الاثنين، 11 سبتمبر 2023

 كيف أصبح السومريون أجداد المجريين؟







ما زال بعض الكتاب المجريين يعتقدون بأن لغتهم تمت بصلة الى اللغة السومرية، وذهب البعض الآخر إلى اعتبار السومريين والمجريين شعبين من أصل واحد. وهم في هذا المنحى يحاولون استغلال حقيقة عدم معرفة أصل السومريين ومن أين أتوا، وعدم تشابه اللغة السومرية مع أية لغة 

أخرى معروفة. ودلائلهم التي يسوقونها لدعم افتراضهم هذا تعتمد على ”تشابه“ بعض الكلمات المجرية مع أخرى سومرية في اللفظ والمعنى، وعثور العلماء على نصوص مكتوبة برموز تقرب الرموز السومرية وعلى خزفيات صنعت بتقنية سومرية في منطقة أردَي (ترانسلفانيا رومانيا اليوم). ولحسن الحظ، لم يتبن العلماء المجريون هذه الفرضيات بل سخروا منها ودحضوها. وتتركز هذه الأفكار لدى المجريين الذين يقيمون خارج المجر، مثل الولايات المتحدة الأميركية وكندا، وعلى وجه الخصوص في الأرجنتين. وأغلبهم ليسوا متخصصين بالسومريات، بل باحثين في التأريخ الحضاري المجري أو مؤرخين أو متخصصين لغويين في لغات أخرى.

وظهرت اولى هذه الفرضيات في أواخر القرن التاسع عشر، أثناء النهضة القومية المجرية التي أججتها الاحتفالات بالذكرى الألفية لقدوم القبائل المجرية الى حوض الكاربات حيث يقيمون اليوم، إذ أن اتحاد القبائل المجرية السبع قدم الى هذه الأرض في فترة متأخرة. وحدد العلماء التاريخ التقريبي لهذا النزوح في العام 895 ميلادي. ويفترض العلماء أن أواسط آسيا هي الموطن الأصلي للمجريين وباقي الشعوب الفنوغورية، بعبارة أوسع الشعوب التي تنتمي لغتها الى عائلة اللغات الأورالية. بذلك يكون المجريون والفنلنديون والاستونيون شعوباً تتحدث - نظرياً - بلغات متشابهة، على الرغم من ندرة الكلمات المشتركة التي نجدها في هذه اللغات المعاصرة اليوم.


اللغات الاورالية وتطورها


يتفق العلماء على أن اللغة الأورالية القديمة ازدهرت بين الألف السادس والرابع قبل الميلاد، قبل أن تنشطر الى عائلتي اللغات الفنوغورية والسامويدية. وتكرر هذا الانشطار مراراً عبر القرون لتتفرع اللغة المجرية من اللغة الأوغرية، ولتكون لغات أقوام صغيرة تقطن أنحاء من روسيا الأقرب إلى اللغة المجرية، مثل الأوستياك والفوجول الذين يقطنون الجزء الغربي (الأوروبي) من الأورال. ويعتقد العلماء المجريون أن موطن الشعوب الأورالية الأصلي هو السفوح الشرقية لجبال الأورال في غربي سيبيريا.

بدأت اللغة المجرية بالتكوّن قبل 2500-3000 سنة، عندما أخذت الأقوام المجرية بالترحال بسبب الضغط الذي تعرضت له على يد الشعوب التركية التي فقدت مراعيها جراء الجفاف الذي أصاب المنطقة التي تسمى بشقيريا اليوم. وكان هذا أحد نقاط اللقاء الكثيرة بين اللغات التركية واللغة المجرية. وحدث لقاء آخر بين اللغتين في القرون السادس - الثامن بعد الميلاد عندما تخالطوا مع الخزر الذين تحدثوا لهجة خاصة من اللغات التركية - البلغارية (والبلغار كانوا من الأقوام التركية في الأصل).

وهناك نحو 300 كلمة تركية وافدة في اللغة المجرية، مقابل وجود نحو 1000 كلمة فنوغورية مشتركة، علاوة على تشابه تركيب اللغة مع اللغات الفنوغورية الاخرى. هذا الكم من الكلمات التركية كان الأساس الذي استند إليه البعض  لإطلاق فرضية القرابة التركية المجرية، وهي تعرف بنظرية الأصل الطوراني واللغة المشتركة.

ومثلما اكتسبت اللغة المجرية 300 من الكلمات التركية، هناك نحو 100 كلمة هندوأوروبية (فارسية على الأغلي) استعارتها من الشعوب التي قطنت سهوب أوراسيا. ومن الكلمات فارسية الأصل الكلمة الدالة على رقم ألف وهي أزَر (من هزار الفارسية)، وتعود كذلك كلمة چاردا Csárda المجرية المعروفة التي تعني مطعم ريفي وتقابل چار طاق الفارسية (سقيفة مفتوحة مبنية على أربع قوائم، چرداغ بالعامية العراقية).

لكن على رغم اكتساب هذا الكم من الكلمات التركية والهندوأوروبية، لا توجد قرابة بين اللغة المجرية وهاتين العائلتين اللغويتين. والأمر مماثل لحالة اللغات العربية والتركية والإيرانية الحديثة، فبالرغم من أن الكلمات العربية تشكل نسبة عالية من قاموس اللغتين التركية والإيرانية، لا يجرؤ أحد على الافتراض بأن اللغات الثلاث تنتمي الى عائلة لغوية واحدة. لكن المفكرين القوميين المجريين في القرن التاسع عشر وحتى في القرن العشرين كانوا يعتبرون القرابة مع شعوب الفولغا والأورال ”المتوحشين“ نقيصة، ويحاولون السكوت عن علاقاتهم بشعب اللاب Lapp الذي يقطن شمال فنلندا والسويد لبساطة حياته المشابهة لحياة الأسكيمو. لذلك انطلقوا يبحثون عن أقارب يفتخرون بهم أمام الشعوب الأخرى، ومَن هم أصلح لتمثيل هذا الدور من السومريين مجهولي الأصل الذين قدموا للحضارة الإنسانية الكثير؟


القرابة السومرية - المجرية


يحاول عدد من الباحثين إيجاد نقاط التشابه بين اللغتين المجرية والسومرية سواء في الكلمات أو في القواعد والنحو (وهو الدليل الأكثر إقناعاً عند مقارنة لغة بأخرى). في الواقع، لا يعرف أحد معرفة اليقين نظام الأصوات في اللغة السومرية، وبالتالي بنى علماء السومريات قراءتهم للمقاطع المسمارية على أساس افتراضي، لأن القيمة الصوتية للمقاطع غير معروفة. ويعود سبب ذلك الى جملة أسباب، منها أن تدوين اللغة السومرية مقطعي ولا يجري باستعمال حروف ذات قيمة صوتية محددة كما هو متبع ومعروف في التدوين الأبجدي، وكذلك اختلاف اللغة السومرية عن اللغات القديمة والحديثة المعروفة مما يجعل الدراسة المقارنة لها أكثر صعوبة.

ويؤكد المجريون أصحاب نظرية الأصل السومري أن قراءة النصوص السومرية (أي إعطاء المقاطع قيماً صوتية) ستسهل كثيراً لو استعمل النظام الصوتي للغة المجرية. من جانب آخر، يعتقدون بأن الإقرار بقرابة السومرية والمجرية سيساعد في تفسير الكثير من الكلمات وحل العديد من المشاكل التي تواجه علماء السومريات. بالطبع لا يتمنى المرء عادةً تعقيد حياته بنبذ النصائح المفيدة، لكن علماء السومريات واجهوا افتراضات القرابة اللغوية المجرية السومرية بتحفظ على الأقل، إن لم نقل برفض شديد.

وفي الواقع هناك تشابه بين بعض القراءات للكلمات السومرية (وهناك كلمات لها العديد من القراءات) مع كلمات مجرية. وتجري محاولات لإيجاد الصلة بين الكلمات المجرية والسومرية باستعمال الميثولوجيا والدين، مثلاً يذكر المؤرخ تيبور بارات Tibor Baráth عدداً من المصطلحات التي يعتقد بأنها تفسر بعض الكلمات السومرية. من بين الكلمات كلمة ”أور“، اسم المدينة السومرية الشهيرة، فهي عنده مماثلة للكلمة المجرية المستعملة اليوم أيضاً: úr، التي تعني سيد، وبالتالي ”رب“ (أنظر كلمة الرب التي جاءت من كلمة رب السامية المشتركة وتعني السامي، الكبير، السيد بمعناها الدنيوي والديني على حد سواء). لكن لو بحثنا عن معانٍ أخرى لكلمة أور السومرية سنجد الكلمات التالية: بطل، مدينة (وانتقل هذا المعنى إلى العبرية، اورشالايم = مدينة السلام)، كلب، أرضية، قلب، صياد، أرجل، كبد، مزاج… إذا ما أهملنا الأفعال، وهي كثيرة أيضا.

ويعتقد بارات أن منظومة من المصطلحات يمكن تفسيرها بالاستعانة باللغة المجرية، وينطلق من فرضية أساسية هي اعتبار إله الشمس المحور الأساسي للحياة الدينية والدنيوية في سومر ووادي الرافدين، وأن ديانة السومريين هي ديانة توحيدية، فهو بذلك يختلف مع ما اتفق عليه علماء السومريات بشأن البانثيون السومري. على هذا النحو يفسر اسم سومر مستعيناً بالكلمة المجرية Szem Úr أي سيد العين، إله العين. والعين هي عين الشمس، بذلك فإن بلاد سومر هي بلاد إله الشمس. أما أكد السامية أول إمبراطورية في التأريخ والتي خلفت السومريين في السيطرة على وادي الرافدين، فهي مقاربة للكلمة المجرية Égető أي الحارق، وهي من صفات الشمس أيضاً، أي أن أكد هي أرض إله الشمس. وللأسف، يصعب قبول اعتبار إله الشمس الإله الأول في وادي الرافدين، إذ نعرف أن إيا إله الماء سبقه على عرش الآلهة.

وفي حالة ثانية يعتقد أندراش زاكار András Zakar في كتابه ”المحيط الديني السومري والكتاب المقدس“، بأن كلمة إشتين Ishtin (وتعني واحد أو أوحد بالسومرية) تقابل كلمة Isten (إشتَن) المجرية التي تعني إله. برأيه أن الوحدانية هي صفة الإله، لذلك يطلق عليه هذه التسمية بطريقة قسرية، متناسياً هو الآخر أن الدين السومري يؤمن بتعدد الآلهة وليس بالتوحيد (على الأقل يؤمن بمجموع آلهة المدن وليس بإله واحد لجميع المدن). 

تشع من هذه الأمثلة إرادية التفسير، مما يذكرنا باعتبار بعض العرب شكسبير الشاعر الانكليزي الأعظم عربي الأصل لأن اسمه يقترب من "شيخ زبير". ولا أعرف إلى اليوم هل كان من أطلق هذه الطريفة جاداً في قوله أم هو يسخر من هذا المنحى في مقارنة الكلمات المتشابهة في اللغات المختلفة دون أي أساس علمي واقعي.

من الأجدر الانتقال لدراسة التشابه النحوي، فالحال في هذا المجال أكثر إثارة. يعقد البعض مقارنات نحوية بين اللغات الفنلندية والمجرية والسومرية والتركية ولغات أخرى. ويشيرون إلى وجود ثمة تشابه في بعض حروف الجر وظروف المكان والتملك وغيرها من الأدوات التي تدمج عادة بالكلمات ولا توجد بصورة منفصلة (رغم أن هذا الأمر يتعلق بتكنيك التدوين!). كذلك هناك تشابه في بعض الحروف الملتصقة بالأفعال (سابقات) والتي لا تنفصل عنها إلا في حالات خاصة مثل النفي. كذلك يسوق هؤلاء أمثلة بعض التعابير والتراكيب التي يعتقدون بأنها مشتركة. والمشكلة التي تواجه هذا المنحى هي كيفية مقارنة المقاطع السومرية بالحروف التي تستعملها اللغات الأخرى. إن تشابه النحو اللغوي هنا وهناك لا يعني أن اللغات يمكن تصنيفها ضمن عائلة واحدة، مثلاً تشترك العربية واللغات السامية عموماً مع اللغات الحامية والهندوأوروبية واللاتينية والمجرية والبولينيزية كلها في استعمال الإضافة: ففي هذه اللغات يقال مثلاً  كتاب أبي. كما تشترك الساميات والحاميات واليونانية واللاتينية والقوقاسية الشمالية والغربية في تأخر الصفة عن الموصوف: بنت جميلة. في حين تستعمل لغات أخرى مثل القوقاسية الجنوبية (الجورجية) والمجرية والتركية والسنسكريتية وباقي اللغات الهندواوروبية الحالة المعكوسة: جميلة بنت. فما هو مقياس التشابه والاختلاف إذن؟ يبدو مما سبق أن تحديد قرابة لغة بأخرى عملية طويلة ومعقدة، لها قواعدها وقوانينها.

من جانب آخر، هناك دراسات أكثر جدية، تتعلق بالدراسة المقارنة للأساطير المختلفة للشعوب، من بينها الأساطير المجرية. وفي هذا المجال، نشاطر رأي العديد من العملاء الذي يميلون إلى أن مواضيع الأساطير المختلفة ورموزها الأساسية متشابهة، ويمكن العثور على نفس العناصر في أساطير أقوام تبعد بعداً جغرافيا وحضارياً وتاريخيا كبيراً، مثل شعوب المحيط الهادئ أو السكان الأصليين لأميركا. ولا تزال بقايا الأساطير المجرية حية في الشعر والعادات الشعبيتين، مثل اسطورة الوعل العجيب، أو اسطورة النسر الذي قاد قبائل المجريين السبع إلى حوض الكاربات حيث يقيمون اليوم. تقول واحدة من أغاني عيد الميلاد التي جمعت من المجريين الچانگو (من التجمعات المجرية في شرقي رومانيا وفي مولدافيا في الأصل):

الوعل العجيب قرنه ألف فرع وعقدة،

ألف فرع وعقدة، ألف شمعة مضيئة،

يجلب ضوء الشمس المبارك من بين قرنيه

على جبهته النجمة وعلى صدره القمر

ينطلق من الشاطئ المضيء للدانوب السماوي

لينقل كرسول سماوي البشارة 

في هذا النص نجد نفس الرموز التي تستعملها الشعوب الأخرى: الشمس والقمر والنجوم، دورة الخليقة (النور والظلام، الموت والحياة، الصيف والشتاء). وتتحدث بعض الأساطير المجرية عن المملكة الغنية التي شيدها الملك الصياد "نمرود" سلسيل "تانا" بعد الطوفان في الأرض الممتدة بين البحر في الجنوب والجبال في الشمال والتي يخترقها النهران العظيمان (وادي الرافدين). وتانا يقابل "إتانا" البطل - الملك السومري الذي أسس مدينة كيش حسب اسطورة كلكامش. وتتحدث الأسطورة عن زواج تانا من أنث (= عنات؟)، التي ولدت له توأمين، اسمهما هُونور ومُوگور. في يوم من الأيام انطلق نمرود بصحبة التوأمين إلى الصيد، وحدث أن افترق عنهما، فانطلقا في تجوال طويل وحدهما. ثم التقيا بحيوان هو الوعل العجيب، الذي قادهما عبر بلاد العجم وعبر مستنقعات خطيرة عن بحر ميوتس (بحر آزوف؟) ليصلوا إلى أرض كثيرة الخيرات، عندئذ اختفى الوعل العجيب. تتحدث هذه الأسطورة في الجوهر عن أصل قبائل الهون والمجريين، فهونور هو جد الهون ومُوگور هو جد المجريين. وقبائل الهون معروفة في التاريخ، ونعرف أن الهون استقروا في حوض الكاربات قبل المجريين بقرون، وأسمى الرومان هذه المنطقة هُنغاريا نسبة إلى الهون. واشتهر ملكهم أتيلا الذي قاد القبائل الوثنية ضد روما ليقضي على الإمبراطورية الرومانية الغربية في القرن الخامس. ويبدو من مقارنة الاسطورة المجرية بالأساطير الاخرى، أن عناصرها متشابهة، وكذلك تتشابه الأسماء الواردة فيها لدرجة ما. والأساطير المجرية ميدان خصب للباحثين الذين سيجدون تزاوج العناصر التي أنتجتها حضارات مختلفة، سومرية وسامية وهندوأوروبية وتركية وكلتية وغيرها.



لكن البعض يستعمل الاسطورة كوسيلة لبرهان نظرية الأصل السومري أو الطوراني. ولتبيان القسرية في التفسير، ننتقل إلى مقالة نشرتها في العام 1953 باحثة مجرية هي إدا بوبولا في مجلة جامعة بوينس آيرس عنوانها "الوعل العظيم، الآلهة السومرية" تتحدث فيها عن الإله السومري "إيا" إله الماء. وتذكر بوبولا بأن لإيا (أنكي) أسماء اخرى، مثل "دارا - ماه" أي الوعل الكبير، مما يذكرنا بمحور الاسطورة المجرية التي ذكرناها قبل قليل. كما تعقد مقارنات بين بعض الأسماء التي وردت في الأساطير المجرية مع أسماء سومرية. فتتناول إبن أيا، دوموزي، وهو تموز إله الرعي، الذي تحول بعد ذلك إلى أدونيس عند اليونانيين، الإله المضحي الذي يولد ويموت سنوياً، وتفتر أن تموز هو الوعل الصغير، لأن أبوه إيا الوعل الكبير، لذا يجب أن يكون لقب تموز بالسومرية "دار - جي" الذي سيتحول لاحقاً إلى أسماء مثل ترك وطوران!      

كما حاول البعض استغلال عثور الآثاريين على فخاريات رافدينية الطابع وكتابات مسمارية وأخرى تقلد الخط المسماري في بعض أنحاء شرق أوروبا لنفس الأغراض. لكن البحث أثبت أن هذه الفخاريات والنصوص جاءت الى هذه البلاد البعيدة عن وادي الرافدين عن طريق التجارة عبر الأناضول، ثم قلد السكان المحليون الأشكال الرافدينية في صنع أدواتهم وأضافوا إليها الكتابات والنقوش. وقد طور المجريون السيكيّون (Székelyek) (وهم فرع من المجرين قدموا الى ترانسلفانيا قبل قدوم باقي القبائل المجرية الى حوض جبال الكاربات) خطاً أبجدياً استنبطوه من الخط المسماري الذي وجدوه على الفخاريات.

لكن العلماء المجريين الذين رفضوا مثل هذه النظريات المزيفة التي تحدثنا عنها قبل قليل، قدموا للإنسانية خدمة كبيرة، وبرز بينهم مستشرقون كبار مثل إگناتس گولدسيهر وشاندور كوروشي - چوما (چوما دي كوروش). ونشطوا في تجميع وتحليل التراث الشعبي مثل بارتوك وكوداي اللذان جمعا كنزاً من الموسيقى الشعبية المجرية وموسيقى الشعوب المجاورة وحتى الموسيقى العربية والتركية وصنفاه ووثقاه. وعلم الفولكلور (الأثنوغرافيا) يدينان كثيراً للعلماء المجريين الذين كشفوا جذور الفنون الشعبية المجرية التي تعود أيضاً الى اصول آسيوية وشرق أوسطية. 


(صدرت في صحيفة الحياة اللندنية يوم 29/10/1998)


الأحد، 7 مايو 2023

هايدن



الطفولة


مرت بالأمس الأول 31 آذار ذكرى ولادة فرانس يوزف هايدن (1732 - 1809)، واحد من أهم الموسيقيين في تاريخ الموسيقى الغربية. تشير كنية بابا هايدن التي نعته بها الموسيقيون وقتها إلى هذا، فهو من مهّد الطريق أمام موتسارت وبيتهوفن، وهو من صقل شكل السوناتا، أحد أهم الأشكال الموسيقية في أوروبا منذ القرن التاسع عشر. وطوّر العديد من الأشكال الموسيقية، بالدرجة الأولى شكل السيمفونية.

ولد هايدن في قرية روراو شرقي فيينا في عائلة هوت الموسيقى، فأبوه كان عازفاً ومغنياً شعبياً من الهواة، ومنه تعلم الغناء في صغره وبرع فيه، حتى أخذه معه أحد أقارب العائلة يوهان ماتياس فرانك في 1738، الذي كان مدير مدرسة وقائد جوقة غناء في مدينة هاينبورغ القريبة الواقعة على الدانوب. كان يوزف في السادسة من العمر وقتها. 

لم تعتنِ عائلة فرانك بالطفل النابغ كثيراً، كانت ملابسه قذرة ولم يحصل على طعامٍ كافٍ، وكثيراً ما كان يُضرب. لكنه تعلم عندهم أساسيات الموسيقى والعزف على الهاربسيكورد والكمان وصقل موهبته الغنائية بالاضافة إلى الدروس الاعتيادية مثل اللاتينية والدين والكتابة والرياضيات حتى قدوم الموسيقي المعروف جورج فون رويتر (1708 - 1772) مدير الكورس في كاتدرائية سنت شتفان في فيينا (الكاتدرائية الجميلة الموجودة في مركز المدينة) بحثاً عن مواهب جديدة يعزز بها كورس الأطفال في الكاتدرائية، وذلك في سنة 1739. انتقل هايدن الصغير إلى فيينا في ربيع 1740، ليقضي تسعة أعوام في الكورس ويسكن مع الأطفال الباقين. حصل على تأهيل عملي ممتاز لكنه لم يتلق تعليماً موسيقياً مناسباً في النظرية والتأليف، ولا حتى الطعام الكافي أحياناً. يقول أنه كان مضطراً لتقديم أفضل أداء أملا في الحصول على دعوات لتقديم حفلات في بيوت النبلاء أو في القصر الإمبراطوري حيث يمنح الأطفال بعض الطعام. وكان يحصل كذلك على بعض المال من تدريس الموسيقى أو كعازف مصاحبة عند الموسيقى الإيطالي نيكولا بوربورا (1686 - 1766) مؤلف الأوبرا الشهير خلال عمله في فيينا. وقد حصل هايدن اليافع على الكثير من التقريع والسباب من بوربورا، لكنه كان ممتناً له رغم ذلك، فقد تعلم منه الكثير من علوم الغناء والتأليف وحتى اللغة الإيطالية. 

وحادثته مع ماريا تريزيا أمبراطورة النمسا في 6 حزيران 1745 مشهورة، فقد كان يلعب مع زملائه فتيان الكورس على منصّات بناء قصر شونبرون خلال واحدة من العروض التي قدمت في هذا القصر الجديد. رأته لوحده من دون أقرانه وطلبت من رويتر "ضبطه". وكانت ماريا تريزيا قد أشارت لرويتر سنة 1748 بأن صوت يوزف هايدن قد بدأ يغلظ بسبب البلوغ (استعملت تعبير نعيب)، فخلفه أخوه ميخائيل هايدن (1737 - 1806) في أداء الأدوار المنفردة، وكان قد التحق بكورس سنت شتفان في 1745.

آخر مشاركة لهايدن مع فرقة كنيسة سنت شتفان كانت في 22 تشرين الأول 1748 قبل أن يطرده رويتر من الفرقة في تشرين الثاني عقب مقلب دبّره هايدن لأحد زملائه (وبالطبع بسبب تغير صوته)، إذ كان هايدن صاحب دعابة منذ صغره، وتنعكس روح الدعابة في أعماله بشكل جلي كذلك. 


القداس القصير في فا الكبير، أول عمل موثّق لهايدن بتاريخ 1750

https://www.youtube.com/watch?v=Puke9tHFoQ0


قصر أسترهازي في فرتود - المجر


الشباب والنضوج


بدأ هايدن حياته العملية سنة 1750 في البحث عن مصدر دخل لإعالة نفسه. عمل بأعمال مؤقتة مختلفة مثل العزف والتدريس والقيام بخدمات متنوعة، خاصة المرافقة الموسيقية والغنائية عند نيكولا بوربورا (1686 - 1766) ومساعدة الشاعر وكاتب الليبرتّو (نصوص الأوبرا) الإيطالي المعروف بيَترو مَتاسْتاسيو (1698 - 1782) الذي كتب نصوص الكثير من الأوبرات باللغة الإيطالية لموسيقيين معروفين مثل ليوناردو فنتشي (1690 - 1730) وأنتونيو كالدارا (1670 - 1736) ويوهان آدولف هاسه (1699 - 1783) وهو الألماني الذي بزّ الموسيقيين الطليان في الأوبرا الإيطالية. في نفس الوقت درس التأليف عند بوربورا وواصل دراساته الذاتية وانهمك في تأليف اوبرات هزلية وأعمال دينية غنائية وموسيقى الحجرة بتكليف من بعض النبلاء. بنى هايدن لنفسه سمعة بين النبلاء وحاز إعجابهم تنامت بدأبه ومثابرته، فحصل على أول وظيفة له كمدير موسيقي في بلاط الكونت مورتسين سنة 1758. وكان يقضي الشتاء في فيينا والصيف في قصر الكونت قرب بلزن في بوهيميا. ألف في هذه الفترة أولى سيمفونياته التي تألفت عموماً من ثلاث حركات، لكنه بدأ بكتابة سيمفونيات من أربع حركات مبكراً كذلك، وهو العدد الذي أصبح العدد المعتاد لحركات السيمفونية لفترات طويلة، قبل أن يبدأ الموسيقيون بالتحرر من هذا التقييد في الفترة الرومانتيكية.

لم يستمر عمله طويلاً عند الكونت الذي اضطر لتقليص نفقاته بسبب أزمة مالية فحل الفرقة الموسيقية، لكنه أوصى الأمير المجري أنتل (آنتون) أسترهازي بهايدن. حصل هايدن على عمل في أوركسترا الأمير في نيسان 1761 مساعداً لقائد الفرقة غريغور يوزف فرنر (1693 - 1766) بأجر مضاعف عن أجره السابق عند الكونت. لكن الأمير آنتون توفي في العام التالي ليخلفه أخوه ميكلوش الأول (نيكولاوس) الذي عُرف بحبه للموسيقى والفنون، وقد أصبح هايدن قائداً للفرقة بعد وفاة فرنر. 

تُعد عائلة أسترهازي المجرية من أثرى العوائل في الامبراطورية النمساوية. يقع مقر الأمير ميكلوش الأول في قصر فخم في آيزنشتات (بورغنلاند النمساوية)، لكنه بدأ بين 1762 - 1766 بتوسيع قصر آخر للعائلة في أسترهازا (في الريف المجري) وجعله مشابهاً لقصر فرساي، وألحق به في 1775 دار أوبرا صغيرة قدمت فيها أوبرات ومسرحيات، منها أعمال هايدن. وقد اعتاد الأمير قضاء الصيف في هذا القصر الباذخ، فيأخذ معه حاشيته وخدمه بضمنهم الفرقة الموسيقية لكن من دون استصحاب عوائلهم. وهنا حصلت حادثة تأليف هايدن سيمفونية الوداع سنة 1772 لإيصال رسالة إلى الأمير مفادها أن إقامة أعضاء الفرقة في القصر الصيفي قد طالت، وحان وقت العودة إلى منازلهم وعوائلهم. فقد كان تعامل النبلاء مع الموسيقيين لا يختلف عن تعاملهم مع خدمهم كثيراً، وكانت المؤلفات الموسيقية التي يكتبها هايدن ملكاً لمخدومه. لكن الأمر تغير بعد تجديد عقد العمل سنة 1779، فتمكن هايدن من تلبية طلبات خارجية بالإضافة إلى مهامه الموسيقية المتعددة لدى الأمير وبلدية آيزنشتات. عندها ألف الكثير من الرباعيات الوترية والسيمفونيات، بينها السيمفونيات الباريسية (1785 - 1786).


من السيمفونيات الأولى في بلاط الأمير أسترهازي: سيمفونية رقم 6 (الصباح) من 1761. جوفاني أنتونيني يقود Il Giardino Armonico 

https://www.youtube.com/watch?v=XtWEvUnC1Vs&t=852s


جوفاني أنتونيني يقود Il Giardino Armonico في سيمفونية الوداع من سنة 1772

https://www.youtube.com/watch?v=GMaM6ivx8X8





الشهرة والزيارة الأولى إلى بريطانيا


كان الأمير نيكولاوس (ميكلوش) أسترهازي (1714 - 1790) سخياً فيما يتعلق بالموسيقى، وقد خصص ميزانية تبز ميزانية البلاط الإمبراطوري ذاته. ساعد هذا هايدن على التعاقد مع أفضل الموسيقيين والمغنين، وتجربة الجديد من الأفكار في تطوير الأشكال الموسيقية واستخدام الأوركسترا والتوازن الصوتي فيها وتثبيت إستعمال المزيد من الأدوات فيها (الترومبيت والكلارينيت مثلا)، ونسمع هذا التطور التدريجي في سيمفونياته بمرور الوقت. وقد زادت سمعة بلاط الأمير أسترهازي في أوروبا وزاره النبلاء والملوك وتمتعوا بالأعمال التي ألفها هايدن خصيصاً في مثل هذه المناسبات، من سيمفونيات أو أوبرات أو مسرح الظل أو المسرحيات الموسيقية، كل هذا ساعد في نشر سمعة هايدن في أوروبا. وبدأت المدن الأوروبية تقدم أعماله بنجاح كبير. مثلاً أرسل الملك الإسباني كارلوس الثالث علبة تبغ من الذهب مرصعة بالألماس هدية لهايدن بواسطة سفيره في فيينا الذي سافر إلى أسترهازا خصيصاً لهذا السبب. أما فرنسا فقد هامت بموسيقاه وقدم الفارس دو سان جورج (1745 - 1799) في باريس ست سيمفونيات كتبها هايدن بتكليف من كونت فرنسي سنة 1787. وبلغت شهرته هناك حد قيام موسيقيين مغمورين بتأليف وطبع ونشر سيمفونيات لكن بتوقيع هايدن لضمان المبيعات. ووصلت شهرته بريطانيا حيث تلقى دعوات لزيارتها وقيادة أفضل الفرق هناك، لكن هايدن اعتذر عن ذلك لأنه لم يود الاستقالة من عمله عند الأمير ميكلوش الذي لم يكن يسمح لهايدن بترك موقعه في إجازات طويلة. رغم ذلك كان هايدن يعاني من عزلة "فنية" بسبب اقتصار إقامته على آيزنشتات وأسترهازا، بخلاف أقرانه الذين كانوا يقومون بجولات فنية في كل أوروبا. وحتى فيينا العاصمة الامبراطورية كان يزورها لمرات قليلة ولفترات قصيرة، وهناك التقى بموتسارت وعقد معه صداقة رغم الفارق في السن (أصبح الإثنان أعضاء في نفس المجمع الماسوني سنة 1785).

لكن الأمر تغير فجأة بعد وفاة الأمير ميكلوش في خريف 1790، عندها خلفه ابنه أنتون (أنتل) (1738 -1794) الذي حل الأوركسترا بسبب الديون الكثيرة على البلاط وبسبب عدم اهتمامه بالموسيقى والفنون. لكنه أبقى هايدن في وظيفته عنده دون مهام محددة ودون قيود، فاستأجرهايدن بيتاً للسكن في فيينا على الفور. الآن فقط سنحت له الفرصة لزيارة لندن في 1791 للمرة الاولى، وبقي هناك لعام ونصف حيث حقق نجاحاً ساحقاً جلب له ثروة صغيرة. قدم هناك العديد من السيمفونيات ومُنح الدكتوراه الفخرية في جامعة اوكسفورد في تموز 1791، حيث قدمت سيمفونيته المعروفة باسم اوكسفورد (رقم 92) عدة مرات. وقد أطلق الاسم على هذه السيمفونية رغم تأليفها في أسترهازا سنة 1788. تأثر هايدن عند سماع أوراتوريات هندل التي قدمت في مهرجان ضخم في ويستمنستر استمر عدة أيام في أيار وحزيران 1791.

التقى هايدن بيتهوفن الشاب في مدينة بون وهو في طريقه إلى لندن، ومرة ثانية كذلك في عودته صيف 1792، قبل أن ينتقل بيتهوفن إلى فيينا شتاء نفس العام، ليصبح تلميذاً عند هايدن لفترة وجيزة. لكنه لم يحب دروسه في النظرية التي اعتمدت كتاب الموسيقي النمساوي الكبير يوهان يوزف فوكس (1660 - 1741) بقدر اهتمامه بحديث أستاذه عن التأليف الموسيقي وخبراته وكيف بنى سمعته الموسيقية.


سيمفونية اوكسفورد في صول الكبير (رقم 92) آدام فيشر يقود اوركسترا هايدن النمساوية - المجرية

https://www.youtube.com/watch?v=hEFiTZF9E9E


نصب الموسيقى (هايدن وموتسارت وبيتهوفن) في متنزه تيرغارتن - برلين



القمة


أصبح هايدن أهم موسيقي في أوروبا خلال عقد التسعينات، فقد توفي موتسارت في 1791 وبدأ بيتهوفن للتو خطواته الأولى ليرتفع نجمه لاحقاً في سماء فيينا عاصمة الموسيقى الأوروبية. قام هايدن بزيارة ثانية إلى بريطانيا في بداية 1794 قدم فيها ستة سيمفونيات جديدة. هذه المرة عرضت عليه العائلة المالكة البريطانية الاستقرار هناك لكنه رفض العرض السخي متعللا بالتزاماته لدى الأمير أسترهازي، فيعود إلى فيينا في أوائل أيلول 1795. 

عاد هايدن من لندن وفي جيبه ثروة تحقق له الاستقلال الاقتصادي عن أي مخدوم، وفي جعبته الجديد من الأفكار، سيما بعد سماعه أوراتوريات هندل التي قدمت هناك باستمرار. وكان قد تسلم من الملكة هدية ثمينة هي مخطوطة عمل هندل آلام المسيح وفق النص الألماني الذي كتبه الشاعر بارتولد هاينريش بروكس سنة 1712 (وقد استعمل نفس النص العديد من المؤلفين مثل جورج فيليب تلمان ويوهان فريدريش فاش وغوتفريد هاينريش شتُلتسل علاوة على هندل وكلهم من عظماء موسيقيي عصر الباروك المتأخر).

توفي الأمير أنتون في 1794 ليخلفه ابنه نيكولاوس الثاني (1765 - 1833) الذي قرر تكليف هايدن بإعادة تشكيل اوركسترا أسترهازي وفرقة الأوبرا. لم يكن الأمير الجديد يحب قصر أسترهازا، فكان يمضي الصيف في آيزنشتات والشتاء في قصره في فيينا. أهتم الأمير الجديد بالموسيقى الكنسية، بخلاف أسلافه، وتميز بذوقه المحافظ الذي يقرب من فن الباروك. لذلك لم يكتب هايدن  سوى القليل من الأعمال الدنيوية، رباعيات وترية (مجموعة رقم 76 بتكليف من الكونت المجري أردودي) وكونشرتو وبعض السوناتات للبيانو، بينما كتب ستة قداديس للأمير، والأهم من ذلك كتب اوراتوريو الخليقة الذي استند نصه على عمل ميلتون "الفردوس المفقود" وأجزاء من العهد القديم. كتبت النص الشاعرة الانكليزية آنّ هنتر (1742 - 1823) التي كتبت كذلك نصوص 14 أغنية إنكليزية لحنها هايدن. قُدّم الأوراتوريو للمرة الأولى في نيسان 1798 بنجاح كبير، وهو بنسختين، إنكليزية وألمانية. تبعه بأوراتوريو الفصول الذي قدم في نيسان 1801، لكنه لم يلق نفس النجاح مثل الخليقة.

تغيرت أوروبا بعد الثورة الفرنسية بشكل كبير، فقد قامت حروب وتغيرت الخارطة السياسية وزالت دول ونشبت حرب التحالف الأول (1792 - 1797) بين إمبراطورية هابسبورغ والفرنسيين. كتب هايدن النشيد الوطني النمساوي في هذا المناخ الملتهب مستلهما حماس الانكليز عند سماع النشيد البريطاني "ليحفظ الرب الملك / الملكة"، وقدم للمرة الأولى في 12 شباط 1797 في فيينا. استعمل هذا النشيد رسمياً حتى "ضم" النمسا إلى ألمانيا سنة 1938 (عدل النص بعد سنة 1918 عندما انهارت إمبراطورية هابسبورغ لتستقل الدول التي كانت تحت سيطرتها وتولد الجمهورية النمساوية). في نفس الوقت استعملت جمهورية فايمار ولاحقاً ألمانيا النازية نفس اللحن الذي كتبه هايدن لكن بنص مختلف واعتمدته نشيداً وطنياً استمر استعماله في جمهورية ألمانيا الاتحادية (الغربية) حتى اليوم بعد توحيد ألمانيا.

في مثل هذه الأجواء قُبل هايدن على الفور رئيساً فخرياً مدى الحياة في جمعية الفنون الموسيقية في فيينا في كانون أول 1797، بعد أن اُهمل من قبل الجمعية لعقود بسبب بعده على الحياة الموسيقية في فيينا والبلاط الإمبراطوري.


النشيد الوطني النمساوي (ثم الألماني لاحقاً) Hob. XXVIa:43: "ليحفظ الرب الإمبراطور فرانتس" ألفه هايدن بعد اعجابه بالنشيد البريطاني "ليحفظ الرب الملك / الملكة".  

https://www.youtube.com/watch?v=4SOy4R3085M


الرباعي الوتري عمل رقم 76 / 3 في دو الكبير (المعروف برباعي الامبراطور)، عزف رباعي كوداي. الحركة الثانية البطيئة هي النشيد الوطني النمساوي (1797)

https://www.youtube.com/watch?v=LahomNDksQg&t=6s


اوراتوريو الخليقة، كريستوفر هوغوود يقود أكاديمية الموسيقى القديمة (AAM)

https://www.youtube.com/watch?v=5gYREY8kLRE



 مسودة نشيد ليحمي الرب قرانتس القيصر بخط هايدن


الشيخوخة


عاش هايدن عمرا مديداً مقارنة بمعدلات الحياة في تلك العصور، فقد توفي ولم يتم الثامنة والثمانين من العمر. وشهد العقد الأخير من حياته المزيد من الاضطراب في أوروبا بسبب حروب نابليون. فقد انتصرت فرنسا على النمسا وروسيا في معركة آوسترليتس الحاسمة في كانون الأول 1805، نفس العام الذي دمّر الأميرال نيلسون الأسطول الفرنسي - الإسباني في معركة ترافالغر (الطرف الأغر كما تسميها العرب). وقد زار لورد نيلسون آيزنشتات سنة 1800 فقدم هايدن عدة حفلات على شرفه، بين الأعمال التي قدمها قداس أصبح يعرف باسم قداس نيلسون، وأهدى له أغنية "سطور من معركة النيل" (معركة وقعت في 1798 وهي واحدة من أهم انتصارات نيلسون). وقد قتل نيلسون في معركة الطرف الأغر كما نعرف.

استمر هايدن بالعمل على طبع أعماله وقيادة الفرق لتقديمها بوتيرة متصاعدة مع تصاعد شعبيته، لكنه لم يؤلف في سنواته الأخيرة أعمالاً موسيقية ذات بال. قال لكاتب سيرته في 1799 "للأسف تتكاثر أشغالي، بقدر ما تتكاثر سنين عمري". وبدأت أعماله الأخيرة الناضجة، اوراتوريو الخليقة والفصول على الخصوص، تقدم في مختلف العواصم الأوروبية لتجلب له المزيد من المردود، وأصبح هايدن عضواً فخرياً في المزيد من الأكاديميات والجمعيات الموسيقية الأوروبية. بالمقابل نشط في جمع التبرعات للأعمال الخيرية وتمويل المشافي ودور الأيتام عبر تخصيص ريع بعض حفلاته لهذا الغرض. وكان تقديم أعماله وحضوره فيها مناسبة اجتماعية هامة، يحضرها النبلاء والشخصيات والموسيقيون.

احتلت جيوش نابليون فيينا في تشرين ثاني 1805 للمرة الأولى، أما احتلالها في منتصف أيار 1809 فترافق مع أيامه الأخيرة. كان هايدن الشيخ يهدئ من روع خدمه أثناء قصف المدفعية الفرنسية قائلا: "يا أولادي، لا تخافوا، حيثما يوجد هايدن، لا يحصل أي مكروه". وتشتهر حادثة زيارة كابتن في الجيش الفرنسي الذي احتل فيينا هايدن في بيته للتعبير عن إعجابه بهذا المؤلف الكبير في 17 أيار وغنائه بعض أغاني هايدن. 

جلس هايدن عند البيانو للمرة الأخيرة يوم 26 أيار وأنشد "ليحمي الرب فرانتس القيصر" ثم مات يوم 31 أيار. سُجي جثمانه في كنيسة أيجيديوس القريبة من داره قبل دفنه ثم قُدّم فيها قداس من تأليف أخيه ميخائيل هايدن في اليوم التالي، وأقيم له استذكار كبير في الكنيسة الاسكتلندية في قلب فيينا قُدّم فيه قداس من تأليف موتسارت بعد اسبوعين من وفاته عقب عودة الحياة إلى العاصمة الإمبراطورية المحتلة. لكن في مفارقة من مفارقات القدر قدم عمل هايدن Te Deum في كاتدرائية سنت شتفان حيث كان هايدن صبياً في الكورس، احتفالاً بمناسبة بلوغ نابوليون عامه الأربعين في 15 آب 1809.

وصفت موسيقى هايدن ذات مرة بأنها تجلب السعادة. إذا أمعنّا في الأمر سندرك إن هذه السعادة تكمن في الوصول إلى حالة من التوازن. فقد كان يجمع بين الفكاهة والجد بلا تعارض وبشكل نادر. أما الحركات التي استعملها في السيمفونية والرباعي الوتري فهي سريعة (بعد مدخل بطيء قصير)، بطيئة، راقصة، وختمها بحركة سريعة، وهذا السعي إلى التوازن هو مصدر من مصادر السعادة. 


قداس نيلسون. غريته بدرسن تقود كاميراتا أوسلو وفرقة الهوائيات النرويجية وكورس أوسلو:

https://www.youtube.com/watch?v=O1lGDuB9NP8

سطور من معركة النيل غناء دوروتي ميلدز ولوسيوس رول على الفورتبيانو:

https://www.youtube.com/watch?v=6_UXVyZSK6Q


نشرت في صحيفة المدى بين 2 نيسان - 7 أيار 2023 في خمس حلقات

بحث هذه المدونة الإلكترونية

صدر مؤخراً

بارتوك وتجميع الموسيقى الشعبية

الجذور كان الموسيقي المجري البارز بيلا بارتوك (1881 - 1945) من بين أوائل الباحثين الذين وضعوا أسس علم الموسيقى الشعبية (Ethnomusicology)، وك...