الاثنين، 3 أكتوبر 2022

النازية والموسيقى المنحطة

 النازية والموسيقى المنحطة







استعملت ماكنة الدعاية النازية التي أدارها غوبلز تعبير الموسيقى المنحطة لوصم الموسيقى والموسيقيين على أسس عرقية وسياسية، وكان ذلك جزءاً من حملة شاملة لمحاربة الفن المنحط عموماً حسب تعبيرهم. كان هدف الدعاية النازية حظر الموسيقى والفنون التي اعتبروها ليست ألمانية أو ليست آرية ومحو أي أثر لها وللمبدعين الذين أنجزوها، وغرس الكراهية ضدها بين الألمان. ويجيء هذا ضمن إطار السياسة النازية التي "تخلق" أعداء تسميهم بالاسم يخيفوا بهم السكان، ثم تدعي بأن السلطة سوف تحميهم من هؤلاء الأعداء المزعومين. وجرى التضييق على من ورد اسمهم في القائمة السوداء ومنعهم من مزاولة نشاطهم وصولاً إلى تصفيتهم أو تهجيرهم أو إجبارهم على الصمت في أحسن الأحوال. ويتكرر هذا السيناريو في الكثير من الدول منذ النازية حتى اليوم بأشكال متعددة. 

يجري في المقابل إعلاء شأن أنماط فنية وفنانين يمثلون السلطة، ونعرف إن الفن الجيد لا يمكن خلقه حسب المقاس مثلما تصنع الجزمة حسب تعبير برتولت بريشت. في الحقيقة لا يستطيع الفن المسيّس تقديم نتاج ذي قيمة وفق شروط الطرف السياسي، سواء كان السلطة أو معارضتها على نفس القدر، ويندرج هذا النتاج ضمن مفهوم الدعاية فحسب. فحرية الإبداع شرط أساسي لخلق فن ذي قيمة، انطلاقاً من قناعات وآراء الفنان السياسية والاجتماعية.

نظّم النازيون معرضاً في دوسلدورف افتتح في 24/5/1938 يعرضون فيه "الموسيقى المنحطة" ضمن أسبوع للاحتفال بالموسيقى القومية الألمانية، جمعوا فيه مواد صوتية ونصوص وصور عن كل ما لا ينتم للموسيقى الألمانية في نظرهم. هاجم المعرض الموسيقيين الذين صنفوا كيهود مثل مندلسون ومالر، وموسيقى الجاز (ووصمت بموسيقى العبيد Nigger) وحتى أشكال موسيقية واسعة الانتشار وشعبية مثل فن الأوبريت، واعتبر الموسيقى اللا تونية (Atonal) هلوسة تسخر من روائع الموسيقى الكلاسيكية وتتجاهل التقاليد المقدسة. نظّم المعرض المدير السابق لمسرح فايمار هانس سيفيروس تسيغلر وهو من غلاة المعجبين بهتلر. نقل المعرض إلى فايمار وميونيخ وفيينا، ولولا اندلاع الحرب الثانية في 1939 لجرى نقله إلى مدن أخرى في الرايخ الثالث. 

يلخّص ملصق المعرض الجوهر العنصري لمنظميه: عازف ساكسوفون (يرمز لموسيقى الجاز) ذو ملامح أفريقية (عنصرية ضد الزنوج) هو أقرب إلى شكل قرد يحمل على صدره نجمة داود (عنصرية ضد اليهود). وركّز النازيون على اسم جوني الذي يمثل ثقافة السود "المنحطة" في حملة واسعة، والرمز الذي استعمله النازيون في حملتهم هذه كان من دون شك أوبرا جاز وضعها الموسيقي التشيكي -  النمساوي الأصل (الأمريكي لاحقاً) أرنست كْرَنَك أو كْجَنَك (1900 - 1991) بعنوان "اعزف يا جوني" شخصيتها المحورية عازف جاز أفرو - أمريكي، زير نساء سرق كماناً ثميناً. حتى الملصق النازي كان تقليداً لغلاف طبعة مدونة الأوبرا التي قدمت هي الأُخرى في 1927.

كان استعمال اسم جوني إشارة في نفس الوقت إلى أغنية شانسون لمارلينه ديتريش المغنية والممثلة الألمانية الشهيرة "جوني، متى عيد ميلادك" وهو شانسون لاقى نجاحاً وشهرة كبيرين في 1927، في محاولة للنيل من هذه المغنية المتمردة على تقاليد ذلك العصر.

الموسيقى المنحطة حسب رؤية النازيين هي الموسيقى التي يؤلفها أو يقدمها غير الآريين، في المقام الأول اليهود، والموسيقى الأجنبية بالخصوص موسيقى الجاز والسوينغ، وكذلك موسيقى الاثنتا عشرة نغمة والموسيقى اللا نغمية (Atonal). لذلك منعوا الموسيقيين اليهود وغيرهم ممن اعتبروا غير آريين من عضوية اتحاد الموسيقيين الألمان، ومنعوا عنهم تصاريح تدريس الموسيقى، ووزعوا قوائم تتضمن العناوين الموسيقية غير المرغوب فيها، وحرضوا في خطاباتهم ومواد الدعاية والمعارض التي أقاموها ضدها. ووصل الأمر منع اليهود من ارتياد المسارح والسينمات وقاعات الموسيقى وغيرها من المؤسسات الثقافية. نجد بين الممنوعين أسماء مهمة، أهمها مندلسون، وطال المنع موسيقيين معاصرين كبار مثل إيغور سترافنسكي وآرنولد شونبرغ وأوتّو كلمبرر وبرونو فالتر وكورت فايل وهانس آيزلر وأريش كورنغولد وبوهوسلاف مارتينو وغيرهم. مطالعة الأسماء تنبئنا بعناوين المنع: اليهودية - اليسار والشيوعية - التيارات الموسيقية الطليعية.


آيزلر أمام لجنة مكارثي قس الولايات المتحدة

وضع الحزب القومي الاشتراكي الألماني (النازي) سنة 1940 قائمة تضم الفنانين الممنوعين، وبدأت بإرسال من يعتقل منهم إلى معسكر في مدينة ترزين التشيكية في شمال بوهيميا. استعمل النازيون هذا المعتقل كواجهة تعرض على الوفود الدولية مثل الصليب الأحمر، لكنه في الحقيقة كان مركزاً لتوزيع المعتقلين على معسكرات الإبادة بعد "عرضهم" على الوفود الدولية، حتى أغلق تماماً في 1944 بعدما نقل الآلاف من معتقليه من موسيقيين وفنانين إلى آوشفيتس.

أما الموسيقى التي دعمها الرايخ الثالث ورفعها بمثابة موسيقى آرية نقية، فهي موسيقى ريشارد فاغنر (1818 - 1883) وكانت مفضلة عند هتلر. لهذا السبب لم يقدم فاغنر كثيراً في الدول الاشتراكية السابقة، ومنعت إسرائيل تقديم موسيقاه كردّ فعل، إلى أن كسر المايسترو دانييل بارنبويم هذا المنع المعاكس بتقديمه افتتاحية تريستان وإيزولده في إسرائيل سنة 2001 مما أثار عاصفة شديدة ضده هناك. وهذا أمر مفهوم، إذ استعملت الدعاية النازية موسيقى فاغنر بكثرة، بالخصوص موسيقى الفصل الثالث من دراما الفالكيرات في الأفلام الدعائية عن أخبار انتصارات هتلر. واستعمال فرانسيس كوبولا نفس المقطع لمصاحبة المشهد الرهيب للسمتيات الأمريكية وهي تقصف في حرب فيتنام في فيلمه الشهير "القيامة الآن" (1978) ليس من دون سبب.


فاغنر

ويعود تعلق هتلر بفاغنر وموسيقاه إلى عدد من الأسباب، أولها اشتراكه مع فاغنر في عدائه  لليهود، واستعمال فاغنر مواضيع الأساطير الجرمانية في أعماله، وتركيزه على موضوع البطولة وبالخصوص البطل الخارق المنقذ للأمة، والطابع الدرامي والمسرحي لموسيقاه، كل هذا جذب هتلر إليها، فلا  عجب أن تحاكي أفلام الدعاية النازية عن مؤتمرات الحزب القومي الاشتراكي التأثيرات المسرحية الفاغنرية. وفوق ذلك يمكن إضافة عامل آخر، هو اعتقاد هتلر بأنه فنان قبل أن يكون قائدا سياسياً، رغم فشله مرتين في دخول أكاديمية الفنون التشكيلية في فيينا لدراسة الرسم، ومحاولته الفاشلة في "إكمال" أوبرا فاغنر "فيلاند الحداد" سنة 1908 بعد تلقيه دروس بيانو لبضعة أشهر. ويعكس هذان الأمران خللاً سيكولوجياً تجلى في اعتقاده بامتلاكه قدرات خارقة كأي بطل من أبطال فاغنر.

من المؤسف القول أن النازيين قد نجحوا لحد ما في حرماننا من عدد كبير من الأعمال الموسيقية بسبب التعتيم عليها، وأتلفوا الكثير من الوثائق والمخطوطات المتعلقة بها. ولا نزال نجهل أعمال الكثير من هؤلاء الموسيقيين، خاصة أولئك الذين بقوا تحت رحمة النازية وأجبروا على الصمت أو الذين تمت تصفيتهم في معسكرات الاعتقال، ولا تقدم أعمالهم اليوم إلا ما ندر. لذلك نعثر في القائمة السوداء على أسماء مثل النمساوي الكسندر زملينسكي الذي قيّمه برامز عالياً، ودرست عنده آلما شندلر وأحبته قبل أن تتزوج غوستاف مالر. نجد في القائمة المؤلفة التشيكية وقائدة الأوركسترا فيتزسلافا كابرالوفا التي عاشت 25 سنة فحسب، لكنها تركت لنا كنزاً من الأعمال الموسيقية القيمة. أو التشيكي بوهوسلاف مارتينو الذي منعت أعماله على أساس سياسي بسبب معارضته للغزو النازي لبلده بينما كان يقيم في فرنسا، وقد هرب إلى الولايات المتحدة بعد احتلال فرنسا. ولا بأس من ذكر عمله ملحمة كلكامش، وهو عمل استمعت إليه سنة 1980 في بودابست.

وقد تمكن عدد من الموسيقيين من الوصول إلى هوليوود وأثروا الحياة الموسيقية هناك، مثل ماكس شتاينر (لعله أشهرهم، ألف موسيقى كنغ كونغ في 1933) وأريش كورنغولد ( حصل على جائزتي اوسكار) وفرانس فاخسمان (واكسمان) وكورت فايل وهانس آيزلر وآخرون. لم يحصل الكثير من هؤلاء الموسيقيين الألمان والنمساويين الذين اقتلعوا من بيئتهم الطبيعية على الاهتمام الذي يتناسب مع قيمتهم الفنية، وتجاهلتهم الأوساط الأمريكية، ثم تعرض اليساريون والشيوعيون منهم لاحقاً إلى عسف المكارثية. ويكفي أن نذكر النهاية المؤلمة لواحد من أعظم موسيقيي القرن العشرين، المجري بيلا بارتوك، بوفاته فقيراً مديوناً في غرفة إيجار بائسة في نيويورك سنة 1945 بعد أن تفاقم عليه المرض. ولم يكن بارتوك يهوديا ولا شيوعياً، لكنه اختار الهجرة الطوعية أملاً في الخلاص من كابوس النازية وحلفائها في المجر.

تعمل المؤسسات الموسيقية على البحث في هذه التركة الحزينة والسوداء في تاريخ الإنسانية. وتقدم اليوم المزيد من الأعمال المنسية لهؤلاء الموسيقيين الذين تعرضوا للمنع من قبل النازية، وتطلق بعض المؤسسات التعليمية برامج خاصة للتنقيب عن المخطوطات والمطبوعات ودراستها أكاديميا وتقديمها ونشرها من أجل أن يستطيع الجمهور تقييمها بنفسه. من هذه المشاريع ذلك الذي أطلقته دار أوبرا لوس أنجلس بعنوان "الأصوات المسترجعة" لتقديم أعمال أوبرالية لهؤلاء المؤلفين، وهو عنوان استعارته مدرسة كولبورن للموسيقى في لوس أنجلس في إطلاق مشروع بحثي وتعليمي ويقدم طلبة ومدرسو المدرسة أعمال العديد من المؤلفين مع التركيز على أعمال إرفين شولهوف (المدى البغدادية عدد 14 آب 2022). التركيز هنا ليس على الأعمال الموسيقية المكتوبة في معسكرات الاعتقال بالطبع، إذ لا تزيد نسبتها عن 2 بالمئة من مجموع الموسيقى الممنوعة، بل على كم كبير من الموسيقى ألف منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى 1945 طمسه النازيون، واستمر مطموساً بعد ذلك حتى اليوم استناداً إلى معايير ليست فنية، بل عنصرية وسياسية.


ثائر صالح

نشرت في صحيفة المدى أعداد 21 و 27 آب و 4 أيلول 2022


بحث هذه المدونة الإلكترونية

صدر مؤخراً

بارتوك وتجميع الموسيقى الشعبية

الجذور كان الموسيقي المجري البارز بيلا بارتوك (1881 - 1945) من بين أوائل الباحثين الذين وضعوا أسس علم الموسيقى الشعبية (Ethnomusicology)، وك...