه

 


اكتشفت أوروبا الشرق عبر الترجمة الى اللاتينية ومن خلال عيون الرحّالة والتجار الأوروبيين. من المحتمل أن يكون الإيطالي بييترو ديلا ڤـالّه (1586 – 1652) أحد أهم هؤلاء تأثيراً. فرسائله صدرت مطبوعة لاحقاً في 1650 تحت عنوان "رحلات الحاج بييترو ديلا فالّه مع تفاصيل أهم مشاهداته في 54 رسالة الى صديقه ماريو سكيبانو..." بعدة أجزاء. وقد ترجم الراحل الأب د. بطرس حداد (1937 – 2010) وحقق الجزء المتعلق بالعراق من الأصل الإيطالي بعنوان "رحلة ديللا ڤـاليه إلى العراق" (بغداد – 2001، ثم في طبعة الدار العربية للموسوعات 2006). تميزت كتاباته التي غطت الفترة بين 23 آب 1614 حتى 1 آب 1626 بالملاحظة الدقيقة لأحوال الناس (التسجيل الأثنوغرافي) والمنهج العلمي في تحليل الظواهر ومناقشتها، حتى لو كانت مذكورة في الكتب المقدسة، ويندهش القارئ المعاصر لسعة ثقافته وتنوعها. زار ديلا ڤـالّه القسطنطينية ومصر وبلاد الشام والعراق وفارس ووصل الهند. كان من الأوربيين الذين تفصلوا في وصف آثار بابل وطيسفون وأول من زار أور (المقيّر) السومرية، وقدم كل ذلك بأسلوب رائع فحصل على شعبية هائلة في أوروبا، فقد قال عنها العظيم غوته "إن قراءة رحلة ديللا ڤـاليه كشفت له الشرق". كما أخذ معه الكثير من المخطوطات والآثار (حيث رأى الأوروبيون المومياء الفرعونية والكتابة المسمارية فأدهشتهم) والأعمال الفنية والملابس.

ونعتقد إن أحد أسباب شهرة الرسائل هو حبه الرومانتيكي للبغدادية الست معاني جويريدة وزواجه منها، ثم وفاتها سنة 1621 ونقل رفاتها معه حيثما رحل ليدفنها في مقبرة العائلة في روما بعد عودته في 1626.


ولد ديلا ڤـالّه في روما في اسرة ثرية ونبيلة، وحصل على تعليم ممتاز فدرس العلوم المختلفة والكلاسيكيات واستهوته الموسيقى والتمثيل وأتقن فنون الفروسية، لكنه صدم في شبابه بعد أن رفضته شابة نبيلة عشقها، ولم تبادله الحب، فقرر التجوال في البلاد المشرقية. أمضى خمس سنوات في نابولي يتهيأ لرحلته بدراسة العلوم والمعارف قبل أن يبحر الى القسطنطينية ويمكث فيها ويتعلم التركية ثم تعلم العربية والفارسية خلال أسفاره الى جانب معرفته اليونانية واللاتينية. ألف في نحو اللغة التركية وترجم بعض الكتابات من الفارسية والعربية الى الإيطالية أو اللاتينية.

تعلم الموسيقى على يد ستيفانو تافولاتشي ثم كينتيو سوليني قبل أن يدرس عند الموسيقي المعروف باولو كوالياني (1555 – 1628) وتعاون معه لكتابة ليبرتو (نص) بعض المسرحيات الغنائية، مثل "عربة الإخلاص في الحب" (1611). ألف عددا من الأعمال لم يصلنا منها سوى أوراتوريو ألفه لمصلى الصليب المقدس التابع لكنيسة القديس مارسيل في روما.

أهتم كذلك بنظرية الموسيقى وله مؤلفات في هذا الموضوع منها "مناقشة موسيقى عصرنا، روما 1640"، وكان منشغلا بتحليل النظريات الموسيقية اليونانية القديمة ولابد انه اطلع على الموسيقى العثمانية والعربية فحفزته على هذا الاهتمام، إذ درس الفلاسفة العباسيون نظريات الاغريق الموسيقية التي أخذوها من بابل وطوروها ووضعوا نظرياتهم استنادا الى فهمهم لها.

(صدرت في المدى الثقافي عدد 27/9/2020)

الخميس، 24 سبتمبر 2020

في رحيل عبد الأمير الصراف

 

 

رحل عبد الأمير الصراف (1935 – 25/5/2020) بهدوء، مثلما عاش بهدوء وتواضع. لم يشر الى رحيله سوى نعي يتيم من نقابة الفنانين العراقيين، وبعض التنويهات في الوسائط الاجتماعية مثل تنويه الإعلامي البارز علي عبد الأمير عجام.

تركة الصراف غنية ومتنوعة، لم يهتم لها أحد كثيراً رغم أصالتها وأهميتها الفائقة في تشكيل ذاكرة بلد أصيب بفقدان الذاكرة. إذ لو اقتصرنا على ذكر دوره الطليعي في تأليف الموسيقى التصويرية للأفلام الوثائقية والروائية والمسرحية فلن نجد أحدا يبزه في منتجه طوال أكثر من 45 عام، بدءاً بموسيقى "الأهوار" (1975) و"بيوت من ذلك الزقاق" (1977) لقاسم حول حتى أفلام الثمانينات والتسعينات. لكنه كان كذلك أول (وربما الوحيد) من ألف موسيقى الباليه في المنطقة، فالأجنحة السحرية التي قدمها كأطروحة تخرج في الأكاديمية الوطنية البلغارية للموسيقى سنة 1971 وقدمت كذلك في قاعة الشعب ببغداد في 1974 بمشاركة طلاب مدرسة الموسيقى والباليه لا تزال دون منافس.

درس الكمان عند أكرم رؤوف ولويس زنبقة (1928 – 1979 مؤلف السلام الجمهوري العراقي الوحيد)، ثم في معهد الفنون الجميلة عند آرام تاجريان قبل أن يكمل دراسته الموسيقية في بلغاريا في التأليف الموسيقي وقيادة الأوركسترا بالإضافة الى دراسة البيانو. كان استاذه في التأليف مارين گولأمينوف (1908 – 2000)، أحد أهم المؤلفين الموسيقيين البلغاريين في القرن العشرين، وهو الذي شجعه على تأليف باليه الأجنحة السحرية ودعمه لتقديمها في أوبرا صوفيا. أما استاذه في الإثنوموسيقولوجي (علم الموسيقى الشعبية) الذي درسه لسنة بعد تخرجه فكان أهم باحث بلغاري في موضوع الموسيقى الشعبية، هو البروفيسور ستويان جوجيف (1902 - 1997) وقد ربطها بالمقامات الشرقية. قدم الصراف بحث التخرج في موضوع المقامات العربية (وربما كان البحث أساس كتابه "المقامات الموسيقية العربية وسلالم المقامات العراقية").

تعين بعد عودته من الدراسة في بلغاريا في دائرة الفنون الشعبية سنة 1972، فقام بمسح فولكلوري ميداني بين 1974 – 1984.

عين كذلك مستشارا فنيا في دائرة السينما والمسرح سنة 1973، فألف الموسيقى التصويرية للكثير من الأفلام الروائية والوثائقية وموسيقى لخمس رقصات للفرقة القومية للفنون الشعبية، ولأربع من مسرحيات الفرقة القومية للتمثيل. ثم أتم كورس التأليف عند الموسيقي الكبير آرام خاتشاتوريان (1903 – 1978) في موسكو سنة 1977. تعرفت عليه في تلك الفترة بمساعدة الصحفي الراحل حسين الحسيني وكنت أستفسر منه عن الكثير من المعلومات الموسيقية فيجيبني عليها بالتفصيل وبكل صبر وتواضع. ولا أنسى جلوسي مع الصراف والأب فيليب هيلايي في قاعة الخلد سنة 1978 أثناء حضورنا تدريبات الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية الموسعة بعازفين من المجر وبولونيا قبل تقديم سيمفونية "القادسية" التي ألفها الموسيقي اللبناني وليد غلمية (1938 – 2011). لم يكن رد فعلهما متحمساً. وكان ما كتبته عن "تلك" القادسية وقتها في صحيفة طريق الشعب عرضاً أكثر مما هو تقييم، تجنباً للمشاكل. للتنويه، كان غلمية يذكر اسم الصراف في المقدمة عند الحديث عن الموسيقيين العراقيين، والموسيقيون يعرفون قدرات بعضهم البعض.

استمر الصراف بالتأليف الموسيقي ونشر الأبحاث حتى بعد 2003، فصدر كتابه الهام "تبسيط علم الهارموني" عن دائرة الفنون الموسيقية في وزارة الثقافة العام 2006، بينما عزفت الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية مؤلفه "السيمفونية العراقية" سنة 2011.

وكانت للصراف اهتمامات أدبية، فكتب السيناريو لبعض الأفلام، وله ثلاث مسرحيات من وحي ملحمة كلكامش.

الأحد، 13 سبتمبر 2020

منير بشير

ثائر صالح (المدى عدد 13 أيلول 2020)



صدر العام الماضي كتاب "من بودابست الى بابل" في بودابست باللغة المجرية، وهو سيرة ذاتية للسيدة إيرين گَچَــيي أرملة الفنان منير بشير، تروي فيه مراحل حياتها مع عازف العود الشهير. قدّم له الصديق السفير بالاج بوكور الذي خدم في عدة دول عربية وأصبح رئيساً لدائرة التشريفات في الخارجية المجرية سنوات طويلة. هو أقرب الى بيوغرافيا عن منير بشير، رغم تناوله تفاصيل حياة السيدة گَچَـيي قبل زواجها في بودابست حيث درس منير وعمل قبل انتقاله الى لبنان مع عائلته.

الكتاب سلسلة من الجلسات مع السيدة گَچَـيي حررها محرر مجري، مما تسبب في أخطاء في التواريخ وبعض التفاصيل. مع ذلك يحمل الكتاب الكثير من المعلومات المثيرة عن الفنان الراحل.

يبدأ الكتاب بمشهد درامي هو بقاء السيدة لوحدها والرعب الذي سيطر عليها ابان حرب الكويت في غياب زوجها وابنها في دور الضيافة التابعة لمدينة بابل السياحية التي أنشأت بالتزامن مع إطلاق مهرجان بابل الدولي سنة 1987، بحيث مر شريط حياتها بدءاً بعائلتها، ثم تعرفها على منير وزواجها منه وذكرياتها حتى تلك اللحظة. يحمل هذا المشهد دلالات كبيرة، إذ تعود اليه السيدة گَچَـيي في خاتمة الكتاب لتصف حزن منير لرؤية حلمه يتهاوى مع انهيار الدولة العراقية بعد حرب الكويت.

تكلمت عن هروبه من بغداد الى بيروت في خريف 1960 بعد الحكم عليه بالإعدام لأسباب سياسية، ثم قبوله في كونسرفاتوار تشايكوفسكي في موسكو في ربيع 1961 بمساعدة من أصدقائه الشباب الذين شاركهم آراءهم السياسية. لكنه عانى من المناخ القاسي لموسكو، فطلب من المنظمة السياسية نفسها المساعدة في الانتقال الى أكاديمية فرنس ليست في بودابست وتم له ما أراد (ص 24 – 25) ليبدأ الدراسة سنة 1962 ويتخرج سنة 1965. وقد تعرف على الفتاة المجرية خلال سنوات دراسته، وتزوجا بعد تخرجه. عمل في القسم العربي في الراديو المجري (حيث أخرج وأدار برنامجاً أسبوعياً وفق حديث أحد الأصدقاء)، ثم في القسم التركي بعد إغلاق القسم العربي.

يصف الكتاب الجهد الذي قام به منير بشير في القيام بتغييرات جذرية على الحياة الموسيقية في العراق (دوره في مدرسة الموسيقى والباليه، ورشة الأدوات الموسيقية، دائرة المستشار الفني، إطلاق مهرجان بابل الدولي وغيرها)، في نفس الوقت نجد إشارات الى الصراعات التي خاضها، منها التقرير الذي رفعه ضده أحد زملائه المقربين بتهمة الماسونية (وقد اشير الى الحرفين الأولين من اسمه، ولعله الإشارة الوحيدة المباشرة في كل الكتاب إلى إحدى الشخصيات من العراقيين) ومن ثم اعتذار ذلك الشخص منه لاحقاً بعد "استضافته" من قبل أجهزة الأمن (ص 72).

خلال متابعتي للإنترنت بحثاً عن المزيد من المعلومات عن منير بشير، لم أعثر على كتابات عربية تناقش تفاصيل موسيقية عنه، سوى الصفحة الإنكليزية على الويكيبيديا التي تطرقت الى تفاصيل طرق وزن (دوزان) العود التي استعملها، وتقنيات العزف بالمضرب أو بالأصابع أو الأظافر، والتزويق الذي استعمله والارتقاء بالعود من أداة مصاحبة الى أداة منفردة.

وقد توفي منير بشير في بودابست يوم احتفال العائلة بعيد ميلاده، ودفن هناك بحضور عدد كبير من الشخصيات المجرية والأوروبية والعربية في يوم شديد البرودة من تشرين الثاني 1997 حيث أسهمت بكلمة توديعية، وحسبما أتذكر لم تشترك الحكومة العراقية رسمياً في التوديع.


الثلاثاء، 8 سبتمبر 2020

التطورات في النقاش حول أصل المندائيين

 

تسبب وجود اسطورة هجرة المندائيين من حوض الاردن بسبب اضطهاد اليهود لهم الى الجبال الميدية "طورا دماداي" وحران في مخطوطة "هاران گويثا" (حران الداخلية) ووجود بعض العناصر السامية الغربية في الدين (مثل الكرمة "گفنا" والحق/العهد "كشطا") في نشوء نظرية الأصل الغربي للمندائيين مبكراً. وأشار الى ذلك مستشرقون كبار مثل نولدكه وليدزبارسكي، ثم أيدت الباحثة الكبيرة في المندائيات ليدي درور هذا الرأي لاحقاً، وهو الرأي الذي صاغه عالم الساميات المعروف رودولف ماتسوخ، وأيده كذلك كورت رودولف. من جانب آخر، وبسبب الجذور البابلية والرافدينية العميقة للطائفة، أشارت أقلية من الباحثين مثل باومگارتنر وفورلاني الى أن أصل المندائيين هو بابل، وهو الرأي الذي بدأ يتردد مجدداً بين أوساط علماء المندائيات.

يلخص ماتسوخ نظريته في مقدمة كتابه قواعد اللغة المندائية الكلاسيكية والمعاصرة فيقول: "يجب أن تكون هجرة المندائيين من وادي الاردن الى المرتفعات الميدية قد حدثت أثناء حكم الملك الفرثي أرتبان الثالث. وأثبتت محاولة ك. رودولف لوضع الهجرة في زمن أرتبان الخامس، وآراء إي. بامل بأنها حدثت في فترة حكم أرتبان الرابع القصيرة، أنها لا تأريخية. وقبل انتهاء الحكم الفرثي، انتشر المندائيون في كافة أرجاء وادي الرافدين. وفي القرن الثاني للميلاد أخذ العيلاميون والميسانيون منهم خطهم الذي اقتبسوه من الأنباط "[1].

أما كورت رودولف فيقول "من الصعب الحديث عن أصل المندائيين وتأريخهم، لأنه أمر لم يدرس في كتبهم على الاطلاق. وهم أنفسهم يعتقدون بأن دينهم كان الأول ووضعه عالم النور، ولا يعنيهم تأريخ هذا العالم في شيء... وتوجد اسطورة متوارثة عن إضطهاد الجماعة (بالأصح 360 ترميذا) في اورشالام علي يد اليهود الذين قادهم أدوناي والروها والشفياهي. ويعتقد أن تدمير اورشالام على يد قوى النور جاءت عقاباً لليهود على ذلك.. علاوة على ذلك، نجد في هاران گويثا تفاصيل إقامة الناصورايي في تلال ميديا (طورا دماداي) أو حران الداخلية، حيث هربوا بقيادة الملك أردبان من الحكام اليهود. وتم تشخيص أردبان الغامض هذا بالملك الفرثي أرتبان الثالث، أو الرابع أو الخامس... أي في فترة حكم الملوك الپارثيين المتأخرين في القرن الأول أو الثاني الميلادي.."[2]

ويستمر رودولف "إن تحليل نمط ومواضيع هذا التراث المندائي القديم ومقارنته مع مختلف النصوص اليوحناوية يوضح بأنه يرتبط بالتراث المسيحي الفلسطيني السوري القديم. ولا يعطينا الأدب المندائي أية إشارة الى أن الطائفة كانت في يوم من الأيام مسيحية على العكس من رأي بعض العلماء[3]... ولا يمكن نكران الأصل اليهودي للطائفة أو الناصورايي رغم النقاشات الحامية ضد اليهود في الأدب المندائي... وتذكر لفافة هاران گويثا أن الناصورايي أحبوا الرب أدوناي الى أن جاء المسيح! ومن الواضح أن معاداة هذه الطائفة اليهودية المارقة لليهودية الرسمية أدت الى وقوع الاضطهاد عليها، من المفترض خلال حروب اليهود التحررية في القرنين الأول والثاني... ومن الأفكار القديمة نجد بهيري زدقا (المختارون الحقيقيون) ومار إد ربوثا (رب العظمة) ورازا (السر) والكثير من المصطلحات واللغة الرمزية حول التعميد وكأنها تكرار لنصوص قمران. والاردن دائماً هو اسم أي ماء مناسب للتعميد للمندائيين. وتؤكد العلاقة الواضحة مع الطوائف المعمدانية شرقي الأردن ومع المسيحية البدائية في سوريا، علاوة على العديد من العناصر السورية الغربية المميزة في اللغة والميثولوجيا المندائية (مثل مندا، ناصورايي، گفنا، كشطا، والملائكة التي تبدأ بـ "يو") نظريتنا في الاصل الغربي للمندائية".

أولاً نترك المواضيع الميثولوجية المتعلقة بهجرة ما جانباً، فهي تكرار لتقاليد قديمة (هجرة ابراهيم الى حران ثم الى كنعان، هجرة أخوة يوسف الى مصر ثم الخروج العبري من مصر بقيادة موسى الخ الخ). وهناك أمثلة عديدة في تأريخ الأديان حول اقتباس أساطير وقصص من الشعوب الاخرى (والمثال الأسطع هو اطلاع اليهود على الميثولوجيا والأساطير الرافدينية بعد نفيهم الى بابل، ومنها استمدوا أساطيرهم بعد تحويرها، مثل الخليقة والطوفان، عند تحرير التوراة وكتب الأنبياء والمزامير وغيرها من كتبهم في فترات متأخرة). ما يهمنا هو العناصر الغربية في الدين المندائي. أحد أهم العناصر هو تعبير ناصورايي، فمن أين أتت هذه الكلمة وما معناها؟

أصل الكلمة الفعل نصر هو صيغة قديمة للفعل نطر، ومنها ينطر، ناطور أي يحرس، يحمي. وهي كلمة معروفة في العديد من اللغات السامية، مثل العبرية والآراميات وحتى العربية. لكن المهم هو استعمالها الديني. فهي لا ترتبط بالمندائية فحسب، بل بالقمرانيين وباقي طوائف البحر الميت وبالمسيحية كذلك.

نجد في نصوص قمران مصطلح نوصري ها-بريت، وهو يعني حرفياً حماة العهد، في إشارة الى عهد يهوه مع ابراهيم في التوراة، وهي تسمية أطلقها مؤلفوا النصوص القمرانية على أنفسهم، وتختصر بالعبرية الى نوصريم. ويمكن اعتبارها الاسم الذي عرّف به القمرانيون (أو غيرهم) أنفسهم. ومن المؤكد أن التسمية العربية للمسيحيين، النصارى، هي على نفس النحو وليس من النسبة المفترضة للمسيح الى مدينة الناصرة. فيسوع نفسه، كان يلقب بالناصورايي، أو النازاري (تحولت الى الناصري بالعربية). وهناك اشارات في كتب الآباء المسيحيين الأوائل وكتب المؤرخين القدماء الى طوائف في شرقي الاردن تتشابه في أسمائها مع ما نعرفه من الأدب المندائي: فيذكر هيگيسپّوس (من القرن الثاني الميلادي، حسب كتاب تاريخ الكنيسة ليوزيبيوس الذي توفي في 339م) الطوائف اليهودية السبع وهي: الأسينيون، الهيميروبابتست (المتعمدون في النهار) الجليليون، المصبوثيون (المعمدانيون) والسامريون، والصدوقيون والفريزيون. فالمتعمدون في النهار، والمصبوثيون هي أسماء قد تكون لطائفة معمدانية واحدة، الاولى عرفت بالاسم اليوناني، والثانية بالاسم الآرامي. ويتحدث أپيفانيس أسقف سلامينا (أواخر القرن الرابع) عن الناصورائيين والنازاريين والاوسيين في حوض نهر الاردن، وقتها كان المندائيون يعيشون في ميسان. ونجد في مخطوطات قمران تسمية ثانية للجماعة القمرانية، وهي "عوسي ها-توراه" أي مطبقي أو محققي التوراة، وتختصر الى عوسيم، وهي نفس الأوسيين التي تحدث عنها أبيفانيس. وكما مر، فإن ناصوري ونازاري تعودان الى جذر نصر، أو نطر بمعنى ناصورايي، وتغير اللفظ حسب تأثير اللغة اليونانية أو اللاتينية، لغة المصادر التي نقلت الينا الأخبار الشحيحة عن هذه الطوائف! المصطلح إذن شائع في تلك الفترة، حماة العهد، حماة الدين الخ، ولا يرتبط بدين معين كما رأينا.

وعن علاقة اليردنا بنهر الاردن، فالأمر واضح، ولا يمكن اعتبار استعمال المندائيين كلمة يردنا هي دليل على الأصل الغربي وإشارة الى نهر الاردن الحالي. تعني كلمة يردنا في اللغات الآرامية الماء النقي، الجاري. ويبدأ الپارسيون (في الهند) أسماء الأنهار بسابقة هي "أرد"، وهناك العديد من الأنهر في أوروبا تذكرنا باليردنا: الرون (ولا ننسى التسمية القديمة: رودانوس) والراين والدون. على ما يبدو أن الكلمة ترجع الى فترات بعيدة في تأريخ البشرية القديم.

إن الطبقة الأساسية للدين المندائي رافدينية الطابع، ولا يمكن تصورها في أية بيئة ثانية عدا بيئة الأهوار والأنهار والماء الوفير في جنوب العراق كما يشير عزيز سباهي بصواب في كتابه "اصول الصابئة". فهل يقبل المنطق العلمي وضع كل العناصر البابلية الغزيرة في الأدب المندائي جانباً والتشبث بحفنة من العناصر "الغربية" في الدين، لإثبات نظرية الأصل الغربي؟

والأهم من كل ذلك، هو وجود "العناصر الغربية" في جنوب بابل في تلك الفترة، متمثلة باليهود الذين آثروا البقاء في جنوبي وادي الرافدين على العودة الى أرض كنعان. فما الداعي "لاستيراد" العناصر الغربية ما دامت قد جائت من قبل مع اليهود الذين سباهم الكلدانيون الى بابل وبقوا على اتصال ببلاد كنعان؟ هذا ينطبق مثلاً على ما يسميه المستشرقون "مخلوقات يو" مثل يوشامن ويوزاطق وغيرها. وسابقة يو هذه تعرف بالـ digramma، أي الحرفين، وأصلها الحروف الأربعة، tetragramma، وهي حروف يهوه יהוה YHWH اله العبرانيين القومي. وهناك الحروف الثلاثة يهو (ياهو، مثلاً في نتانياهو). وهذا الاسم مقدس عند اليهود لايلفظوه، بل يقرأون إيلوهيم بدلاً منه (لذلك يجري تحريك كلمة يهوه بحركات كلمة إيلوهيم في النصوص). ويوشامن هو اسم مستعار من التراث الكنعاني، وأصله بعل شمين أي سيد السموات (في الأصل بعل شمايم، تحولت الى بعل شمين ثم الى يوشمين عند اليهود ومنها اشتق المندائيون يوشامن)، أما يوزاطق، فهو من يو-صادق. ومن المفترض أن يكون اسم يهيا يهانا على نفس الشاكلة. لكن لماذا لا يكتبه أو يلفظه المندائيون يوهانا بدلاً من يهانا التقليدية؟

إن اقتباس المندائيون هذه الأفكار من جيرتهم اليهود في بابل هو أسهل بكثير من نقلها عبر هجرة واسعة من وادي الاردن الى حران فبابل. ولربما هاجر عدد صغير ممن كانوا يسمون بالناصورايي من حوض الاردن فعلاً، وانظموا الى المندائيين الموجودين أساساً في أرض بابل، وهو أمر تشير اليه لفافة هاران گويثا صراحة، لكن ذلك ما لا يمكن نفيه أو إثباته في الظروف الحالية. ومع ذلك وحتى التسليم بإحتمال مثل هذا لا يفترض تأييد نظرية الأصل الغربي ما دام القادمون الجدد انظموا الى جماعة قائمة منذ زمن، ولم يأتوا بدينٍ جديد.

ولعبت نظرية الأصل الغربي دوراً في تعقيد الصورة المعقدة أصلاً، على سبيل المثال أثناء النقاش حول الخط المندائي الذي يتشابه مع الخط النبطي (في الغرب) والخط العيلامي (في الشرق). فمن يؤمن بالأصل الغربي لابد وأن يقول بأسبقية الخط النبطي على المندائي، لأن الصورة لا تستقيم إلا هكذا، فيكونوا قد أخذوا الخط من النبطيين بطريقهم الى ميسان، حيث اقتبسه منهم العيلاميون كما رأينا عند ماتسوخ. ومن المفترض أن الخط المندائي كان قد بلغ اكتماله في القرن الثالث الميلادي، ويصعب تصور اقتباسه من العيلاميين كما يرى يوسف نافيه أو يانوش هارماتا لأسباب تتعلق بتأريخ التدوين عن الشعوب الايرانية التي لم تطور أبجدية خاصة بها، ولم تستقر على أبجدية إلا بعد الاسلام عندما اختارت الحروف العربية، وحتى الأبجدية الفهلوية كانت تتألف من ثلاثة عشر حرفاً فقط. وذكر رودولف أن المندائيون طوروا أبجديتهم بعد وصولهم الى ميسان. وستظل الأبجدية رهينة النقاش حول أصل المندائيين رغم اللقى الأثرية من نقوش ونقود وكتابات.

خلال مؤتمر آرام عن المندائيين في اوكسفورد تموز 2002، شددت الدكتورة كريستا مولر-كَسْلَر على ضرورة فتح ملف أصل المندائيين مجدداً وفقاً للمعطيات الجديدة التي أفرزتها اللقى الأثرية في وادي الرافدين. وكَسْلَر مهتمة بدراسة نصوص التعاويذ التي عثر عليها في وادي الرافدين منذ القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين والتي بقيت في المخازن دون ترجمة. وتعتقد كَسْلَر أن الدين المندائي تكون في جنوب وادي الرافدين وتنكر الأصل الغربي لعدم وجود ما يبرر هذه النظرية، أيدها في ذلك البروفسور لوپييري. وترى أن نصوص التعاويذ المندائية كانت موجودة وتلمس الكثير من عناصرها في نصوص تعود الى فترات أقدم من الهجرة المفترضة، الى منتصف القرن الثاني قبل الميلاد مثلا. وتدل الدراسات الحديثة حول نصوص الأدعية المندائية أن هذه النصوص رافدينية جنوبية بالتمام، لا بل تحمل بصمات محلية ضيقة غير معروفة حتى في مناطق اخرى قريبة من بلاد الرافدين. وتجادل كَسْلَر أنه كان على الجماعة المهاجرة من فلسطين في القرن الأول أن تغير لغتها وتترجم نصوصها الدينية بثلاث لغات خلال فترة زمنية قصيرة تقرب من مئة عام هي الفترة الفاصلة بين انطلاقهم من حوض الاردن لغاية وصولهم الى جنوب وادي الرافدين، وهو أمر مستحيل عملياً، بالإضافة الى أن مثل هذه الترجمة للنصوص لابد وأن تترك بصماتها مثل وجود عناصر لغوية ومفردات من اللغة الأسبق، وهو أمر لا نعثر عليه في النصوص المندائية[4]. تقول كسلر: "إن إحياء دراسات النصوص المندائية القديمة المكتوبة على الرصاص والأوعية الخزفية في السنوات الأخيرة، يجبرنا على إعادة تقييم معلوماتنا عن معرفة المندائيين للثقافة البابلية القديمة ودورهم في نقلها. كذلك أن هذه النصوص السحرية المكتوبة باللغة المندائية بالذات هي التي ترتبط بشكل وثيق بقضية أصل المندائيين. هذا الأدب الخاص يكشف معلومات مفصلة حول الكثير من الأسئلة التي لم تجر إجابتها. إن طبقة الصوتيات والمفردات والتعابير في اللهجة المندائية يجب أن تكون أدلة كافية لإثبات الأصل البابلي للمندائيين، لكن يبدو أن هذه الحجج اللغوية لم تكن مقنعة بالنسبة لأجيال من علماء الأديان"[5].

بظهور الأجيال الجديدة من علماء المندائيات، وتزايد الاهتمام بدراسة اللقى الأثرية وهي الأدلة المادية على تأريخ جماعة ما -، يأخذ الخوض في أصل المندائيين منحىً جديداً، رغم تعقد الموضوع وتشابك عناصره وشحة المصادر التأريخية والأثرية التي ترتبط بالمندائيين.

(بحث قدم الى المؤتمر العلمي المندائي الثاني – ستوكهولم بين 9-11 آب 2002)


[1] Macuch, R.: Handbook of Classical and Modern Mandaic. Berlin, 1965. Page LXVII.

[2] Rudolph, Kurt: Mandaism. Iconography of Religions. 1971

[3] تعتقد الباحثة يورون بكلي أن المندائية هي فرقة مسيحية في البداية، ثم اختلفت مع المسيحية بعد احتواء بيزنطة للمسيحية (في القرن الرابع). محاضرة بكلي في مؤتمر آرام اوكسفورد 2002.

[4] من دراسة مولر-كسلر التي قدمتها في مؤتمر "المندائيون"، اوكسفورد، 2002.

[5] Müller-Kessler, Ch.: Phraseology in Mandaic Incantations etc. Aram, 11-12  (1999-2000) PP. 295-6

الأحد، 6 سبتمبر 2020

الموسيقى ‏ام ‏اللغات

 

الموسيقى ام اللغات

لقاء مع الكاتب

ثائر صالح

 


لوح بابلي (حوالي 500 ق.م.) وفيه شكل يشبهه الباحثون بدائرة خامسات 

  

اجرى الحوار: د. توفيق التونجي

 

 حدثنا كيف كانت بداياتك الاولى مع الاهتمام بالموسيقى؟

 ولدت في عائلة كانت تتمتع بسماع أنواع الموسيقى، بالخصوص الموسيقى التي تسمى كلاسيكية الى جاتب اهتمامها بأغاني محمد عبد الوهاب واسمهان مثلاً، والأغاني العراقية الجميلة. كان هناك جهاز غرامافون "هاي فاي" وعدد من الأسطوانات بسرعة 78 (للتسجيلات القديمة والأغاني الأمريكية الشائعة في الأربعينات والخمسينات) وعدد أكبر بسرعة 33 للتسجيلات الطويلة، ولم تكن هناك أسطوانات بسرعة 45 لأن هذه كانت تقليعة جاءت متأخرة ربما في الستينات لكن بالتأكيد في السبعينات واستعملت لتسجيل أغاني البوب المنفردة.

سماع هايدن وموتسارت وبيتهوفن وتشايكوفسكي وبرامز كان طبيعياً بالنسبة لي، وهو ما نمى لدي حب الموسيقى الكلاسيكية. ولا ننسى دور أفلام الكارتون في تلك الفترة التي كانت في تقديري أحد أهم مصادر تحبيب الموسيقى الكلاسيكية للأطفال، على الأقل تعريفهم بها. عندما كبرت بدأت بتجميع التسجيلات التي تعجبني وتلك التي قرأت عنها، وكنت أقتنيها من قسم الموسيقى في (محلات اوروزدي باك)، وأحيانا كنت أتفق مع حكمت مدير القسم فيستوردها لي. وكنت أحصل على تسجيلات كثيرة من أصدقائي الذين يقضون عطلهم الصيفية في أوروبا، فيجلبون معهم تسجيلات موسيقية. وكان للمركز الثقافي الفرنسي مكتبة موسيقية عامرة استعرت منها التسجيلات النادرة، على الخصوص تسجيلات عصر الباروك الفرنسي الذي تعرفت عليه هناك.

كانت الحفلات الموسيقية ظاهرة منتشرة في بغداد في فترة السبعينات، فحفلات الفرقة السيمفونية الوطنية الشهرية تقام في قاعة الشعب ولاحقاً في قاعة الخلد، وقدمت حفلات موسيقى الحجرة في (مكتبة الطفل العربي)، وكانت المراكز الثقافية تقدم حفلات يؤديها عازفون عراقيون وأجانب بانتظام. كنت احضر هذه الحفلات بشكل مستمر.

قرأت كل الكتب الموسيقية التي حصلت عليها، خاصة الإنكليزية التي أقتنيها من مكتبة في شارع السعدون كانت قريبة من ساحة الجندي المجهول. بين هذه الكتب عمل اوتّو كارويي "مدخل الى الموسيقى" الذي بدأت بترجمته سنة 1979 في بغداد وأكملته في صيف 1980بعد انتقالي الى بودابست، لكنه لم ينشر إلا في 2014.

 

لموسيقى الغجر التراثية اثر واضح على العديد من المؤلفات السيمفونية في الغرب. كيف ترون عملية تطعيم الموسيقى بالتراث الموسيقى الشعبي؟

 

تقسم الموسيقى على العموم الى نوعين، الموسيقى التي يؤلفها شخص معين (حتى لو كان مجهول الهوية)، وهي الموسيقى "المكتوبة" أو "المؤلفة"، وتلك التي تدخل في خانة الموسيقى الشعبية التي تتناقلها الشفاه مثل اللغة الأم، وهي غنائية على الأغلب، لا يعرف مؤلفها وغالباً ما ترتبط بمنطقة جغرافية محددة في البلد، وهي قد تختلف في لحنها أو كلماتها بشكل طفيف عن شقيقاتها في مناطق البلاد الأخرى، إن وجدت هناك. موسيقى الغجر التي تتحدثون عنها هي خليط بين الاثنين، على الأقل في وسط أوروبا وبالذات في حوض جبال الكاربات. إذ تميز جزء من الغجر بمهارات موسيقية فائقة في العزف على الأدوات الموسيقية، خاصة العزف على الكمان والسنطور (سيمبالوم، سيمبال الخ). فموسيقى الغجر هي خلطة متنوعة من تراثهم الشعبي الغنائي وتراث الشعوب التي عاشوا بينها (مجريين أو رومان أو سلوفاك أو صرب الخ)، أضافوا اليها بعض المؤلفات التي ألفوها بروحية الموسيقى الشعبية، عزفوا كذلك أغاني الأوبريتات الناجحة التي تلقى رواجاً كبيراً بين الناس. فهي أقرب الى الموسيقى المكتوبة، المؤلفة وليست الشعبية.  اشتهر في المجر مثلا پـِشتا دانكو 1858 – 1903 عازف الكمان الشهير من مدينة سَـگَـد الذي ألف الكثير من الأغاني التي دخلت في التراث الموسيقي. وقد تأثر موسيقيون كبار بموسيقى فرق الغجر التي جابت المدن الأوروبية، منهم يوهانس برامز الذي اعجب بها وهو يافع في هامبورغ حتى قبل انتقاله الى فيينا حيث تواجدوا بكثرة، واليها تعود جذور رقصاته المجرية الشهيرة.

استعمال الموسيقى الشعبية جانب آخر من التأليف الموسيقي، بدأ هذا يبرز بقوة مترافقاً مع العمل الميداني الطليعي الذي قام به الباحثون المجريون بيلا بارتوك 1881 – 1945 ولاسلو لايتا 1892 – 1963 وزولتان كودايي 1882 – 1967 في تجميع التراث الغنائي الشعبي المجري وتراث الشعوب المتعايشة في حوض الكاربات (وما وراءها، فقد جمع بارتوك الأغاني الشعبية في تركيا ولبنان والجزائر). ولا نزال نتمتع بعمل بارتوك الشهير "الرقصات الرومانية" التي استندت إلى التوثيق والمسح الميداني الذي قام به شخصيا. لكن سبق هؤلاء في التعامل مع التراث الشعبي عدد من الموسيقيين الكبار مثل هايدن الذي أعاد توزيع الأغاني الإنكليزية والسكتلندية مثلا، لكن هذا تم من منطلقات مختلفة واستند على أساس مختلف. هنا أود التركيز على جانب هام في عمل بارتوك، وفهمه لمسألة "القومية". يتعامل بارتوك مع "القومية" ايجابياً، وهو يعرف من معاينته الميدانية أن الفلاح المجري والروماني ليسا أعداء، انما يثير النعرات بينهما قادتهما لمطامع شخصية أو سياسية. وقد ألف بارتوك وصحبه الكثير من الأعمال الموسيقية التي تتعامل مع المادة الفولكلورية التي جمعوها ميدانياً، استعملوا فيها الايقاعات المعقدة والسلالم الموسيقية المميزة لها فأصبح منهجهم طريقاً سار عليه اللاحقون في تجميع التراث الشعبي على أسس علمية في مختلف بقاع العالم.

 الموسيقى الشرقية الربع طون لم تتمكن من مجاراة الموسيقى الغربية متعددة الاصوات رغم التجارب كثيرة في هذا المضمار، ولم تصل الى المستمع الشرقي الا بعض الاغاني التراثية التي حاول الشباب ادخال الالات الغربية فيها ، كيف ترى امكانية مزج هذين العنصرين في المقطوعات الموسيقية؟

 هذه إشكالية كبيرة تمتد جذورها لعقود كثيرة. بحث الأتراك مثل رؤوف يكتا (1871-1935) و د. صوفي أزكي (1869-1962)، وسعد الدين آريل (1880-1955) في الموسيقى التركية والعثمانية باستعمال وسائل البحث الموسيقية الحديثة والتدوين الموسيقي وبمساعدة عدد كبير من الموسيقيين الأوربيين المرموقين، وصاغوا فهمهم لنظرية الموسيقى التركية وهي ليست بعيدة عن الموسيقى في البلدان العربية. لكنهم استندوا إلى آخر ما توصل اليه العلماء الموسيقيون الكبار مثل الأرموي والمراغي، خاصة في تحديد نسب الأبعاد الموسيقية. واعتمدوا حساب الكومات (Comma) في تحديد قيمة الصوت، إذ يتألف لديهم التون (الطنيني) من تسع كومات، وهناك نصف تون كبير (5 من 9) ونصف تون صغير (4 من 9)، وأبعاد أخرى اصغر أو أكبر مما يعطي السلم الموسيقي الطبيعي غير المعدل طعمه وميزته. لهذا السبب يقول الموسيقيون العراقيون الذين يستعملون التون ونصف التون وربعه أن الأبعاد الموسيقية التركية تختلف عن العراقية. بالمقابل يقول المرحوم سلمان شكر أن النظام الموسيقي الصحيح هو نظام الأرموي، ونعرف أن شكر كان يميل الى المدرسة التركية بتأثير استاذه الشريف محي الدين حيدر.

وأضيف هنا أن الدراسات الحديثة على الألواح السومرية تثبت إن اليونانيين وفيثاغورس أخذوا نظرية الموسيقى البابلية عند انفتاحهم على الشرق بحدود القرن الثامن ق.م. السومريون والبابليون درسوا الأبعاد الموسيقية بشكل تفصيلي وحددوا الأصوات استنادا إلى النسب بين طول الأوتار، وهو ما فعله فيثاغورس لاحقاً. فقد عرفوا أن النسبة 1/2 هي نسبة الأوكتاف، ونسبة 2/3 هي نسبة الخامسة (المسيطرة) مثلا. ويؤكد البروفيسور ريتشارد دمبريل عالم الموسيقى الآثارية المعروف أن الأبعاد الموسيقية البابلية تشبه الى حد بعيد الأبعاد الموسيقية العربية، وتنتظم في "أجناس" مثل المقامات العربية التي تبنى من هذه الأجناس. هذه الأبعاد هي أبعاد طبيعية تناسب الموسيقى وحيدة الصوت (المونوفونية) الشائعة حتى اليوم في الشرق.

استعمل الأوربيون سلالمهم التي كانت طبيعية في البداية، وقد استندت إلى المقامات اليونانية البيزنطية التي عرفها العباسيون أيضاً لكنها تطورت بمرور الزمن. غير أنهم واجهوا معضلة بسبب ابتكارهم التعددية الصوتية (البوليفونية) والتناغم أو التآلف الصوتي (الهارموني). إذ اكتشفوا  ظهور تنافر صوتي (نشاز) بين بعض النغمات. والتنافر ينشأ في حالة تداخل موجتين صوتيتين إحداهما مع الأخرى فتتولد نبضات إن وصل عددها 32 نبضة في الثانية يحس السامع بالتنافر، فتكرهها الاذن وينزعج منها العقل. الحل كان ابعاد الموجتين عن هذه الحالة بتغيير ترددهما بحيث تكون نسبتهما الرياضية أقرب الى الأعداد الصحيحة قدر الإمكان، فظهر السلم المعدل الذي استعمله باخ (ولا نعرف بالضبط كيف عدله، إذ لا نعرف النسب الصوتية) وجان فيليب رامو. لكن هذا لم يكن كافياً، فظهر السلم المتساوي الذي حل المشكلة بشكل كامل لكن على حساب بعض المزايا الجمالية التي تمتعت بها السلالم الطبيعية في السابق. فالحل هو نوع من المساومة الصوتية الفيزياوية على حساب النسب الطبيعة، مساومة فيزياوية - جمالية.

لكن العرب والأتراك وباقي الشرقيين لا يستعملون التعددية اللحنية أو التآلف الصوتي لأن طبيعة موسيقاهم التقليدية مونوفونية. والتألف الصوتي عندنا افقي وليس عمودي، أي أن المراكز النغمية تأتي تباعاً عبر التحويل أو النقلة Modulation (في المقام مثلاً)، وليست متزامنة في نفس الوقت بهيئة كورد حتى تتنافر فيما بينها. لذلك ما هي الحاجة إلى تعديل السلم الى أبعاد متساوية مثل الأبعاد الأوربية؟ ما دامت الموسيقى العربية والشرقية عموماً مونوفونية، لا حاجة لتعديل السلم. أما استعمال السلم الغربي فهو ممكن لكن في حدود المقامات التي تتشابه درجاتها مع السلالم الأوروبية القياسية، لكنها لا تصلح للمقامات التي تحوي أبعادا غير قياسية مثل الصبا والهُزّام والحجاز والسيكاه، ناهيك عن محاولة استنباط كوردات أو تعددية لحنية لهذه المقامات.

بالطبع قد يثير هذا الكلام بعض الموسيقيين لكني أعتقد أن الموسيقى العراقية والعربية عموما لم تدرس بشكل علمي وعميق لحد الآن، بل استمرت في التقليد وتكرار ما قيل في السابق. اسوق مثالاً واحداً بالحديث عن المقام العراقي، إذ لم أعثر على تعريف واضح لهذه الظاهرة الموسيقية الفريدة، بل عادة ما يجري الحديث عن أمور جانبية ليست أساسية مثل تعداد أسماء المقامات وأصولها الجغرافية ومن الذي ابتكر المقام الفلاني، والقطع الموجودة فيه ونوع الشعر المستعمل في هذا المقام أو ذاك هل هو فصيح أم عامي وما هو إيقاعه. لكن ماهو المقام العراقي؟ لا أحد يجيب على هذا السؤال بتعريف واضح يتألف من جملة واحدة أو جملتين. في الحقيقة هناك تعريف واحد قصير أعتبره الأشمل هو ما وضعه الراحل شعّوبي إبراهيم إذ يقول في كتابه "دليل الأنغام لطلاب المقام" ما يلي: هو مؤلفة غنائية له قواعد محدودة لانتقال المغني من نغم الى آخر ويكون للإرتجال الغنائي نصيب فيه (تمهيد، ص 7). وشعوبي هو أحد الذين أنقذوا المقام العراقي من الضياع بعد إسقاط الجنسية عن يهود العراق الذين برعوا في المقام. هذا التعريف يعزز رأيي القائل أن المقام العراقي هو شكل موسيقي غنائي (مثل الأوبرا)، يؤلفه قاريء مقام متمكن ويقوم من يأتي بعده بتقليده، فالأمر يشبه تماماً تأليف جورج بيزيه أوبرا كارمن الشهيرة التي تقدم اليوم بقراءات متعددة حسب فهم وإمكانيات قائد الاوكسترا ومخرج العمل، مع فارق هو حرية الارتجال في المقام. مثلاً مقام اللامي الذي نسب الى المرحوم القبانجي هو عمل موسيقي من تأليفه لحن فيه نصاً معيناً استناداً إلى تجاربه وخبرته في التراث الذي وصله من المقام العراقي، وهو ما يعرف باللغات الأوروبية (Repertoire).

 نجح العديد من الموسيقين في نركيا وايران من استخدام البيانو في اعادة تأليف الموسيقى الشرقية وتوزيعها. وقد كانت لبعض الفرق السمفونية حضور على الساحة الفنية في العراق ومصر ودول اخرى. لكن تلك المحاولات بقت ضمن التجارب وفي دول المغرب العربي لا تزال هناك محاولات جادة ربما لم نكتمل ، هل ترى بان عصر السمفونيات على الاقل في الشرق في طريق الغروب؟

 هذه المحاولات كثيرة، فاستعمال "التراث" الموسيقي في كتابة أعمال اوركسترالية يعود الى عقود كثيرة في العراق، فقد ظهرت أولى المحاولات في الأربعينات والخمسينات واستمرت بعدها بأشكال مختلفة، ولدينا مؤلفون كبار من الأجيال السابقة والأجيال اللاحقة والكثير من المؤلفين الشباب. لكن المشكلة تظهر مجدداً في أي نظام موسيقي يكتب هؤلاء، أي لغة موسيقية يتحدثون؟ هل يتحدثون باللغة الموسيقية العراقية أم الأوربية؟ يمكن توزيع اغنية "تراثية" للاوركسترا واستعمال هارموني بسيط (وضعت تراثية بين قويسات لأنها الكلمة الشائعة للتدليس وتجنب نسبة هذه الأعمال العظيمة الى مؤلفها مؤسس الاغنية العراقية الحديثة الموسيقار اليهودي صالح الكويتي). لكن هذا لا يعني أن التأليف الموسيقى سيصبح اوركسترالياً، إذ أن قلة قليلة من الموسيقيين تمكنوا من اللغة الأوروبية في التأليف مثل فريد الله ويردي وعبد الأمير الصراف من السابقين.

استعمال البيانو غير منتشر لأنه الأداة الموسيقية التي تتجلى فيها عملية تعديل السلم الموسيقي الأوروبي بأبهى صورها، حصل التعديل في الحقيقة بسبب البيانو وقبله الهاربسيكورد أو الكلافسان أو بشكل عام ما يسمى بأدوات المفاتيح ومنها الأورغن في الكنائس. لأن أوتار أو أنابيب هذه الأدوات تنصب أو توزن ولا يمكن تغيير هذا الوزن أثناء تقديم العمل الموسيقي، بينما يمكن التحكم في تردد الأنغام عند العزف على الكمان مثلاً، إذ لا توجد على زنده عتبات تمنع القيام بذلك فيجري تجاوز التنافر بسهولة في الرباعي الوتري مثلاً.

يمكن وزن نغمة لا الوسطى على تردد 415 هرتس (ذبذبة في الثانية) لتقديم موسيقى الباروك أو 440 هرتس لتقديم الموسيقى الرومانتيكية أو أي تردد آخر، ووزن المفاتيح الباقية حسب تعليمات نظام الوزن المتساوي أو حسب نظام الوزن المعدل الذي ابتكره جان فيليب رامو لتجاوز التنافر بين النغمات. هذا البيانو غير قادر على إصدار أصوات تناسب نغمات مقام الرست، لأن الأبعاد الموسيقية بين مفاتيح البيانو لا تعطي الأبعاد الموسيقية المستعملة في هذا المقام. لذلك تم ابتكار أجهزة ألكترونية تعطي ترددات مقاربة لترددات درجات المقامات العربية، لكن ما الفائدة من كل هذا الجهد إذا كانت الحاجة الى إصدار لحن واحد وليس عدة ألحان في آن واحد؟ زد على ذلك صعوبة استعمال هذا الجهاز المعقد لتقديم كوردات (أي مجموعة نوطات تؤدى في نفس الوقت) هذه الكوردات ستكون متنافرة في حالة الأبعاد الموسيقية غير القياسية مثلما كانت الأدوات الأوروبية تعاني من هذه المشكلة قبل تعديل أنظمة الوزن في القرنين السادس عشر والسابع عشر.

 اخذت الموسيقى الاسبانية الكثير من الموسيقى الشرقية منذ ايام زرياب واسحق الموصلي وطعمت موسيقاها بحيث اصبح المستمع الغربي يستسغها. كانت هناك العديد من المحاولات خاصة في مصر وابنان لموسيقيين معروفين قاموا باستخدام مقاطع من الموسيقى السيمفونية في اللحانهم امثال: محمد عبد الوهاب وفريد الاطرش والرحبانيان واخرون. نجحث بعضها ولا يزال يرددها المستمع الشرقي لحد اليوم. هل تعتقد بان سيكون هناك محاولات اخرى جادة في هذا الطريق؟

 الأندلس وبعدها اسبانيا كانت واحدة من أسباب تطور الموسيقى الأوروبية. ومنها انتقل العود الى أوروبا ليصبح الأداة الموسيقية الرئيسية لقرون، قبل أن يحل محله البيانو الذي أصله السنطور الشرقي هو الآخر. لكن زند (رقبة) العود الأوروبي معتّب مثل الغيتار الذي تطور منه. هذا من ناحية الأدوات، أما الأشكال الموسيقية فقد أخذت أوروبا الكثير من الموشح واستعملته في السونيت مثلاً كشكل شعري وموسيقي ظهر في صقلية في بيئة شديدة التأثر بالثقافة العربية. ولا تزال تسجيلات الموسيقى التي تعود الى القرون الوسطى أو عصر النهضة تذكرنا بالموسيقى الشرقية.

من أكثر التيارات الفنية المعاصرة نجاحاً هو التيار المسمى "Fusion" أي المزج والتوليف بين أدوات موسيقية مميزة لثقافات موسيقية مختلفة والتوليف بين هذه النظم الموسيقية المختلفة. كأن يجري استعمال العود والغيتار الاسباني، وكلنا يتذكر مقطوعة الشلالات التي قدمها الفنان الكبير جميل بشير على العود مع فرقة موسيقية تقليدية من أمريكا اللاتينية تستعمل الغيتار والهارب. نفس النهج يسير عليه اليوم ابن أخيه عمر بشير، ابن عازف العود والموسيقي اللامع منير بشير، إذ يوائم بين العود والغيتار وقدم حفلات عديدة مع فرق الفلامنكو الأندلسية المعروفة. التركيز هنا على استعمال القدرات الارتجالية لدى الثقافات الموسيقية المختلفة واستعمال جمل لحنية تكون العمود الفقري للقطعة الموسيقية التي يتم تأليفها.

استعمال الرحابنة أو محمد عبد الوهاب لجمل لحنية من الأعمال الأوروبية الكلاسيكية تجربة قديمة وناجحة بفضل عبقرية هؤلاء الموسيقيين الكبار وذوقهم الراقي وأضيف الى ذلك ثقافتهم الموسيقية الواسعة والمتنوعة. كل هذا لا ينطبق على الكثير من المحاولات الحديثة التي ينقصها الذوق السليم والمعرفة الموسيقية العميقة، ناهيك عن وصول الذوق الموسيقي العام لدى الشعوب العربية إلى مستوى متدني بفعل تفشي الفن الرخيص وإشاعة القبح بالترافق مع التراجع الكبير في مسيرة تحديث المجتمعات العربية. فقد جرى تخريب ذوق الجمهور بشكل مستمر منذ بضعة عقود، خاصة مع ظهور التيارات الدينية المتطرفة التي تحارب كل من يختلف معها وحتى كل ما هو جميل بدعوى مخالفته مبادئ الدين، وتتغاضى في نفس الوقت عن الحكمة العميقة في الحديث الشريف القائل إن الله جميل يحب الجمال الذي يساعد برأيي على تأسيس مجتمع متزن متسامح.

بالمقابل هناك جيل جديد من الموسيقيين الشباب الذين تلقوا تعليماً أكاديمياً عالياً، وبعضهم يتكلم اللغتين الشرقية والغربية بطلاقة. هؤلاء أعادوا لنا الطرب الشرقي القديم، لكن بتقنيات فنية عالية وبدم جديد بالاستفادة من خبرتهم في الموسيقى الغربية، مثال واحد على هؤلاء الشباب عازف الكمان المبدع ليث صديق الذي تخرج بتفوق من أحد أهم المعاهد الموسيقية الأمريكية وأشهرها.

 بقت الموسيقى الشرقية مقتصرة على قالب وتسير على وتيرة واحدة متكررة ولم تعرف التطور خاصة فيما يسمى بالمقامات بينما نلاحظ العكس في تطور الموسيقى الغربية وظهور حركات فنية وفرق موسيقية احدثت تغيرات جوهرية في الموسيقى واداء الاغاني. الموسيقى الالكترونية جديدة في عالمنا اليوم ويعتمد على التطورات الكبيرة في عالم الكومبيوتر والانترنت. هل تعتقد بان تلك التطورات سينعكس على الموسيقى الشرقية؟

 أحد أهم أسباب تطور الموسيقى (العلوم والفنون على العموم) في أوروبا هو التدوين واتباع منهج علمي ونقدي في البحث. فالتدوين الموسيقى لم يتغير منذ قرون طويلة إلا بشكل بسيط، هذا يعني أنه قادر على تدوين كل ما يخطر في بال الموسيقيين. الموسيقى مثل اللغة، لا تنضب رغم وجود عدد قليل من الحروف، وستجد على الدوام مواضيعها الجديدة التي ستعالجها بنفس الحروف ونفس نظام التدوين لكن بشكل جديد يناسب التطور الذي يعيشه المجتمع ويلبي حاجاته التي تتغير على الدوام. وليس هناك جديد إذا قلنا بالحاجة الى دراسة وتحليل الموسيقى العربية على أسس علمية صحيحة وبناء نظرية علمية متماسكة تعبر عنها. لكن كيف لنا تحقيق ذلك في الحالة الراهنة لكل الدول العربية؟ ازدهار الفنون لا يحدث دون الاستقرار الاجتماعي ووجود نظام تعليمي فاعل ونمو وتراكم في الثروات الفكرية والمادية، ونحن بعيدون عن كل هذا. المواطن في الدول العربية لا يأمن حياته في الكثير من الأحيان، والغالبية الساحقة تعيش في فقر حقيقي – مادي وروحي، ويتعاظم تفشي الجهل والأمية والخرافة أكثر من أي وقت مضى منذ براعم التحديث في بداية القرن العشرين، فعن أي ازدهار للفنون نتحدث؟

أما الجانب التقني في الموسيقى فتطوره عامل مساعد سيكشف لنا أبعاد جديدة في الصوت، ويسير الآن في اتجاه التعامل مع التفاصيل الدقيقة للموسيقى والصوت، وهو أمر لم يكن متاحاً في التسجيلات القديمة التي تقدم الأعمال الموسيقية بشكل كتلة واحدة تفتقد الكثير من التفاصيل. كيف سينعكس هذا على الموسيقى الشرقية؟ عدا استغلال الإمكانيات المتاحة في هذه الطفرة التقنية من قبل عدد ضئيل من الفنانين مرهفي الحس، نرى الكم الأكبر لا يود التغيير أو لا يعرف كيف يتم ذلك في أحسن الأحوال، ربما هو انعكاس للحالة العامة في تدهور الذوق والمستوى الفني. إذ بدون وسط متلقي قادر على تذوق الفنون وتمييز الجيد عن الرديء، يصعب الحديث عن تطور في الفنون الموسيقية.

السبت، 5 سبتمبر 2020

موتسارت الأسود

 



تعد السيمفونيات الباريسية التي ألفها النمسوي فرانس يوزف هايدن (1732-1809) بين سيمفونياته المحبوبة. وكان هايدن وقتها وصل ذروة شهرته، وألف هذه السيمفونيات الست (أرقامها من 82 الى 87) بطلب من الفرقة الباريسية كونسير دو لا لوغ اوليمبيك. قدمت الاوركسترا هذه السمفونيات الست لأول مرة في باريس سنة 1786 بنجاح ساحق، لكن من قاد الاوركسترا وقتها؟ انه الفارس جوزف بولون دو سنت-جورج، أحد أعظم عازفي الكمان في باريس وقتها. كان شخصية فذة، متعددة المواهب، فهو عازف كمان بارع (فيرتوز) ومؤلف موسيقي لامع، وأشهر مبارز لاعب سيف وخيّال ماهر، ولاحقاً جنرال في جيش الثورة الفرنسية. لربما كانت مشكلته الرئيسية هي تحدره، فقد ولد العام 1745 في غوادلوب في الكاريبي لأب فرنسي نبيل من مالكي المزارع وام زنجية جلبت من غرب أفريقيا لكنها عتقت. هل كان لون بشرته السبب في نسيانه قرابة 200 عام بعد وفاته سنة 1799 برغم الروايات التي صدرت مستلهمة سيرة حياته الغنية والمثيرة؟ ربما، سيما أن الثورة الفرنسية، على الرغم من شعار الاخوة والمساواة والحرية الذي رفعته، لم تجلب الأخوة ولا المساواة بين الفرنسيين أو للمرأة الفرنسية ذاتها، ولا الحرية للمستعمرات الفرنسية أو للعبيد في أراضيها، برغم كل المثل السامية التي عبرت عنها. فقد تأخر الحصول على الحقوق المدنية لأكثر من قرن بعد قيام الثورة الفرنسية وتطلب الوصول إلى ذلك ذلك نضالا مريرا.

لابد هنا من ذكر الموقف الغريب الذي أخذه كبار رجال عصر التنوير الفرنسي من قضية الأعراق، فهذا فولتير العظيم قد وصل الأمر به إلى التشكيك بإنسانية الزنوج. إذ ينعتهم في الرسالة السابعة من رسائل أمابد بالحيوانات، أما في رسالته عن الأخلاق فيصفهم بأنهم دون البيض من جهة الفهم "فهم ليسوا بشراً، إلا في هيئتهم، مع القدرة على النطق والتفكير هي أبعد ما يكون عن قدراتنا نحن. هكذا كان الأفراد الذين رأيتهم وفحصتهم" (من مقدمة رسالة في الأخلاق).

إذاً، يمكننا تخيل الرأي العام في المجتمع الفرنسي آنئذ إذا كان فولتير الفيلسوف المتنور يحمل أفكاراً من هذا القبيل. بدأ ظهور الأفارقة في فرنسا قبل الثورة يثير القلق، مما دعى الملك لويس الخامس عشر إلى سن قرار في 5 نيسان أبريل 1762 يلزم الزنوج بموجبه التسجيل لدى كاتب الأدميرالية خلال شهرين من صدور القرار. وبذلك تسجل 159 من الزنوج والملونين (بضمنهم الذين ولدوا من أبوين مختلطي العرق، مثل جوزيف دو سنت-جورج).

لكن جوزيف دو سنت-جورج تمكن برغم هذا الجو الذي لا يمكن وصفة بالمتسامح، من الوصول إلى أعلى مراتب المجتمع الفرنسي متخطياً كل العوائق العرقية. وتطلب منه إلى جانب القدرات الفذة التي تمتع بها الكثير من العمل والجهد والمثابرة للوصول إلى ما وصل إليه. بالمقابل كان عليه تحمل صليبه، فقد حرم من الزواج من امرأة تناسبه وتناسب قدراته بسبب القوانين التي تحرم ذلك.

انتقل جوزف الصغير في الثامنة من العمر إلى بوردو بفرنسا مع أليزابيت زوجة أبيه، ثم انتقل للعيش في باريس مع قدوم أبيه وأمه من غوادلوب خريف 1755، ليستقروا في حي سنت جرمان الراقي. دخل جوزف أكاديمية المبارزة التي أدارها نيكولا دو لا بوسيير، سوية مع ابن مالك الأكاديمية حيث أصبحا صديقان حميمان. وهناك كان يدرس الرياضيات واللغات والتاريخ والموسيقى والرسم والرقص في الصباح، وبعد الظهر المبارزة والفروسية. تتوج تفوقه في المبارزة بحصوله على منصب عسكري هام في مكتب الفرسان وصفته مستشار الملك، وقد خدم في هذا المنصب لمدة أحد عشر عاماً، وحصل بذلك على لقب فارس وأصبح من النبلاء. إذ كانت وظيفته تلك تعني قيادة فوج من الخيالة خفيف التسليح، ليس بسبب قدراته الفائقة في المبارزة فحسب، بل كذلك لمؤهلاته الراقية في مجال الإدارة. وليس هناك دليل أكبر على قدرات جوزيف بولون دو سنت-جورج الفائقة، من إعفائه من شرط السن كي تسند إليه هذه الوظيفة، إذ كان في السابعة عشرة فقط، بينما كان شرط السن هو بلوغ المتقدم للوظيفة سن الخامسة والعشرين.

كانت مهاراته في المبارزة، إلى جانب مركزه الوظيفي العاملان الأساسيان في الدفاع عن نفسه في ذلك المجتمع الذي يحتقر السود والملونين: الدفاع إذن كان ذا حدين: فيزياوي (عضلي، جسماني، عنفي) واجتماعي.

 

جوزيف دو سنت-جورج والموسيقى:

مثلما برع جوزيف باللعب بالسيف، برع باللعب على الكمان والكلافسان (الهاربسيكورد بالانكليزية والتشمبالو بالإيطالية، وهي أداة موسيقية تشبه البيانو). لربما تعلم العزف على الكمان عند أشهر مؤلف وعازف كمان فرنسي في ذلك الوقت، هو جان-ماري لوكلير، ولبراعة عزفه أهداه أفضل المؤلفين أعمالهم التي ألفوها خصيصاً له، مثل الفرنسي فرانسوا-جوزيف غوسك والألماني كارل شتاميتس والايطالي أنتونيو لولي (Lolli وليس له علاقة بجان باتيست لولي Lully أحد أعظم الموسيقيين الفرنسيين 1632-1687 وهو من أصل ايطالي). ومرة اخرى، صعد دو سنت-جورج إلى القمة فأصبح عازف الكمان الأول في الفرقة الموسيقية التي أسسها غوسك باسم فرقة الهواة. هؤلاء الهواة لم يكونوا هواة في الواقع، فقد تألفت الفرقة من أكثر من سبعين عازف، بينهم هواة ومحترفين من الأكاديمية الملكية للموسيقى ومن عازفي الملك. وفي 1773 أصبح دو سنت-جورج قائد فرقة الهواة، التي كانت تعتبر أفضل وأكبر اوركسترا فرنسية في وقت قيادة دو سنت-جورج لها. زيادة على ذلك، كاد أن يصبح المدير الموسيقي لدار الاوبرا لباريسية، لولا انتفاض بعض المغنيات الرئيسيات في الفرقة ضد تعيينه (لأسباب عنصرية بالطبع، لكن السبب الحقيقي هو الخوف من فقدان موقعهن) وتقديمهن التماساً إلى الملكة. ومن المعروف أن هذا المنصب هو أرقى منصب يمكن للموسيقي أن يحتله في فرنسا.

في العام 1781 حلت فرقة الهواة، لكن سرعان ما تشكلت فرقة ثانية هي اوكسترا اللوج الاولمبي (كونسير دو لا لوغ اوليمبيك) التي قدمت سيمفونيات هايدن الباريسية الست. وتسمى تلك السيمفونية الباريسية التي تحمل الرقم 85 بسيمفونية الملكة، لأنها كانت المفضلة لدى ماري أنتوانيت ملكة فرنسا التي أطاحت المقصلة رأسها بعد أعوام قلائل. وماري أنتوانيت، وهي من عائلة هابسبورغ التي حكمت النمسا لقرون، حصلت على تعليم موسيقي ممتاز في فيينا، وكان الموسيقار الكبير كريستوف فيليبالد غلوك بين مدرسيها. ولربما قام جوزيف بتدريس الملكة الشابة التي حرصت على حضور كل حفلات اوركسترا اللوج الاولمبي، وهناك دلائل تشير إلى علاقة حميمة قامت بين الفارس الأسمر والملكة.

ويعتقد بعض الباحثين، أن هذه الفرقة قدمت أول كونشرتو لأداة الكلارينيت ألفها دو سنت-جورج في ربيع 1782، وأعيد تقديمها عدة مرات في 1783. وإن ثبت ذلك، ستسبق كونشرتو دو سنت-جورج رائعة موتسارت كونشرتو الكلارينيت في لا الكبير (ألفها قبل وفاته في 1791، ورقمها 622 حسب تصنيف كوخل) وهي تعتبر أول كونشرتو كلارينيت في التاريخ. وتشير المعلومات المتوفرة أن هذه الأداة الموسيقية قد تم تطويرها بحدود العام 1784.

 

دو سنت-جورج والثورة الفرنسية:

كان دو سنت-جورج في مدينة ليل عندما قامت الثورة، وسرعان ما تطوع لخدمة الثورة بسيفه وكمانه. ألا أن علاقته بالنظام الملكي القديم جعلته يتخذ حيطته، فأخذ يتجنب التوقيع باسمه السابق، واستعمل اسم جوزف سنت-جورج فقط. وفي 1791 أقرت الجمعية الوطنية تشكيل وحدة عسكرية لينضم اليها الملونون والمتحدرون من اصول افريقية الذين حصلوا على حريتهم من الرق، وأصبح دو سنت-جورج آمرا على هذه الوحدة برتبة جنرال، ليرأس 800 من المشاة و200 خيّالا. وكان اسم هذه الوحدة الرسمي "فيلق الخيالة الأمريكي" كناية عن مستعمرات فرنسا في الكاريبي، لكنها سرعان ما أصبحت تعرف بفيلق سنت-جورج. أختار الجنرال مساعداً له، هو صديقه توماس - ألكسندر دوما الذي يشبهه في تحدره، فأمه من عبيد هايتي، وأبوه ارستقراطي فرنسي خدم في الجيش الفرنسي في هايتي وقتها. ودوما هذا هو أبو الكاتب الفرنسي الشهير الكسندر دوما (الأب، 1802-1870).

 حارب فيلق سنت-جورج القوات النمساوية التي هجمت على مدينة ليل، وصد هجومها وأبعدها. واشترك دو سنت-جورج في القتال بنفسه. لكن السلطات بدأت بإبعاد الزنوج من الفيلق تدريجياً، بأرسالهم إلى المستعمرات لقمع انتفاضات العبيد هناك، وغيرت اسم الفيلق إلى الفيلق الثالث عشر. ومع ذلك يعود الفضل لدو سنت-جورج في كشف مخطط الماركيز ديمورييه لاحتلال ليل بمساعدة وحدات من الجيش النمساوي بقيادة الجنرال البولوني مياتشينسكي، وتنصيب ابن لويس السادس عشر ليكون ملكاً باسم لويس السابع عشر. إذ خدع دو سنت-جورج ودوما هذا الضابط وتظاهرا بالتعاون معه، لكنهما اعتقلاه مع جنوده عندما جاء لتسلم المدينة، وأرسلاه إلى باريس، فأفشلا واحدة من أخطر المؤامرات على الثورة الفرنسية. ومع كل هذا، وبسبب موقعه المرموق في النظام السابق، وبسبب الفوضى التي صاحبت الثورة الفتية، زج بالفارس دو سنت-جورج في السجن بتهم مختلفة ومختلقة في خريف 1793. ولحسن حظه أطيح بروبسبير سريعاً، وأعلنت لجنة السلامة العامة أن دو سنت-جورج أبعد من الفيلق وسجن من دون سبب، فأطلق سراحه بعد عام تقريبا، في خريف 1794. لكنه فشل في العودة الى منصبه السابق بعد تغير الأحوال السياسية.

ألغت الجمعية الوطنية الفرنسية العبودية في 4 شباط فبراير 1794، لكن نابليون بونابرت أرسل جيوشه في 1802 إلى غوادلوب وسنت-دومنغ (هايتي) بهدف إعادة العمل بنظام العبودية. وعانت الجيوش الفرنسية في سبيل استعادة السيطرة وقتلت آلاف السود، واخيراً سيطر الفرنسيون على غوادلوب التي شهدت مذبحة كبيرة عندما فضل مئات المقاتلين السود الموت على الاستسلام بتفجير أنفسهم في مخزنٍ للبارود. بالمقابل فشل الجيش الفرنسي في السيطرة على سنت-دومنغ التي أعلنت استقلالها في 1804 لتصبح أول جمهورية سوداء في التأريخ. أما في فرنسا فقد ميّع تشريع إلغاء الرق، وأنهت قرارات سرية صدرت العام 1802 وجود الملونين في الجيش، ومنهم الجنرال توماس-الكسندر دوما. بذلك أصبحت تضحيات الملونين من أجل مبادئ الثورة الفرنسية في الأخاء والمساواة والحرية عبثاً بفضل نابليون.

مسح اسم الموسيقار والمحارب الفارس جوزف بولون دو سنت-جورج من صفحات التاريخ الذي يمجد نابليون ويعتبره من أعظم القادة العسكريين ورجال السياسة. وبعد أكثر من مئتي عام على وفاته، بدأ الفرنسيون في تقدير الدور البارز والهام الذي لعبه هذا الرجل الاستثنائي، السوبرمان الحقيقي، إذ نجد أخيراً شارعاً في باريس يحمل اسمه في لا مادلين.

 

بحث هذه المدونة الإلكترونية

صدر مؤخراً

بارتوك وتجميع الموسيقى الشعبية

الجذور كان الموسيقي المجري البارز بيلا بارتوك (1881 - 1945) من بين أوائل الباحثين الذين وضعوا أسس علم الموسيقى الشعبية (Ethnomusicology)، وك...