الثلاثاء، 8 سبتمبر 2020

التطورات في النقاش حول أصل المندائيين

 

تسبب وجود اسطورة هجرة المندائيين من حوض الاردن بسبب اضطهاد اليهود لهم الى الجبال الميدية "طورا دماداي" وحران في مخطوطة "هاران گويثا" (حران الداخلية) ووجود بعض العناصر السامية الغربية في الدين (مثل الكرمة "گفنا" والحق/العهد "كشطا") في نشوء نظرية الأصل الغربي للمندائيين مبكراً. وأشار الى ذلك مستشرقون كبار مثل نولدكه وليدزبارسكي، ثم أيدت الباحثة الكبيرة في المندائيات ليدي درور هذا الرأي لاحقاً، وهو الرأي الذي صاغه عالم الساميات المعروف رودولف ماتسوخ، وأيده كذلك كورت رودولف. من جانب آخر، وبسبب الجذور البابلية والرافدينية العميقة للطائفة، أشارت أقلية من الباحثين مثل باومگارتنر وفورلاني الى أن أصل المندائيين هو بابل، وهو الرأي الذي بدأ يتردد مجدداً بين أوساط علماء المندائيات.

يلخص ماتسوخ نظريته في مقدمة كتابه قواعد اللغة المندائية الكلاسيكية والمعاصرة فيقول: "يجب أن تكون هجرة المندائيين من وادي الاردن الى المرتفعات الميدية قد حدثت أثناء حكم الملك الفرثي أرتبان الثالث. وأثبتت محاولة ك. رودولف لوضع الهجرة في زمن أرتبان الخامس، وآراء إي. بامل بأنها حدثت في فترة حكم أرتبان الرابع القصيرة، أنها لا تأريخية. وقبل انتهاء الحكم الفرثي، انتشر المندائيون في كافة أرجاء وادي الرافدين. وفي القرن الثاني للميلاد أخذ العيلاميون والميسانيون منهم خطهم الذي اقتبسوه من الأنباط "[1].

أما كورت رودولف فيقول "من الصعب الحديث عن أصل المندائيين وتأريخهم، لأنه أمر لم يدرس في كتبهم على الاطلاق. وهم أنفسهم يعتقدون بأن دينهم كان الأول ووضعه عالم النور، ولا يعنيهم تأريخ هذا العالم في شيء... وتوجد اسطورة متوارثة عن إضطهاد الجماعة (بالأصح 360 ترميذا) في اورشالام علي يد اليهود الذين قادهم أدوناي والروها والشفياهي. ويعتقد أن تدمير اورشالام على يد قوى النور جاءت عقاباً لليهود على ذلك.. علاوة على ذلك، نجد في هاران گويثا تفاصيل إقامة الناصورايي في تلال ميديا (طورا دماداي) أو حران الداخلية، حيث هربوا بقيادة الملك أردبان من الحكام اليهود. وتم تشخيص أردبان الغامض هذا بالملك الفرثي أرتبان الثالث، أو الرابع أو الخامس... أي في فترة حكم الملوك الپارثيين المتأخرين في القرن الأول أو الثاني الميلادي.."[2]

ويستمر رودولف "إن تحليل نمط ومواضيع هذا التراث المندائي القديم ومقارنته مع مختلف النصوص اليوحناوية يوضح بأنه يرتبط بالتراث المسيحي الفلسطيني السوري القديم. ولا يعطينا الأدب المندائي أية إشارة الى أن الطائفة كانت في يوم من الأيام مسيحية على العكس من رأي بعض العلماء[3]... ولا يمكن نكران الأصل اليهودي للطائفة أو الناصورايي رغم النقاشات الحامية ضد اليهود في الأدب المندائي... وتذكر لفافة هاران گويثا أن الناصورايي أحبوا الرب أدوناي الى أن جاء المسيح! ومن الواضح أن معاداة هذه الطائفة اليهودية المارقة لليهودية الرسمية أدت الى وقوع الاضطهاد عليها، من المفترض خلال حروب اليهود التحررية في القرنين الأول والثاني... ومن الأفكار القديمة نجد بهيري زدقا (المختارون الحقيقيون) ومار إد ربوثا (رب العظمة) ورازا (السر) والكثير من المصطلحات واللغة الرمزية حول التعميد وكأنها تكرار لنصوص قمران. والاردن دائماً هو اسم أي ماء مناسب للتعميد للمندائيين. وتؤكد العلاقة الواضحة مع الطوائف المعمدانية شرقي الأردن ومع المسيحية البدائية في سوريا، علاوة على العديد من العناصر السورية الغربية المميزة في اللغة والميثولوجيا المندائية (مثل مندا، ناصورايي، گفنا، كشطا، والملائكة التي تبدأ بـ "يو") نظريتنا في الاصل الغربي للمندائية".

أولاً نترك المواضيع الميثولوجية المتعلقة بهجرة ما جانباً، فهي تكرار لتقاليد قديمة (هجرة ابراهيم الى حران ثم الى كنعان، هجرة أخوة يوسف الى مصر ثم الخروج العبري من مصر بقيادة موسى الخ الخ). وهناك أمثلة عديدة في تأريخ الأديان حول اقتباس أساطير وقصص من الشعوب الاخرى (والمثال الأسطع هو اطلاع اليهود على الميثولوجيا والأساطير الرافدينية بعد نفيهم الى بابل، ومنها استمدوا أساطيرهم بعد تحويرها، مثل الخليقة والطوفان، عند تحرير التوراة وكتب الأنبياء والمزامير وغيرها من كتبهم في فترات متأخرة). ما يهمنا هو العناصر الغربية في الدين المندائي. أحد أهم العناصر هو تعبير ناصورايي، فمن أين أتت هذه الكلمة وما معناها؟

أصل الكلمة الفعل نصر هو صيغة قديمة للفعل نطر، ومنها ينطر، ناطور أي يحرس، يحمي. وهي كلمة معروفة في العديد من اللغات السامية، مثل العبرية والآراميات وحتى العربية. لكن المهم هو استعمالها الديني. فهي لا ترتبط بالمندائية فحسب، بل بالقمرانيين وباقي طوائف البحر الميت وبالمسيحية كذلك.

نجد في نصوص قمران مصطلح نوصري ها-بريت، وهو يعني حرفياً حماة العهد، في إشارة الى عهد يهوه مع ابراهيم في التوراة، وهي تسمية أطلقها مؤلفوا النصوص القمرانية على أنفسهم، وتختصر بالعبرية الى نوصريم. ويمكن اعتبارها الاسم الذي عرّف به القمرانيون (أو غيرهم) أنفسهم. ومن المؤكد أن التسمية العربية للمسيحيين، النصارى، هي على نفس النحو وليس من النسبة المفترضة للمسيح الى مدينة الناصرة. فيسوع نفسه، كان يلقب بالناصورايي، أو النازاري (تحولت الى الناصري بالعربية). وهناك اشارات في كتب الآباء المسيحيين الأوائل وكتب المؤرخين القدماء الى طوائف في شرقي الاردن تتشابه في أسمائها مع ما نعرفه من الأدب المندائي: فيذكر هيگيسپّوس (من القرن الثاني الميلادي، حسب كتاب تاريخ الكنيسة ليوزيبيوس الذي توفي في 339م) الطوائف اليهودية السبع وهي: الأسينيون، الهيميروبابتست (المتعمدون في النهار) الجليليون، المصبوثيون (المعمدانيون) والسامريون، والصدوقيون والفريزيون. فالمتعمدون في النهار، والمصبوثيون هي أسماء قد تكون لطائفة معمدانية واحدة، الاولى عرفت بالاسم اليوناني، والثانية بالاسم الآرامي. ويتحدث أپيفانيس أسقف سلامينا (أواخر القرن الرابع) عن الناصورائيين والنازاريين والاوسيين في حوض نهر الاردن، وقتها كان المندائيون يعيشون في ميسان. ونجد في مخطوطات قمران تسمية ثانية للجماعة القمرانية، وهي "عوسي ها-توراه" أي مطبقي أو محققي التوراة، وتختصر الى عوسيم، وهي نفس الأوسيين التي تحدث عنها أبيفانيس. وكما مر، فإن ناصوري ونازاري تعودان الى جذر نصر، أو نطر بمعنى ناصورايي، وتغير اللفظ حسب تأثير اللغة اليونانية أو اللاتينية، لغة المصادر التي نقلت الينا الأخبار الشحيحة عن هذه الطوائف! المصطلح إذن شائع في تلك الفترة، حماة العهد، حماة الدين الخ، ولا يرتبط بدين معين كما رأينا.

وعن علاقة اليردنا بنهر الاردن، فالأمر واضح، ولا يمكن اعتبار استعمال المندائيين كلمة يردنا هي دليل على الأصل الغربي وإشارة الى نهر الاردن الحالي. تعني كلمة يردنا في اللغات الآرامية الماء النقي، الجاري. ويبدأ الپارسيون (في الهند) أسماء الأنهار بسابقة هي "أرد"، وهناك العديد من الأنهر في أوروبا تذكرنا باليردنا: الرون (ولا ننسى التسمية القديمة: رودانوس) والراين والدون. على ما يبدو أن الكلمة ترجع الى فترات بعيدة في تأريخ البشرية القديم.

إن الطبقة الأساسية للدين المندائي رافدينية الطابع، ولا يمكن تصورها في أية بيئة ثانية عدا بيئة الأهوار والأنهار والماء الوفير في جنوب العراق كما يشير عزيز سباهي بصواب في كتابه "اصول الصابئة". فهل يقبل المنطق العلمي وضع كل العناصر البابلية الغزيرة في الأدب المندائي جانباً والتشبث بحفنة من العناصر "الغربية" في الدين، لإثبات نظرية الأصل الغربي؟

والأهم من كل ذلك، هو وجود "العناصر الغربية" في جنوب بابل في تلك الفترة، متمثلة باليهود الذين آثروا البقاء في جنوبي وادي الرافدين على العودة الى أرض كنعان. فما الداعي "لاستيراد" العناصر الغربية ما دامت قد جائت من قبل مع اليهود الذين سباهم الكلدانيون الى بابل وبقوا على اتصال ببلاد كنعان؟ هذا ينطبق مثلاً على ما يسميه المستشرقون "مخلوقات يو" مثل يوشامن ويوزاطق وغيرها. وسابقة يو هذه تعرف بالـ digramma، أي الحرفين، وأصلها الحروف الأربعة، tetragramma، وهي حروف يهوه יהוה YHWH اله العبرانيين القومي. وهناك الحروف الثلاثة يهو (ياهو، مثلاً في نتانياهو). وهذا الاسم مقدس عند اليهود لايلفظوه، بل يقرأون إيلوهيم بدلاً منه (لذلك يجري تحريك كلمة يهوه بحركات كلمة إيلوهيم في النصوص). ويوشامن هو اسم مستعار من التراث الكنعاني، وأصله بعل شمين أي سيد السموات (في الأصل بعل شمايم، تحولت الى بعل شمين ثم الى يوشمين عند اليهود ومنها اشتق المندائيون يوشامن)، أما يوزاطق، فهو من يو-صادق. ومن المفترض أن يكون اسم يهيا يهانا على نفس الشاكلة. لكن لماذا لا يكتبه أو يلفظه المندائيون يوهانا بدلاً من يهانا التقليدية؟

إن اقتباس المندائيون هذه الأفكار من جيرتهم اليهود في بابل هو أسهل بكثير من نقلها عبر هجرة واسعة من وادي الاردن الى حران فبابل. ولربما هاجر عدد صغير ممن كانوا يسمون بالناصورايي من حوض الاردن فعلاً، وانظموا الى المندائيين الموجودين أساساً في أرض بابل، وهو أمر تشير اليه لفافة هاران گويثا صراحة، لكن ذلك ما لا يمكن نفيه أو إثباته في الظروف الحالية. ومع ذلك وحتى التسليم بإحتمال مثل هذا لا يفترض تأييد نظرية الأصل الغربي ما دام القادمون الجدد انظموا الى جماعة قائمة منذ زمن، ولم يأتوا بدينٍ جديد.

ولعبت نظرية الأصل الغربي دوراً في تعقيد الصورة المعقدة أصلاً، على سبيل المثال أثناء النقاش حول الخط المندائي الذي يتشابه مع الخط النبطي (في الغرب) والخط العيلامي (في الشرق). فمن يؤمن بالأصل الغربي لابد وأن يقول بأسبقية الخط النبطي على المندائي، لأن الصورة لا تستقيم إلا هكذا، فيكونوا قد أخذوا الخط من النبطيين بطريقهم الى ميسان، حيث اقتبسه منهم العيلاميون كما رأينا عند ماتسوخ. ومن المفترض أن الخط المندائي كان قد بلغ اكتماله في القرن الثالث الميلادي، ويصعب تصور اقتباسه من العيلاميين كما يرى يوسف نافيه أو يانوش هارماتا لأسباب تتعلق بتأريخ التدوين عن الشعوب الايرانية التي لم تطور أبجدية خاصة بها، ولم تستقر على أبجدية إلا بعد الاسلام عندما اختارت الحروف العربية، وحتى الأبجدية الفهلوية كانت تتألف من ثلاثة عشر حرفاً فقط. وذكر رودولف أن المندائيون طوروا أبجديتهم بعد وصولهم الى ميسان. وستظل الأبجدية رهينة النقاش حول أصل المندائيين رغم اللقى الأثرية من نقوش ونقود وكتابات.

خلال مؤتمر آرام عن المندائيين في اوكسفورد تموز 2002، شددت الدكتورة كريستا مولر-كَسْلَر على ضرورة فتح ملف أصل المندائيين مجدداً وفقاً للمعطيات الجديدة التي أفرزتها اللقى الأثرية في وادي الرافدين. وكَسْلَر مهتمة بدراسة نصوص التعاويذ التي عثر عليها في وادي الرافدين منذ القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين والتي بقيت في المخازن دون ترجمة. وتعتقد كَسْلَر أن الدين المندائي تكون في جنوب وادي الرافدين وتنكر الأصل الغربي لعدم وجود ما يبرر هذه النظرية، أيدها في ذلك البروفسور لوپييري. وترى أن نصوص التعاويذ المندائية كانت موجودة وتلمس الكثير من عناصرها في نصوص تعود الى فترات أقدم من الهجرة المفترضة، الى منتصف القرن الثاني قبل الميلاد مثلا. وتدل الدراسات الحديثة حول نصوص الأدعية المندائية أن هذه النصوص رافدينية جنوبية بالتمام، لا بل تحمل بصمات محلية ضيقة غير معروفة حتى في مناطق اخرى قريبة من بلاد الرافدين. وتجادل كَسْلَر أنه كان على الجماعة المهاجرة من فلسطين في القرن الأول أن تغير لغتها وتترجم نصوصها الدينية بثلاث لغات خلال فترة زمنية قصيرة تقرب من مئة عام هي الفترة الفاصلة بين انطلاقهم من حوض الاردن لغاية وصولهم الى جنوب وادي الرافدين، وهو أمر مستحيل عملياً، بالإضافة الى أن مثل هذه الترجمة للنصوص لابد وأن تترك بصماتها مثل وجود عناصر لغوية ومفردات من اللغة الأسبق، وهو أمر لا نعثر عليه في النصوص المندائية[4]. تقول كسلر: "إن إحياء دراسات النصوص المندائية القديمة المكتوبة على الرصاص والأوعية الخزفية في السنوات الأخيرة، يجبرنا على إعادة تقييم معلوماتنا عن معرفة المندائيين للثقافة البابلية القديمة ودورهم في نقلها. كذلك أن هذه النصوص السحرية المكتوبة باللغة المندائية بالذات هي التي ترتبط بشكل وثيق بقضية أصل المندائيين. هذا الأدب الخاص يكشف معلومات مفصلة حول الكثير من الأسئلة التي لم تجر إجابتها. إن طبقة الصوتيات والمفردات والتعابير في اللهجة المندائية يجب أن تكون أدلة كافية لإثبات الأصل البابلي للمندائيين، لكن يبدو أن هذه الحجج اللغوية لم تكن مقنعة بالنسبة لأجيال من علماء الأديان"[5].

بظهور الأجيال الجديدة من علماء المندائيات، وتزايد الاهتمام بدراسة اللقى الأثرية وهي الأدلة المادية على تأريخ جماعة ما -، يأخذ الخوض في أصل المندائيين منحىً جديداً، رغم تعقد الموضوع وتشابك عناصره وشحة المصادر التأريخية والأثرية التي ترتبط بالمندائيين.

(بحث قدم الى المؤتمر العلمي المندائي الثاني – ستوكهولم بين 9-11 آب 2002)


[1] Macuch, R.: Handbook of Classical and Modern Mandaic. Berlin, 1965. Page LXVII.

[2] Rudolph, Kurt: Mandaism. Iconography of Religions. 1971

[3] تعتقد الباحثة يورون بكلي أن المندائية هي فرقة مسيحية في البداية، ثم اختلفت مع المسيحية بعد احتواء بيزنطة للمسيحية (في القرن الرابع). محاضرة بكلي في مؤتمر آرام اوكسفورد 2002.

[4] من دراسة مولر-كسلر التي قدمتها في مؤتمر "المندائيون"، اوكسفورد، 2002.

[5] Müller-Kessler, Ch.: Phraseology in Mandaic Incantations etc. Aram, 11-12  (1999-2000) PP. 295-6

الأحد، 6 سبتمبر 2020

الموسيقى ‏ام ‏اللغات

 

الموسيقى ام اللغات

لقاء مع الكاتب

ثائر صالح

 


لوح بابلي (حوالي 500 ق.م.) وفيه شكل يشبهه الباحثون بدائرة خامسات 

  

اجرى الحوار: د. توفيق التونجي

 

 حدثنا كيف كانت بداياتك الاولى مع الاهتمام بالموسيقى؟

 ولدت في عائلة كانت تتمتع بسماع أنواع الموسيقى، بالخصوص الموسيقى التي تسمى كلاسيكية الى جاتب اهتمامها بأغاني محمد عبد الوهاب واسمهان مثلاً، والأغاني العراقية الجميلة. كان هناك جهاز غرامافون "هاي فاي" وعدد من الأسطوانات بسرعة 78 (للتسجيلات القديمة والأغاني الأمريكية الشائعة في الأربعينات والخمسينات) وعدد أكبر بسرعة 33 للتسجيلات الطويلة، ولم تكن هناك أسطوانات بسرعة 45 لأن هذه كانت تقليعة جاءت متأخرة ربما في الستينات لكن بالتأكيد في السبعينات واستعملت لتسجيل أغاني البوب المنفردة.

سماع هايدن وموتسارت وبيتهوفن وتشايكوفسكي وبرامز كان طبيعياً بالنسبة لي، وهو ما نمى لدي حب الموسيقى الكلاسيكية. ولا ننسى دور أفلام الكارتون في تلك الفترة التي كانت في تقديري أحد أهم مصادر تحبيب الموسيقى الكلاسيكية للأطفال، على الأقل تعريفهم بها. عندما كبرت بدأت بتجميع التسجيلات التي تعجبني وتلك التي قرأت عنها، وكنت أقتنيها من قسم الموسيقى في (محلات اوروزدي باك)، وأحيانا كنت أتفق مع حكمت مدير القسم فيستوردها لي. وكنت أحصل على تسجيلات كثيرة من أصدقائي الذين يقضون عطلهم الصيفية في أوروبا، فيجلبون معهم تسجيلات موسيقية. وكان للمركز الثقافي الفرنسي مكتبة موسيقية عامرة استعرت منها التسجيلات النادرة، على الخصوص تسجيلات عصر الباروك الفرنسي الذي تعرفت عليه هناك.

كانت الحفلات الموسيقية ظاهرة منتشرة في بغداد في فترة السبعينات، فحفلات الفرقة السيمفونية الوطنية الشهرية تقام في قاعة الشعب ولاحقاً في قاعة الخلد، وقدمت حفلات موسيقى الحجرة في (مكتبة الطفل العربي)، وكانت المراكز الثقافية تقدم حفلات يؤديها عازفون عراقيون وأجانب بانتظام. كنت احضر هذه الحفلات بشكل مستمر.

قرأت كل الكتب الموسيقية التي حصلت عليها، خاصة الإنكليزية التي أقتنيها من مكتبة في شارع السعدون كانت قريبة من ساحة الجندي المجهول. بين هذه الكتب عمل اوتّو كارويي "مدخل الى الموسيقى" الذي بدأت بترجمته سنة 1979 في بغداد وأكملته في صيف 1980بعد انتقالي الى بودابست، لكنه لم ينشر إلا في 2014.

 

لموسيقى الغجر التراثية اثر واضح على العديد من المؤلفات السيمفونية في الغرب. كيف ترون عملية تطعيم الموسيقى بالتراث الموسيقى الشعبي؟

 

تقسم الموسيقى على العموم الى نوعين، الموسيقى التي يؤلفها شخص معين (حتى لو كان مجهول الهوية)، وهي الموسيقى "المكتوبة" أو "المؤلفة"، وتلك التي تدخل في خانة الموسيقى الشعبية التي تتناقلها الشفاه مثل اللغة الأم، وهي غنائية على الأغلب، لا يعرف مؤلفها وغالباً ما ترتبط بمنطقة جغرافية محددة في البلد، وهي قد تختلف في لحنها أو كلماتها بشكل طفيف عن شقيقاتها في مناطق البلاد الأخرى، إن وجدت هناك. موسيقى الغجر التي تتحدثون عنها هي خليط بين الاثنين، على الأقل في وسط أوروبا وبالذات في حوض جبال الكاربات. إذ تميز جزء من الغجر بمهارات موسيقية فائقة في العزف على الأدوات الموسيقية، خاصة العزف على الكمان والسنطور (سيمبالوم، سيمبال الخ). فموسيقى الغجر هي خلطة متنوعة من تراثهم الشعبي الغنائي وتراث الشعوب التي عاشوا بينها (مجريين أو رومان أو سلوفاك أو صرب الخ)، أضافوا اليها بعض المؤلفات التي ألفوها بروحية الموسيقى الشعبية، عزفوا كذلك أغاني الأوبريتات الناجحة التي تلقى رواجاً كبيراً بين الناس. فهي أقرب الى الموسيقى المكتوبة، المؤلفة وليست الشعبية.  اشتهر في المجر مثلا پـِشتا دانكو 1858 – 1903 عازف الكمان الشهير من مدينة سَـگَـد الذي ألف الكثير من الأغاني التي دخلت في التراث الموسيقي. وقد تأثر موسيقيون كبار بموسيقى فرق الغجر التي جابت المدن الأوروبية، منهم يوهانس برامز الذي اعجب بها وهو يافع في هامبورغ حتى قبل انتقاله الى فيينا حيث تواجدوا بكثرة، واليها تعود جذور رقصاته المجرية الشهيرة.

استعمال الموسيقى الشعبية جانب آخر من التأليف الموسيقي، بدأ هذا يبرز بقوة مترافقاً مع العمل الميداني الطليعي الذي قام به الباحثون المجريون بيلا بارتوك 1881 – 1945 ولاسلو لايتا 1892 – 1963 وزولتان كودايي 1882 – 1967 في تجميع التراث الغنائي الشعبي المجري وتراث الشعوب المتعايشة في حوض الكاربات (وما وراءها، فقد جمع بارتوك الأغاني الشعبية في تركيا ولبنان والجزائر). ولا نزال نتمتع بعمل بارتوك الشهير "الرقصات الرومانية" التي استندت إلى التوثيق والمسح الميداني الذي قام به شخصيا. لكن سبق هؤلاء في التعامل مع التراث الشعبي عدد من الموسيقيين الكبار مثل هايدن الذي أعاد توزيع الأغاني الإنكليزية والسكتلندية مثلا، لكن هذا تم من منطلقات مختلفة واستند على أساس مختلف. هنا أود التركيز على جانب هام في عمل بارتوك، وفهمه لمسألة "القومية". يتعامل بارتوك مع "القومية" ايجابياً، وهو يعرف من معاينته الميدانية أن الفلاح المجري والروماني ليسا أعداء، انما يثير النعرات بينهما قادتهما لمطامع شخصية أو سياسية. وقد ألف بارتوك وصحبه الكثير من الأعمال الموسيقية التي تتعامل مع المادة الفولكلورية التي جمعوها ميدانياً، استعملوا فيها الايقاعات المعقدة والسلالم الموسيقية المميزة لها فأصبح منهجهم طريقاً سار عليه اللاحقون في تجميع التراث الشعبي على أسس علمية في مختلف بقاع العالم.

 الموسيقى الشرقية الربع طون لم تتمكن من مجاراة الموسيقى الغربية متعددة الاصوات رغم التجارب كثيرة في هذا المضمار، ولم تصل الى المستمع الشرقي الا بعض الاغاني التراثية التي حاول الشباب ادخال الالات الغربية فيها ، كيف ترى امكانية مزج هذين العنصرين في المقطوعات الموسيقية؟

 هذه إشكالية كبيرة تمتد جذورها لعقود كثيرة. بحث الأتراك مثل رؤوف يكتا (1871-1935) و د. صوفي أزكي (1869-1962)، وسعد الدين آريل (1880-1955) في الموسيقى التركية والعثمانية باستعمال وسائل البحث الموسيقية الحديثة والتدوين الموسيقي وبمساعدة عدد كبير من الموسيقيين الأوربيين المرموقين، وصاغوا فهمهم لنظرية الموسيقى التركية وهي ليست بعيدة عن الموسيقى في البلدان العربية. لكنهم استندوا إلى آخر ما توصل اليه العلماء الموسيقيون الكبار مثل الأرموي والمراغي، خاصة في تحديد نسب الأبعاد الموسيقية. واعتمدوا حساب الكومات (Comma) في تحديد قيمة الصوت، إذ يتألف لديهم التون (الطنيني) من تسع كومات، وهناك نصف تون كبير (5 من 9) ونصف تون صغير (4 من 9)، وأبعاد أخرى اصغر أو أكبر مما يعطي السلم الموسيقي الطبيعي غير المعدل طعمه وميزته. لهذا السبب يقول الموسيقيون العراقيون الذين يستعملون التون ونصف التون وربعه أن الأبعاد الموسيقية التركية تختلف عن العراقية. بالمقابل يقول المرحوم سلمان شكر أن النظام الموسيقي الصحيح هو نظام الأرموي، ونعرف أن شكر كان يميل الى المدرسة التركية بتأثير استاذه الشريف محي الدين حيدر.

وأضيف هنا أن الدراسات الحديثة على الألواح السومرية تثبت إن اليونانيين وفيثاغورس أخذوا نظرية الموسيقى البابلية عند انفتاحهم على الشرق بحدود القرن الثامن ق.م. السومريون والبابليون درسوا الأبعاد الموسيقية بشكل تفصيلي وحددوا الأصوات استنادا إلى النسب بين طول الأوتار، وهو ما فعله فيثاغورس لاحقاً. فقد عرفوا أن النسبة 1/2 هي نسبة الأوكتاف، ونسبة 2/3 هي نسبة الخامسة (المسيطرة) مثلا. ويؤكد البروفيسور ريتشارد دمبريل عالم الموسيقى الآثارية المعروف أن الأبعاد الموسيقية البابلية تشبه الى حد بعيد الأبعاد الموسيقية العربية، وتنتظم في "أجناس" مثل المقامات العربية التي تبنى من هذه الأجناس. هذه الأبعاد هي أبعاد طبيعية تناسب الموسيقى وحيدة الصوت (المونوفونية) الشائعة حتى اليوم في الشرق.

استعمل الأوربيون سلالمهم التي كانت طبيعية في البداية، وقد استندت إلى المقامات اليونانية البيزنطية التي عرفها العباسيون أيضاً لكنها تطورت بمرور الزمن. غير أنهم واجهوا معضلة بسبب ابتكارهم التعددية الصوتية (البوليفونية) والتناغم أو التآلف الصوتي (الهارموني). إذ اكتشفوا  ظهور تنافر صوتي (نشاز) بين بعض النغمات. والتنافر ينشأ في حالة تداخل موجتين صوتيتين إحداهما مع الأخرى فتتولد نبضات إن وصل عددها 32 نبضة في الثانية يحس السامع بالتنافر، فتكرهها الاذن وينزعج منها العقل. الحل كان ابعاد الموجتين عن هذه الحالة بتغيير ترددهما بحيث تكون نسبتهما الرياضية أقرب الى الأعداد الصحيحة قدر الإمكان، فظهر السلم المعدل الذي استعمله باخ (ولا نعرف بالضبط كيف عدله، إذ لا نعرف النسب الصوتية) وجان فيليب رامو. لكن هذا لم يكن كافياً، فظهر السلم المتساوي الذي حل المشكلة بشكل كامل لكن على حساب بعض المزايا الجمالية التي تمتعت بها السلالم الطبيعية في السابق. فالحل هو نوع من المساومة الصوتية الفيزياوية على حساب النسب الطبيعة، مساومة فيزياوية - جمالية.

لكن العرب والأتراك وباقي الشرقيين لا يستعملون التعددية اللحنية أو التآلف الصوتي لأن طبيعة موسيقاهم التقليدية مونوفونية. والتألف الصوتي عندنا افقي وليس عمودي، أي أن المراكز النغمية تأتي تباعاً عبر التحويل أو النقلة Modulation (في المقام مثلاً)، وليست متزامنة في نفس الوقت بهيئة كورد حتى تتنافر فيما بينها. لذلك ما هي الحاجة إلى تعديل السلم الى أبعاد متساوية مثل الأبعاد الأوربية؟ ما دامت الموسيقى العربية والشرقية عموماً مونوفونية، لا حاجة لتعديل السلم. أما استعمال السلم الغربي فهو ممكن لكن في حدود المقامات التي تتشابه درجاتها مع السلالم الأوروبية القياسية، لكنها لا تصلح للمقامات التي تحوي أبعادا غير قياسية مثل الصبا والهُزّام والحجاز والسيكاه، ناهيك عن محاولة استنباط كوردات أو تعددية لحنية لهذه المقامات.

بالطبع قد يثير هذا الكلام بعض الموسيقيين لكني أعتقد أن الموسيقى العراقية والعربية عموما لم تدرس بشكل علمي وعميق لحد الآن، بل استمرت في التقليد وتكرار ما قيل في السابق. اسوق مثالاً واحداً بالحديث عن المقام العراقي، إذ لم أعثر على تعريف واضح لهذه الظاهرة الموسيقية الفريدة، بل عادة ما يجري الحديث عن أمور جانبية ليست أساسية مثل تعداد أسماء المقامات وأصولها الجغرافية ومن الذي ابتكر المقام الفلاني، والقطع الموجودة فيه ونوع الشعر المستعمل في هذا المقام أو ذاك هل هو فصيح أم عامي وما هو إيقاعه. لكن ماهو المقام العراقي؟ لا أحد يجيب على هذا السؤال بتعريف واضح يتألف من جملة واحدة أو جملتين. في الحقيقة هناك تعريف واحد قصير أعتبره الأشمل هو ما وضعه الراحل شعّوبي إبراهيم إذ يقول في كتابه "دليل الأنغام لطلاب المقام" ما يلي: هو مؤلفة غنائية له قواعد محدودة لانتقال المغني من نغم الى آخر ويكون للإرتجال الغنائي نصيب فيه (تمهيد، ص 7). وشعوبي هو أحد الذين أنقذوا المقام العراقي من الضياع بعد إسقاط الجنسية عن يهود العراق الذين برعوا في المقام. هذا التعريف يعزز رأيي القائل أن المقام العراقي هو شكل موسيقي غنائي (مثل الأوبرا)، يؤلفه قاريء مقام متمكن ويقوم من يأتي بعده بتقليده، فالأمر يشبه تماماً تأليف جورج بيزيه أوبرا كارمن الشهيرة التي تقدم اليوم بقراءات متعددة حسب فهم وإمكانيات قائد الاوكسترا ومخرج العمل، مع فارق هو حرية الارتجال في المقام. مثلاً مقام اللامي الذي نسب الى المرحوم القبانجي هو عمل موسيقي من تأليفه لحن فيه نصاً معيناً استناداً إلى تجاربه وخبرته في التراث الذي وصله من المقام العراقي، وهو ما يعرف باللغات الأوروبية (Repertoire).

 نجح العديد من الموسيقين في نركيا وايران من استخدام البيانو في اعادة تأليف الموسيقى الشرقية وتوزيعها. وقد كانت لبعض الفرق السمفونية حضور على الساحة الفنية في العراق ومصر ودول اخرى. لكن تلك المحاولات بقت ضمن التجارب وفي دول المغرب العربي لا تزال هناك محاولات جادة ربما لم نكتمل ، هل ترى بان عصر السمفونيات على الاقل في الشرق في طريق الغروب؟

 هذه المحاولات كثيرة، فاستعمال "التراث" الموسيقي في كتابة أعمال اوركسترالية يعود الى عقود كثيرة في العراق، فقد ظهرت أولى المحاولات في الأربعينات والخمسينات واستمرت بعدها بأشكال مختلفة، ولدينا مؤلفون كبار من الأجيال السابقة والأجيال اللاحقة والكثير من المؤلفين الشباب. لكن المشكلة تظهر مجدداً في أي نظام موسيقي يكتب هؤلاء، أي لغة موسيقية يتحدثون؟ هل يتحدثون باللغة الموسيقية العراقية أم الأوربية؟ يمكن توزيع اغنية "تراثية" للاوركسترا واستعمال هارموني بسيط (وضعت تراثية بين قويسات لأنها الكلمة الشائعة للتدليس وتجنب نسبة هذه الأعمال العظيمة الى مؤلفها مؤسس الاغنية العراقية الحديثة الموسيقار اليهودي صالح الكويتي). لكن هذا لا يعني أن التأليف الموسيقى سيصبح اوركسترالياً، إذ أن قلة قليلة من الموسيقيين تمكنوا من اللغة الأوروبية في التأليف مثل فريد الله ويردي وعبد الأمير الصراف من السابقين.

استعمال البيانو غير منتشر لأنه الأداة الموسيقية التي تتجلى فيها عملية تعديل السلم الموسيقي الأوروبي بأبهى صورها، حصل التعديل في الحقيقة بسبب البيانو وقبله الهاربسيكورد أو الكلافسان أو بشكل عام ما يسمى بأدوات المفاتيح ومنها الأورغن في الكنائس. لأن أوتار أو أنابيب هذه الأدوات تنصب أو توزن ولا يمكن تغيير هذا الوزن أثناء تقديم العمل الموسيقي، بينما يمكن التحكم في تردد الأنغام عند العزف على الكمان مثلاً، إذ لا توجد على زنده عتبات تمنع القيام بذلك فيجري تجاوز التنافر بسهولة في الرباعي الوتري مثلاً.

يمكن وزن نغمة لا الوسطى على تردد 415 هرتس (ذبذبة في الثانية) لتقديم موسيقى الباروك أو 440 هرتس لتقديم الموسيقى الرومانتيكية أو أي تردد آخر، ووزن المفاتيح الباقية حسب تعليمات نظام الوزن المتساوي أو حسب نظام الوزن المعدل الذي ابتكره جان فيليب رامو لتجاوز التنافر بين النغمات. هذا البيانو غير قادر على إصدار أصوات تناسب نغمات مقام الرست، لأن الأبعاد الموسيقية بين مفاتيح البيانو لا تعطي الأبعاد الموسيقية المستعملة في هذا المقام. لذلك تم ابتكار أجهزة ألكترونية تعطي ترددات مقاربة لترددات درجات المقامات العربية، لكن ما الفائدة من كل هذا الجهد إذا كانت الحاجة الى إصدار لحن واحد وليس عدة ألحان في آن واحد؟ زد على ذلك صعوبة استعمال هذا الجهاز المعقد لتقديم كوردات (أي مجموعة نوطات تؤدى في نفس الوقت) هذه الكوردات ستكون متنافرة في حالة الأبعاد الموسيقية غير القياسية مثلما كانت الأدوات الأوروبية تعاني من هذه المشكلة قبل تعديل أنظمة الوزن في القرنين السادس عشر والسابع عشر.

 اخذت الموسيقى الاسبانية الكثير من الموسيقى الشرقية منذ ايام زرياب واسحق الموصلي وطعمت موسيقاها بحيث اصبح المستمع الغربي يستسغها. كانت هناك العديد من المحاولات خاصة في مصر وابنان لموسيقيين معروفين قاموا باستخدام مقاطع من الموسيقى السيمفونية في اللحانهم امثال: محمد عبد الوهاب وفريد الاطرش والرحبانيان واخرون. نجحث بعضها ولا يزال يرددها المستمع الشرقي لحد اليوم. هل تعتقد بان سيكون هناك محاولات اخرى جادة في هذا الطريق؟

 الأندلس وبعدها اسبانيا كانت واحدة من أسباب تطور الموسيقى الأوروبية. ومنها انتقل العود الى أوروبا ليصبح الأداة الموسيقية الرئيسية لقرون، قبل أن يحل محله البيانو الذي أصله السنطور الشرقي هو الآخر. لكن زند (رقبة) العود الأوروبي معتّب مثل الغيتار الذي تطور منه. هذا من ناحية الأدوات، أما الأشكال الموسيقية فقد أخذت أوروبا الكثير من الموشح واستعملته في السونيت مثلاً كشكل شعري وموسيقي ظهر في صقلية في بيئة شديدة التأثر بالثقافة العربية. ولا تزال تسجيلات الموسيقى التي تعود الى القرون الوسطى أو عصر النهضة تذكرنا بالموسيقى الشرقية.

من أكثر التيارات الفنية المعاصرة نجاحاً هو التيار المسمى "Fusion" أي المزج والتوليف بين أدوات موسيقية مميزة لثقافات موسيقية مختلفة والتوليف بين هذه النظم الموسيقية المختلفة. كأن يجري استعمال العود والغيتار الاسباني، وكلنا يتذكر مقطوعة الشلالات التي قدمها الفنان الكبير جميل بشير على العود مع فرقة موسيقية تقليدية من أمريكا اللاتينية تستعمل الغيتار والهارب. نفس النهج يسير عليه اليوم ابن أخيه عمر بشير، ابن عازف العود والموسيقي اللامع منير بشير، إذ يوائم بين العود والغيتار وقدم حفلات عديدة مع فرق الفلامنكو الأندلسية المعروفة. التركيز هنا على استعمال القدرات الارتجالية لدى الثقافات الموسيقية المختلفة واستعمال جمل لحنية تكون العمود الفقري للقطعة الموسيقية التي يتم تأليفها.

استعمال الرحابنة أو محمد عبد الوهاب لجمل لحنية من الأعمال الأوروبية الكلاسيكية تجربة قديمة وناجحة بفضل عبقرية هؤلاء الموسيقيين الكبار وذوقهم الراقي وأضيف الى ذلك ثقافتهم الموسيقية الواسعة والمتنوعة. كل هذا لا ينطبق على الكثير من المحاولات الحديثة التي ينقصها الذوق السليم والمعرفة الموسيقية العميقة، ناهيك عن وصول الذوق الموسيقي العام لدى الشعوب العربية إلى مستوى متدني بفعل تفشي الفن الرخيص وإشاعة القبح بالترافق مع التراجع الكبير في مسيرة تحديث المجتمعات العربية. فقد جرى تخريب ذوق الجمهور بشكل مستمر منذ بضعة عقود، خاصة مع ظهور التيارات الدينية المتطرفة التي تحارب كل من يختلف معها وحتى كل ما هو جميل بدعوى مخالفته مبادئ الدين، وتتغاضى في نفس الوقت عن الحكمة العميقة في الحديث الشريف القائل إن الله جميل يحب الجمال الذي يساعد برأيي على تأسيس مجتمع متزن متسامح.

بالمقابل هناك جيل جديد من الموسيقيين الشباب الذين تلقوا تعليماً أكاديمياً عالياً، وبعضهم يتكلم اللغتين الشرقية والغربية بطلاقة. هؤلاء أعادوا لنا الطرب الشرقي القديم، لكن بتقنيات فنية عالية وبدم جديد بالاستفادة من خبرتهم في الموسيقى الغربية، مثال واحد على هؤلاء الشباب عازف الكمان المبدع ليث صديق الذي تخرج بتفوق من أحد أهم المعاهد الموسيقية الأمريكية وأشهرها.

 بقت الموسيقى الشرقية مقتصرة على قالب وتسير على وتيرة واحدة متكررة ولم تعرف التطور خاصة فيما يسمى بالمقامات بينما نلاحظ العكس في تطور الموسيقى الغربية وظهور حركات فنية وفرق موسيقية احدثت تغيرات جوهرية في الموسيقى واداء الاغاني. الموسيقى الالكترونية جديدة في عالمنا اليوم ويعتمد على التطورات الكبيرة في عالم الكومبيوتر والانترنت. هل تعتقد بان تلك التطورات سينعكس على الموسيقى الشرقية؟

 أحد أهم أسباب تطور الموسيقى (العلوم والفنون على العموم) في أوروبا هو التدوين واتباع منهج علمي ونقدي في البحث. فالتدوين الموسيقى لم يتغير منذ قرون طويلة إلا بشكل بسيط، هذا يعني أنه قادر على تدوين كل ما يخطر في بال الموسيقيين. الموسيقى مثل اللغة، لا تنضب رغم وجود عدد قليل من الحروف، وستجد على الدوام مواضيعها الجديدة التي ستعالجها بنفس الحروف ونفس نظام التدوين لكن بشكل جديد يناسب التطور الذي يعيشه المجتمع ويلبي حاجاته التي تتغير على الدوام. وليس هناك جديد إذا قلنا بالحاجة الى دراسة وتحليل الموسيقى العربية على أسس علمية صحيحة وبناء نظرية علمية متماسكة تعبر عنها. لكن كيف لنا تحقيق ذلك في الحالة الراهنة لكل الدول العربية؟ ازدهار الفنون لا يحدث دون الاستقرار الاجتماعي ووجود نظام تعليمي فاعل ونمو وتراكم في الثروات الفكرية والمادية، ونحن بعيدون عن كل هذا. المواطن في الدول العربية لا يأمن حياته في الكثير من الأحيان، والغالبية الساحقة تعيش في فقر حقيقي – مادي وروحي، ويتعاظم تفشي الجهل والأمية والخرافة أكثر من أي وقت مضى منذ براعم التحديث في بداية القرن العشرين، فعن أي ازدهار للفنون نتحدث؟

أما الجانب التقني في الموسيقى فتطوره عامل مساعد سيكشف لنا أبعاد جديدة في الصوت، ويسير الآن في اتجاه التعامل مع التفاصيل الدقيقة للموسيقى والصوت، وهو أمر لم يكن متاحاً في التسجيلات القديمة التي تقدم الأعمال الموسيقية بشكل كتلة واحدة تفتقد الكثير من التفاصيل. كيف سينعكس هذا على الموسيقى الشرقية؟ عدا استغلال الإمكانيات المتاحة في هذه الطفرة التقنية من قبل عدد ضئيل من الفنانين مرهفي الحس، نرى الكم الأكبر لا يود التغيير أو لا يعرف كيف يتم ذلك في أحسن الأحوال، ربما هو انعكاس للحالة العامة في تدهور الذوق والمستوى الفني. إذ بدون وسط متلقي قادر على تذوق الفنون وتمييز الجيد عن الرديء، يصعب الحديث عن تطور في الفنون الموسيقية.

بحث هذه المدونة الإلكترونية

صدر مؤخراً

بارتوك وتجميع الموسيقى الشعبية

الجذور كان الموسيقي المجري البارز بيلا بارتوك (1881 - 1945) من بين أوائل الباحثين الذين وضعوا أسس علم الموسيقى الشعبية (Ethnomusicology)، وك...