الأحد، 7 فبراير 2021

مقدمتا ترجمتي لعملي إمْرَه كَرْتَيْس "الراية الانجليزية" و "محضر"


 

إمره كرتيس: الراية الانجليزية

 

اجتهدت الصحف في تفسير سبب منح إمْرَه (بالهاء المهملة، أو إمْرَ بفتح الراء) كرتيس جائزة نوبل للآداب منذ لحظة الاعلان عن ذلك، والأهم من ذلك أنها حاولت التعرف على كرتيس، الذي جهلناه، وقراءة وفهم أعماله وآرائه التي جهلناها هي الاخرى. ما نعرفه اليوم عن كرتيس يختلف بعض الشيء عن ذاك الذي صدر أول الأمر في الصحف (دون استثناء، ومنها الصحف العربية)، وذلك بعد قراءة بعض أعماله ومتابعة اللقاءات التي جرت معه، ومتابعة مجريات حفل تسليم الجائزة.

بعد الاطلاع على أعمال كرتيس، بدأ العمق الفلسفي الفكري فيها يتوضح، وهو الأمر الذي يقف وراء قرار الأكاديمية السويدية بمنحه جائزة نوبل دون شك. كرتيس إذن لا يكتب أدباً (فهو يقول في الراية الانجليزية: “لست متخصصاً في الأدب، لا بل أنني لا أحب الأدب ولا أقرأه منذ وقت طويل”)، انه مفكر وفيلسوف وليس روائياً بالمعنى الدقيق للكلمة. لغته ثقيلة، معقدة، صعبة، بعيدة عن الصياغة الأدبية الجميلة وحتى متكلفة في بعض المواقع، لكنها في المقابل واعية، يختار كلماته بعناية فائقة، يبني دمله بعناية أكبر. ولا أستطيع الجزم هل اللغة عنده غاية بحد ذاتها أم وسيلة لإيصال أفكاره. نجد في أعماله (وفي العمل الواحد كذلك) تفاوتاً في اللغة، وهذا يعتمد على الرسالة التي يحملها المقطع المعني، واللغة هنا انعكاس للحالة النفسية اللحظية التي تمر بها الشخوص في هذا المقطع. فيعكس قصر الجمل وتسارع إيقاعها وخلوها من الأفعال ذروة التوتر، في حين تشير الجمل الطويلة المملة المليئة بالجمل الاعتراضية المتداخلة إلى بعض الارتخاء، حيث يسنح لبطل القصة (وهو كرتيس ذاته) وقت كافٍ للتفكير. واللغة التي يستعمل غير معتادة في محيط التعبير الأدبي المجري الذي يموج برهافة الصياغة وجمال اللغة. وقد يكون التعقيد اللغوي الذي يميز أعماله طبيعياً في بيئة اللغة الألمانية التي اعتادت ذلك، لكنه غريب بالتأكيد عن روحية اللغة المجرية. مع ذلك، فهو بين القلة من الكتاب الذين يجيدون قراءة أعمالهم بطريقة تسحر السامع. فما الذي يقدمه كرتيس لنا؟

يحذرنا كرتيس من المصير الذي بلغته الحضارة الأوربية، الانحدار الذي بدأ منذ زمن دون أن ينتبه له أحد، السقوط الذي لم يشأ أحد الاعتراف به، فالحضارة الأوربية سمحت بوقوع الهولوكاوست في الحرب العالمية الثانية دون أي اعتراض.

من جانب آخر يدرس كرتيس الانسان الذي أفرزته أنظمة الحكم الشمولية، الدكتاتوريات الهتلرية والستالينية على حد سواء، دون أن تقدم أعماله اتهاماً اخلاقياً أو سياسياً لهذه الدكتاتوريات. فأعماله تخلو من هذه الأحكام والاتهامات، وهذا أحد أهم أسباب الاحتفاء شديد الحماس الذي لاقته أعماله عند الألمان، الذين ما فتئ المنتصرون جلدهم بسياط المسؤولية الجماعية عن مجازر الحرب العالمية الثانية، وفي المقدمة الهولوكاوست بالطبع. عنده لا يوجد عقاب جماعي، وأعماله لا تغذي الشعور الجمعي بالإثم الذي، خُلق عند الألمان واستغلته الصهيونية منذ الهولوكاوست لابتزاز ألمانيا وأوروبا وكل العالم. لكنه بالمقابل يضع الهولوكاوست في المركز، فهو عنده رمز انهيار الحضارة الأوروبية ونقطة الصفر في التقويم الجديد للحضارة الأوروبية. فنظام القيم الأوروبية الذي بدأ منذ ألفي عام ومر بعصر التنوير وبالثورة الفرنسية، وساد في القرن التاسع عشر عبر الفكر الانساني الأوروبي Humanism عانى من “انكسار” كما كتب الفلاسفة محذرين، وبينهم نيتشه الذي أُعجب به كرتيس كثيراً، مما يتطلب ظهور نظام جديد للقيم الأوروبية، أي إعادة إنتاج نظام القيم الأوروبي، وهو أمر يجده كرتيس بعيداً عن التحقيق اليوم. ويرى أن بناء أوروبا الموحدة الآن غير ممكن عبر الاجراءات الاقتصادية والسياسية لوحدها، عبر تحديد حجم الدعم المقدم للمنتجين الزراعيين مثلاً، بل في بناء نظام قيم جديد يحل محل ذلك الذي “كسره” الهولوكاوست. فهو يقول "أوروبا الموحدة لا تولد إلا على أساس نظام قيم أوروبي جديد". لكنني رغم اتفاقي والرأي الأخير، أعتقد أن انهيار الحضارة الأوروبية بدأ قبل الهولوكاوست. فنظرة كرتيس الى الحضارة الأوروبية نظرة مثالية، إذ أن نفس هذه الحضارة سمحت بالعديد من الجرائم حتى قبل الهولوكاوست. وإذا ما نحينا جانباً جرائم المستعمرين الأوروبيين خارج أوروبا ونهبهم للمستعمرات على مدى قرون وهم يدّعون الحضارة والتقدم والمدنية، فقد سمحت هذه الحضارة بوقوع الحرب العالمية الاولى بكل عبثيتها وجنونها وإجرامها، والحرب العالمية الثانية بأهوالها. انهيار الحضارة الأوروبية تجلى في الحرب الاولى وما تلاها من اتفاقيات "سلام" مهينة أعادت تخطيط حدود دول أوروبا (واقتسام العالم)، هنا حصل الانكسار في نظام القيم الأوروبية. فهل الفظائع بالنسبة الى أوروبا هي فقط ما حدث لليهود على يد الألمان في الهولوكاوست؟ هل يتعين علينا نسيان فظائع الأوروبيين بحق الآخرين، لنقل فظائع الفرنسيين بحق الجزائر؟ الهولوكاوست إذن هو أحد نتائج هذا الانهيار وليس علامة له.

محور أعمال كرتيس هو "الأنا"، ولا عجب في ذلك، فأعماله تقترب من السيرة الذاتية على الأغلب، لكن ذلك يوضح من جهة اخرى التأثير الشديد للفلسفة الوجودية على آرائه. يقول في محاضرته بمناسبة تسلمه مقعد الأكاديمية السويدية "في يوم ربيعي جميل من عام 1955 خطرت ببالي بغتة فكرة: توجد حقيقة واحدة فحسب، هذه الحقيقة هي أنا، هي حياتي.." كذلك تساءل "لمن يكتب الكاتب؟ الجواب واضح: لنفسه". والراية الانجليزية هي أشبه بسيرة ذاتية تغطي فترة من حياة كرتيس تقرب العقد من السنين تنتهي بعد فشل الثورة المجرية التي قامت ضد الاستبداد الستاليني في 23 تشرين الأول (اكتوبر) 1956. يروي فيها قصة علاقته بالصحافة المجرية حيث عمل في صحيفة مسائية يجري تحريرها مبكراً في الصباح ("تحتم عليّ وقتئذ أن أذهب .. في وقتٍ مبكرٍ حد اللعنة، لنقل في السابعة من كل صباح")، ويشرك القارئ في تجربته مع اوبرا ريشارد فاغنر (1813-1883) “الفالكيرات” Die Walküre التي أسماها فاغنر دراما موسيقية وهي الحلقة الثانية من رباعية “خاتم النيبلونغ” Des Ring des Nibelungen وموضوعها الأساطير الجرمانية القديمة. يتحدث لنا عن فوتان Wotan (أودن) إله الحرب والسحر وهو كبير الآلهة عند الشعوب التيوتونية (الجرمانية والسكندنافية)، والفالكيرات وهن بناته المحاربات، إحداهن برونهيلدا التي عاقبها أبوها بعد أن عصته لتصبح انسية فانية لكنها تتزوج من البطل زيغفريد (سيغورد) بعد تمكنه من اختراق حاجز اللهب الذي وضع عقبة لاختبار من يتقدم للزواج منها. ونذكر أن فاغنر كان المؤلف الموسيقي الأثير لدى هتلر، وهذا سبب معارضة بعض الأطراف في اسرائيل تقديم أعماله هناك، كذلك سبب تجنب الدول الاشتراكية السابقة تقديم أعماله في البداية رغم أن فاغنر لا علاقة له بالنازية، فقد توفي قبل ثلاثة عقود من ظهورها. لكن موسيقى فاغنر عادت في السبعينيات والثمانينات الى قاعات الموسيقى والاوبرا في الدول الاشتراكية بقوة لتحتل مكانها الطبيعي. الى جانب فاغنر يذكر يوهان شتراوس وبيتهوفن وغوستاف مالر وهو موسيقار وقائد اوركسترا نمساوي اشتهر بسيمفونياته العشرة وبأغانيه، وقد تميز الكثير من أعماله بتناول أفكار الموت، منها مجموعته الرائعة "أغاني موت الأطفال " من شعر ريلكه. ثم يأخذنا كرتيس الى عالم الادب، الى أرنو سيب Szép Ernő (1884-1953) وهو كاتب وشاعر مجري معروف تتميز أعماله بالنقاء والسذاجة الطفولية، ويعرج على وتوماس مان وغوته وتولستوي.

تجري حوادث القصة القصيرة في الفترة التي يسميها كرتيس زمن الكارثة، أي فترة الحكم الدكتاتوري الشمولي (التوتاليتاري) حيث تحول الفرد الكينونة، الوجود الى مفصل من مفاصل آلة الاستبداد رضي أم أبى (وهذا ما عبر عنه الشاعر المجري جولا إييش في قصيدته الرائعة "جملة واحدة عن الاستبداد"). ويتفصل كرتيس في وصف علاقة الفرد بمحيطه ونفسه في سعيه للحفاظ على تفرده وكينونته ووجوده في خضم هذا السيل. ويذكرنا في هذا الصدد بالحاكم المستبد ماتياش راكوشي الذي بنى نظام حكم هو نسخة من نظام حكم ستالين وبنفس البشاعة، بمكتب أمن الدولة ÁVH سيء الصيت الذي كان يتحكم بحياة أو موت أي مجري أو مجرية، بالمحاكمات التي جرت لكثير من الناس، ومنهم عدد من قادة الحزب الحاكم بتهمة العمالة للإمبريالية ومن ثم الحكم على بعضهم بالإعدام مثل لاسلو رايك وتصفيتهم بهذه الطريقة الستالينية التي ابتكرها ستالين في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، التي أضحت نمطاً سار عليه المستبدون الذين تلوه يتخلصون بواسطته من منافسيهم المحتملين.

الراية الانجليزية على قصرها تسمح بإلقاء نظرة على عالم إمره كرتيس الداخلي، وتبين فلسفة الحياة التي يعتنق. وقد حاولت أثناء الترجمة الإبقاء على بناء ولغة النص الأصلي وروحيته بالقدر الذي تسمح به اللغة العربية للدور المهم الذي يوليه الكاتب للغة، ووضعت بعض الهوامش لتوضيح أهم المواضع التي تعتبر من البديهيات لدى المواطن المجري لكنها أشبه بالألغاز لغيره. 

إمره كرتيس: محضر


صدر هذا العمل في العام 1993 على صفحات مجلة ”الحياة والأدب“ سوية مع عمل الكاتب بيتر أسترهازي تحت نفس العنوان. يفحص فيه كرتيس الحال بعد التغييرات السياسية التي حصلت في 1989 بالعودة إلى التعددية السياسية والرأسمالية التي دعيت حينه اقتصاد السوق، والتغيرات بعد انقضاء عهود الحكم الاشتراكي (وهي متنوعة) وحصول الشعب المجري على الحرية التي كان يبتغيها. يصف كرتيس في عمله هذا استمرار التراكمات وبطء تغير ما في دواخل الناس رغم التغيرات السياسية الواسعة. ويقول كرتيس في عمله هذا ”خلال خمسين سنة مضت على الأقل، منذ أن دخلت بلادي في حرب ضد عالم التحضر وبالدرجة الأولى ضد نفسها – لنقل مع انقطاع دام ثلاث سنوات -، كل القوانين كانت لا قانونية”. وهو بهذا يشير إلى فترتي الحرب العالمية الثانية والحكم الاشتراكي. وتجيء في الأولى القوانين المعادية لليهود وتشغيلهم كالعبيد في المعامل وعلى جبهات القتال وفي معسكرات الاعتقال حتى الموت وإبادتهم، الأمر الذي أصبح يعرف بالمحرقة (الهولوكاوست) التي طالت معارضي الفاشية وخصوصاً اليساريين إلى جانب اليهود الغجر والمثليين، وفي هذا الصدد يجب أن نذكر أن الاضطهاد ”الحقيقي“ لليهود المجريين لم يصل ذروته إلا مع مجيء سالاشي زعيم الفاشيين المجريين إلى الحكم بعد احتلال ألمانيا للمجر احتلالا مباشراً في 1944، حيث جرى نقل الكثير منهم إلى معسكرات الاعتقال خارج المجر، ومنهم الشاعر المجري الكبير ميكلوش رادنوتي الذي اغتيل في الطريق. ويشير كرتيس إلى انقطاع دام ثلاث سنوات أتت بعد تحرير المجر على يد الجيش السوفيتي (1945-1948) حيث نعمت فيها البلاد بديمقراطية حقيقية، وشهد المجتمع حالة فورة ونشاط أعيد خلالها بناء البلاد، لكن هذه الديمقراطية انتهت في 1948 حين انفرد الحزب الشيوعي (حزب الشغيلة) بالسلطة. بعدها ابتدأ كابوس أسود، فقد انفلتت ماكنة القمع الستالينية من عقالها، وطال القمع كل فئات المجتمع وحتى العديد من قادة حزب الشغيلة مثل لاسلو رايك ويانوش كادار نفسه، وهو الأمر الذي أشار إليه كرتيس في عمله الراية الانجليزية. لكن وفاة ستالين ونقد الستالينية لم يحسنا من الأوضاع إلا القليل، فقامت ثورة 1956 المجرية التي هي انتفاضة ضد الستالينية بالدرجة الأولى، فهي ثورة وطنية شاملة متنوعة الأطياف قامت بمشاركة واسعة امتدت من الشيوعيين الإصلاحيين يساراً حتى النبلاء وأتباع الملكية يميناً. وقد قضى الجيش السوفيتي على الثورة، ونكل نظام يانوش كادار بالمشاركين فيها فأعدم إمره ناج رئيس الوزراء وأحد قادة حزب الشغيلة الحاكم، قبل أن تستقر الأوضاع فيرخي من شدة قبضة الدكتاتورية في أوائل الستينيات، ليبدأ عصر أُسمي بالدكتاتورية الرخوة.
وفي محضره يكثر كرتيس من التلاعب بالأفكار والكلمات كعادته (أن يعيش في خيال حرية العبد أفضل من عبد في خيال الحرية، وكل القوانين كانت لا قانونية) وكذلك يشرح أفكاره الفلسفية بالعلاقة مع نيتشه (الذي ترجم له بعض أعماله إلى اللغة المجرية) وسلفادور دالي. ويدخل في الحبكة موسيقى فيردي وقداسه الجنائزي، ويكثر من الاقتباسات وخاصة اللاتينية، فهو يفتتح كتابته باقتباس نص إنجيلي (إنجيل متى الإصحاح السادس 12-13) ويقتبس مثلاً هو in hoc signo vinces أي بهذه الشارة ستنتصر وهو قول لأحد أباطرة الروم البيزنطيين بعد رؤيته شارة المسيح (XP) قبل معركة من معاركه التي ينتصر فيها ليعتنق المسيحية بعدها، كما يقتبس آخر كلمات سقراط في دفاعه أثناء محاكمته (حسب رواية أفلاطون) على لسان رئيس الأطباء وغيرها.
يعبر كرتيس في عمله هذا مجدداً عن خيبة ظنه في بلده وفي العالم (أن تكون خلوقاً في عالم بلا أخلاق أمر غير أخلاقي)، وهو في ذلك لم يأت بجديد، فالكثير من أعماله تأخذ على بلده المجر وأوروبا والعالم السماح للنازية بسوق اليهود إلى المحرقة، وهذا ما يكرره في خطاباته ومقابلاته الصحفية على الدوام. كذلك تبرز هنا أفكاره بصدد ضعف الفرد مقابل ماكنة الدولة، رغم أنها ما عادت تلك الدولة الشمولية وقت دكتاتورية راكوشي الستالينية أو دكتاتورية كادار المتسامحة (وأحد أسباب منح كرتيس جائزة نوبل هو تصويره حال الفرد في ظل الأنظمة الشمولية، بشكل أدق ”لعمله الأدبي الذي ينطق باسم الفرد في مواجهة عسف التأريخ البربري“ حسب تصريح الأكاديمية السويدية).

صدرت الترجمتان عن دار المدى - مكتبة نوبل. دمشق 2004

بحث هذه المدونة الإلكترونية

صدر مؤخراً

بارتوك وتجميع الموسيقى الشعبية

الجذور كان الموسيقي المجري البارز بيلا بارتوك (1881 - 1945) من بين أوائل الباحثين الذين وضعوا أسس علم الموسيقى الشعبية (Ethnomusicology)، وك...