الاثنين، 29 أبريل 2024

بارتوك وتجميع الموسيقى الشعبية

الجذور


كان الموسيقي المجري البارز بيلا بارتوك (1881 - 1945) من بين أوائل الباحثين الذين وضعوا أسس علم الموسيقى الشعبية (Ethnomusicology)، وكان هذا العلم يسمى سابقاً بعلم الموسيقى المقارن لغاية منتصف القرن العشرين. ظهر هذا العلم في أواخر القرن التاسع عشر وكان المقصود منه دراسة موسيقى شعوب المستعمرات من قبل الأوروبيين، مع وجود أمثلة على دراسة الموسيقى الانكليزية والاسكتلندية والبولندية في فترات مبكرة، أو على الأقل محاولات تجميعها وتدوينها. لكن يمكن اعتبار بارتوك وزملاءه زولتان كوداي (1882 - 1967) ولاحقا لاسلو لايتا (1892 - 1963) والروماني كونستانتين برايلويو (1893 - 1958) من أوائل الذين جمعوا ودرسوا موسيقاهم الشعبية الخاصة بهم، وموسيقى الشعوب المجاورة لهم بشكل واسع، وهذا أمر أعطاه بارتوك أهمية استثنائية. استعمل بارتوك منهجاً علمياً دقيقاً في عملية التجميع التي مرت بمراحل عديدة: البحث عن المصادر الموثوقة، تسجيل الأغنية بالفونوغراف، تسجيل نص الأغنية، توثيق معلومات تفصيلية عن المصدر مثل العمر والمهنة والنشأة (البيئة الجغرافية) وممن سمع أو تعلم الأغنية، ثم تدوين اللحن وكل ما يتعلق به قبل الشروع بتحليله ومقارنته بالمادة المتوفرة في بنوك المعلومات (وهي الكتب المتخصصة والدراسات في المجلات العلمية حسب التطور التقني في ذلك الوقت). وكان بارتوك يجد في كل هذا متعة تعوض الجهد والتعب الذي يعنيه القيام بالمسح الميداني في أماكن لا تصلها المدنية على الغالب. 

يقول بارتوك: "الموسيقى الشعبية هي كائن خلقته الطبيعة … تطور هذا المخلوق مثل باقي مخلوقات الطبيعة بشكل عضوي وحر: مثل الزهور والحيوانات ونحوها. لهذا السبب بالذات فهي رائعة وكاملة بنفس القدر… إنها تجسيد نقي للفكرة الموسيقية يثير الدهشة من ناحية التعبير المكثف للشكل وقوة التعبير والتعامل المقتصد مع الوسائل المتوفرة من جهة، ومن جهة أخرى بسبب حيويتها وتأثيرها المباشر" (من مقالة "عند ينابيع الموسيقى الشعبية " 1925).


بارتوك وزوجته الثانية، دتّا باستوري


بدأ بارتوك تجميع الموسيقى الشعبية المجرية في منطقة سيك Szék في ترانسلفانيا في 1905، ثم بدأ بتجميع ودراسة الموسيقى الشعبية للسلوفاك والرومان الذين يعيشون في المناطق القريبة إلى جانب الأغاني والموسيقى الشعبية المجرية منذ سنة 1906. استمر هذا العمل الدؤوب لغاية ما بعد الحرب العالمية الأولى لكنه توقف بسبب تقسيم المملكة المجرية وتوزيع ثلثي الأراضي التي كانت تابعة لها ضمن الإمبراطورية النمساوية على دول الجوار، ومعها تجمعات سكانية مجرية استقرت هناك منذ أكثر من ألف عام (بالخصوص في رومانيا ومولدافيا). كانت هذه التجمعات القروية المجرية تمتلك أهمية استثنائية لأن الطبقات الأكثر قدماً وأصالة في التراث الموسيقي المجري لا تزال حية لديها، نجد فيها العناصر التي ترجع إلى فترات التعايش مع الشعوب التركية والإيرانية في سهوب وسط آسيا قبل قدوم المجريين إلى حوض الكاربات حيث يعيشون اليوم. وقد ساعده تجميع هذه المادة القديمة في تجميع التراث الغنائي والموسيقي الشعبي في الأناضول لاحقاً بشكل كبير. قام بارتوك كذلك بمسح ميداني في شرق الجزائر سنة 1913 كما أشرت في كتابة سابقة.

أما رحلته إلى تركيا في 1936 فجاءت بعد فترة من الانقطاع عن المسح الميداني، زار فيها اسطنبول وأنقرة حيث ألقى محاضرات في جامعتها وقدم حفلات موسيقية قبل أن يتجه إلى المنطقة الممتدة بين أضنة وعثمانية لتجميع المادة الموسيقية. 



بارتوك في الجزائر


تعرّف بيلا بارتوك على الموسيقى في شمال أفريقيا للمرة الأولى في سنة 1906، عندما عَبَر مضيق جبل طارق إلى طنجة عقب جولة فنية في اسبانيا والبرتغال كعازف بيانو مرافق لعازف الكمان المجري الطفل المعجزة فرنس ڨَيچَي (1893 - 1935). أخذ بارتوك يهتم بالموسيقى الشعبية بشكلٍ واضح في ذلك الوقت عقب سماعه الأغاني الشعبية المجرية، وقام بأول رحلاته لتجميع وتوثيق الموسيقى الشعبية المجرية في ترانسلفانيا بالتعاون مع زميله زولتان كوداي.

بالتزامن مع بدء بارتوك بتجميع الموسيقى الشعبية المجرية وتسجيلها على اسطوانات الشمع، أسس الباحث الإثنو موسيقي أريخ فون هورنبوستل (1877 - 1935) أرشيف برلين للفونوغراف (Berliner Phonogramm-Archiv) وهو مركز لتجميع تسجيلات الموسيقى الشعبية من مختلف أنحاء العالم. ونشأت بين الرجلين علاقة تعاون في 1912 بعدما أرسل بارتوك مجموعة من التسجيلات الموسيقية الرومانية إلى برلين، طالباً بالمقابل إرسال تسجيلات للأغاني الشعبية التونسية بعد اطلاعه على بحث هورنبوستل في دورية موسيقية متخصصة، كما طلب منه إرسال اسطوانات جديدة حتى يستعملها في رحلته الجزائرية سنة 1913.

بدأ بارتوك رحلة إلى الجزائر لمسح الفولكلور الغنائي في حزيران 1913 فزار مدينة بسكرة وتجول في الواحات القريبة مثل سيدي عقبة وطولقة والقنطرة وعلى طول خط سكة الحديد بين بسكرة وقسنطينة. أخذ بارتوك معه أحدث تقنيات ذلك العصر: فونوغراف أديسون مع عدد من الاسطوانات الشمعية لتسجيل الأغاني التي توارثها الجزائريون والأمازيغ (البربر) طوال قرون. سجّل بارتوك 96 اسطوانة شمع خلال هذه الرحلة، هي محفوظة اليوم في أرشيف بارتوك في بودابست، وقد نُقلت رقمياً على أقراص مضغوطة سي دي. وثّق بارتوك خلاصة جهده في الدورية المجرية "سيمفونيا" سنة 1917، ثم باللغة الألمانية بالتفصيل في "مجلة العلوم الموسيقية" الألمانية سنة 1920.

تدوين أحد الأغاني من بسكرة - الجزائر


لخص بارتوك تجربته الجزائرية بالشكل التالي:

"ما نعرفه عن الموسيقى العربية من مختلف المطبوعات هو ليس الموسيقى الشعبية بالتعبير الدقيق، بل موسيقى العرب في المدن، وهو بالتأكيد من بقايا الموسيقى العربية القديمة الكلاسيكية التي وصلت إلينا عبر التناقل الشفاهي بسبب عدم وجود طريقة للتدوين الموسيقي. في دراستي هذه لا أتطرق سوى إلى الموسيقى الشعبية، أي موسيقى الفلاحين التي تختلف عما ذكر أعلاه بشكل جوهري".

من ملاحظات بارتوك المهمة عن "السلالم"، يذكر أنه واجه صعوبة في إفهام الموسيقيين الجزائريين ما يعني طلبه منهم عزف السلم الموسيقي لقطعة معينة، فهم يميلون لعزف تقاسيم على المقام / النوبة الخ دون أن يفهموا لماذا يطلب منهم عزف "سلّم". ويذكر كذلك "… أن العلاقة بين درجات السلم غريبة، ولا يمكن مقارنتها بدرجات سلمنا الدياتوني أو الكروماتي المعدل إلا نادراً". نذكر هنا أن بارتوك تمتع بنعمة (أو نقمة) السماع المطلق، ما يجعله حساساً لتردد درجات السلم الموسيقي لدرجة كبيرة. أستعمل بارتوك علامات مثل + أو 0 للتدليل على اختلاف طبقة النغمة المعينة زيادة أو نقصانا عن النغمات في السلم الأوروبي المعاصر عند تنويط الأغاني التي جمعها، واستعمل الإشارات 2/♯ أو2/♭ للدلالة على اختلاف الطبقة بربع تون صعودا أو نزولاً.

الملاحظة الأخرى التي يذكرها بارتوك عن الألحان الشعبية في الجزائر، أنها تسير بشكل ضيق، يتكون اللحن على الغالب من بضع درجات متجاورة (الحديث هنا يدور حول الأغاني الشعبية مثل تنويم الطفل أو النواعي أو ما شابه، وليس حول التراث الموسيقي الكلاسيكي المعقد مثل التراث الأندلسي).

حديث بارتوك عن الإيقاع مثير، فهو يقول: "الإستعمال الثابت لأدوات الإيقاع في مصاحبة الألحان في إيقاع صارم … المستوى العالي لتطور الإيقاع يتناقض مع بدائية الشكل والمساحة الضيقة للحن".

استعمل بارتوك المادة التي جمعها في الجزائر وكذلك فهمه لهذه المادة في حوالي عشرة من أعماله، منها متتابعة البيانو (عمل رقم 14 - سنة 1916، الحركة الثالثة)، وعمله المتميز "المندرين العجيب" والحركات الأولى الأربع من متتابعة الرقص (1923) والرقصة العربية من 44 ثنائي للكمان (رقصة رقم 42) والقطعة رقم 58 من مجموعة البيانو الثانية من "ميكروكوزموس" (1936).


مؤتمر القاهرة للموسيقى العربية 1932


ساهم بارتوك في مؤتمر القاهرة الشهير سنة 1932، ولربما كان هو وفون هورنبوستل الوحيدين بين الحاضرين ممن اهتم بذلك الفرع من الموسيقى، أي الشعبية، التي اعتبرها الجميع متخلفة وليست مهمة. وعثر بين مسوداته على مخطط لورقة عمل باللغة الفرنسية حول الموسيقى العربية اقترحها على الحاضرين، نلمس صداها في وثائق المؤتمر. تذكر المسودة الأهمية القصوى لطبقة الموسيقى الشعبية بشكل تفصيلي، وتتطرق إلى خطة وطريقة لتجميعها وتصنيفها في نفس الوقت. تتناول الورقة تفاصيل كثيرة، بينها مشكلة التناقض بين اتجاه كتابة اللغة العربية مع اتجاه سير التدوين الموسيقي - النوطة في حالة تدوين النص مع الموسيقى، وتدعو إلى استعمال نتائج تجميع الموسيقى العربية الشعبية في تطوير الموسيقى العربية المعاصرة. 

أسهم بارتوك وفون هورنبوستل في لجنة التسجيل التي رأسها روبرت لاخمان (1892 - 1939) بسبب اهتمامهما بتوثيق الموسيقى الشعبية. قامت لجنة التسجيل باختيار الفرق التي يجري تسجيل أعمالها، ونلاحظ تأثير الرجلين عند اختيار تسجيل "فرقة من العازفين عزفاً بلدياً من القاهرة" وتسجيل "مغنيات (عوالم) من القاهرة" وتسجيل "طبل ومزمار بلدي من القاهرة" وتسجيل "زار (غناء ورقص)" وتسجيل "مغنين ريفيين من الفيوم"، إلى جانب سماع فرق الدول العربية وعزف الأستاذ مسعود جميل بك الطنبوري (1902 - 1963) الذي درّس في معهد الفنون الجميلة في بغداد لاحقاً. 

وقررت اللجنة بالإجماع "عظم الأهمية التي تستفاد من الموسيقى الريفية ومن الأغاني المرتبطة بالحياة العامة… (أغاني أوقات العمل وأغاني الملاحين والباعة في الطرق)... والبحث عن هذه الموسيقى في الأرياف وبين القبائل الرحل.." ووضعت توصيات بالغة الأهمية نلمس فيها الكثير مما اعتاد بارتوك شرحه في دراساته وكتاباته حول قواعد تجميع الموسيقى الشعبية. وتضمّن تقرير اللجنة إلى المؤتمر هذه التوصيات والآليات نجدها في الصفحات 93 - 110 من وثائق المؤتمر. 



الرحلة الى تركيا



طلب مصطفى كمال أتاتورك من الموسيقي الألماني باول هندميت (1895 - 1963) المساعدة في تنظيم ما يتعلق بالحياة الموسيقية على أسس جديدة معاصرة، وكان هذا في سنة 1935. قام هندميت بإعادة تنظيم التعليم الموسيقي وتأسيس داراً للأوبرا وإطلاق فن الباليه على أسس حديثة. لكن لم يكن هناك عالماً موسيقياً تطلب منه الحكومة التركية التعامل مع التراث الشعبي الموسيقي سوى بارتوك الذي ذاع صيته في الأوساط العلمية بصفته حجة في العلوم الإثنوموسيقية، على الخصوص بعد أبحاثه الجزائرية (1913) ومشاركته البارزة في مؤتمر القاهرة الدولي للموسيقى العربية في 1932.

رأى بارتوك أن استعمال المادة الموسيقية الشعبية (أغاني وموسيقى الفلاحين بالدرجة الأولى) في التأليف الموسيقي يمكن أن يجري على ثلاثة مستويات: المستوى الأول هو استعمال العمل الموسيقي الشعبي بشكل أمين، المستوى الثاني هو اختيار المؤلف الموسيقي موتيفات معينة من المادة التي يعالجها وإدخالها في عملية التأليف الموسيقي بحيث يمكن تمييزها والتعرف عليها، أما المستوى الثالث فهو استعمال الأسلوب الموسيقي للمادة الشعبية وملامحها دون اقتباس أي شيء ملموس من مادتها. ونجد في أعمال بارتوك كل هذه المقتربات من معالجة المادة الموسيقية التي جمعها وحللها، مثلما ذكرت في كتابة قبل بضعة أسابيع.



كان بارتوك مقتنعاً بوجود قرابة موسيقية مجرية تركية بالأساس، خاصة بعد عثوره على نماذج مشتركة ضمن ما حصل عليه من مادة موسيقية تعود لمجموعات إثنية من الأورال تستعمل سلماً موسيقياً خماسياً (پنتاتوني). لذلك قابل بفرح كبير دعوة خلق اولري (بيوت الشعب، وهي حركة أسسها حزب أتاتورك) في ربيع 1936 لإلقاء محاضرات في جامعة أنقرة عن جمع الموسيقى الشعبية وتقديم مؤلفاته الموسيقية.

وصل بارتوك اسطنبول في 2/11/1936 واستقبله هناك الموسيقي التركي المعروف أحمد عدنان سايغون (1907 - 1991) ورافقه طوال جولته التركية، كما رافقه باحثان من جامعة أنقرة ليتعلما منه "أسرار المهنة" خلال جمعه المادة التراثية.

وقع اختيار الأتراك على مناطق السكن الشتوي لقبائل اليُرُك، وهي قبائل لا تزال شبه بدوية قريبة من عثمانية وطرسوس  ومرسين وعينتاب القريبة إلى الحدود السورية. لكن رحلة التجميع هذه واجهتها صعوبات كثيرة، فعدا الأمطار وصعوبة التنقل في المناطق النائية واستعماله وسائل نقل بدائية ومرضه لفترة، اصطدم بالتقاليد التي تمنع المرأة من الغناء أمام الغرباء وبتخوف المغنين من التقنية الغريبة التي شاهدوها أمامهم وهي الفونوغراف واسطوانات الشمع، وخوفهم من فقدان صوتهم بعد تسجيله مثلما ينحبس الجني في المصباح السحري.

وصف بارتوك رحلته التركية في كلمة أذاعها الراديو المجري بعد شهر ونيف من عودته، ونشرت الكلمة في العدد الأول من أشهر دورية أدبية مجرية في التاريخ هي نيوغات (الغرب) سنة 1937، تطرق بارتوك فيها إلى أوجه التشابه بين الأغاني التركية والمجرية. أنجز بارتوك تدوين وتحليل كل المادة التي جمعها في تركيا في أيار، بعد ستة أشهر من عودته.

جمع بارتوك أكثر من 100 من الألحان الشعبية (تُركو) في المناطق التي زارها في جنوب الأناضول وقرب أنقرة سجلها على 64 اسطوانة. وقد عثر على كنز كبير أثناء لقائه في العثمانية بعلي بكر أوغلو بكر (70 سنة) الذي أسمعه أغان وجد ألحانها مشابهة لأغاني مجرية يعرفها. شرع بارتوك بدراسة المادة التي جمعها فور عودته إلى بودابست، فدون الألحان وحللها وصنفها حسب الألحان إلى مجاميع، ثم بذل جهداً كبيراً لتدوين النصوص بالتركية بمساعدة الموسيقار التركي عدنان سايغون الذي رافقه في رحلته وعلماء مجريين.

لكن تطور الأحداث في تلك الفترة مثل احتلال جيكيا وضم النمسا إلى ألمانيا دفع بارتوك إلى التفكير بالهجرة. وكان يفكر جدياً في العمل في مسح الفولكلور الغنائي في تركيا مقابل توفير معيشته، وطلب من عدنان سايغون التوسط عند معارفه لهذا الغرض دون طائل بسبب تغير الأوضاع الداخلية في تركيا نفسها.




في الختام، هاجر بارتوك إلى الولايات المتحدة خريف 1940 على أمل العودة إلى بلاده بعد الحرب. فعمل في جامعة كولومبيا باحثاً في تحقيق مجموعة من الأغاني الشعبية الصربية والكرواتية وبحث في موضوع الفولكلور الروماني وأنجز مجلدات عن الموسيقى الشعبية الرومانية الغنائية والأدواتية في نهاية 1942 دون أن تنشر، لكنه جهّز محاضرات عنها ألقاها في جامعة هارفارد. وبموازاة ذلك عمل على المادة التركية التي جمعها، وجهّزها للنشر في 1943 دون أن يجد من ينشرها بسبب انعدام الإهتمام بها. وضع بارتوك مسودة كتابه "الموسيقى الفولكلورية التركية من آسيا الصغرى" صيف 1944 في مكتبة جامعة كولومبيا. واستمر بتأليف الأعمال الموسيقية في نفس الوقت، منها الكونشرتو الشهيرة وسوناتا الكمان المنفرد التي ألفها بطلب من عازف الكمان الشهير يهودي مينوهين. غير أن هذا الجهد الاستثنائي الذي بذله بارتوك في البحث وإلقاء المحاضرات أثر على صحته العليلة أصلاً، وترافق ذلك مع الحالة المادية الصعبة التي مرت به بسبب عدم تجديد جامعة كولومبيا عقده، والاهمال الذي واجهه هذا الموسيقار والباحث الإستثنائي، إذ لم يعر له الأمريكان المنشغلون بالحرب الكثير من الاهتمام. توفي بارتوك مديوناً في غرفة إيجار بائسة في نيويورك في 26 أيلول 1945. لم يصدر الكتاب مطبوعاً إلا بعد عقدين من وفاة بارتوك سنة 1945. فقد صدرت الطبعة الإنكليزية في 1976 ثم بالتركية في تركيا سنة 1991، ولم يصدر بالمجرية إلا مؤخرا في 2019.

يستنتج بارتوك في بحثه الطليعي استناداً إلى المادة الشحيحة التي جمعها أن 43% منها يشكّل الطبقة الأقدم والأكثر انسجاماً داخلياً والتي تحمل مزايا السلم الخماسي (البنتاتوني)، وهناك أجزاء من المادة تتشابه بشكل كبير مع الطبقات الأقدم في الفولكلور المجري. وتشير جذور الإثنين إلى أصول مشتركة في أواسط وغرب آسيا حيث عاش أجداد الأتراك والمجريين قبل 1200 - 1500 سنة. ولاحظ بارتوك أن هذه السمات المشتركة لا توجد لدى الشعوب المجاورة.


بحث هذه المدونة الإلكترونية

صدر مؤخراً

بارتوك وتجميع الموسيقى الشعبية

الجذور كان الموسيقي المجري البارز بيلا بارتوك (1881 - 1945) من بين أوائل الباحثين الذين وضعوا أسس علم الموسيقى الشعبية (Ethnomusicology)، وك...