الاثنين، 29 أبريل 2024

بارتوك وتجميع الموسيقى الشعبية

الجذور


كان الموسيقي المجري البارز بيلا بارتوك (1881 - 1945) من بين أوائل الباحثين الذين وضعوا أسس علم الموسيقى الشعبية (Ethnomusicology)، وكان هذا العلم يسمى سابقاً بعلم الموسيقى المقارن لغاية منتصف القرن العشرين. ظهر هذا العلم في أواخر القرن التاسع عشر وكان المقصود منه دراسة موسيقى شعوب المستعمرات من قبل الأوروبيين، مع وجود أمثلة على دراسة الموسيقى الانكليزية والاسكتلندية والبولندية في فترات مبكرة، أو على الأقل محاولات تجميعها وتدوينها. لكن يمكن اعتبار بارتوك وزملاءه زولتان كوداي (1882 - 1967) ولاحقا لاسلو لايتا (1892 - 1963) والروماني كونستانتين برايلويو (1893 - 1958) من أوائل الذين جمعوا ودرسوا موسيقاهم الشعبية الخاصة بهم، وموسيقى الشعوب المجاورة لهم بشكل واسع، وهذا أمر أعطاه بارتوك أهمية استثنائية. استعمل بارتوك منهجاً علمياً دقيقاً في عملية التجميع التي مرت بمراحل عديدة: البحث عن المصادر الموثوقة، تسجيل الأغنية بالفونوغراف، تسجيل نص الأغنية، توثيق معلومات تفصيلية عن المصدر مثل العمر والمهنة والنشأة (البيئة الجغرافية) وممن سمع أو تعلم الأغنية، ثم تدوين اللحن وكل ما يتعلق به قبل الشروع بتحليله ومقارنته بالمادة المتوفرة في بنوك المعلومات (وهي الكتب المتخصصة والدراسات في المجلات العلمية حسب التطور التقني في ذلك الوقت). وكان بارتوك يجد في كل هذا متعة تعوض الجهد والتعب الذي يعنيه القيام بالمسح الميداني في أماكن لا تصلها المدنية على الغالب. 

يقول بارتوك: "الموسيقى الشعبية هي كائن خلقته الطبيعة … تطور هذا المخلوق مثل باقي مخلوقات الطبيعة بشكل عضوي وحر: مثل الزهور والحيوانات ونحوها. لهذا السبب بالذات فهي رائعة وكاملة بنفس القدر… إنها تجسيد نقي للفكرة الموسيقية يثير الدهشة من ناحية التعبير المكثف للشكل وقوة التعبير والتعامل المقتصد مع الوسائل المتوفرة من جهة، ومن جهة أخرى بسبب حيويتها وتأثيرها المباشر" (من مقالة "عند ينابيع الموسيقى الشعبية " 1925).


بارتوك وزوجته الثانية، دتّا باستوري


بدأ بارتوك تجميع الموسيقى الشعبية المجرية في منطقة سيك Szék في ترانسلفانيا في 1905، ثم بدأ بتجميع ودراسة الموسيقى الشعبية للسلوفاك والرومان الذين يعيشون في المناطق القريبة إلى جانب الأغاني والموسيقى الشعبية المجرية منذ سنة 1906. استمر هذا العمل الدؤوب لغاية ما بعد الحرب العالمية الأولى لكنه توقف بسبب تقسيم المملكة المجرية وتوزيع ثلثي الأراضي التي كانت تابعة لها ضمن الإمبراطورية النمساوية على دول الجوار، ومعها تجمعات سكانية مجرية استقرت هناك منذ أكثر من ألف عام (بالخصوص في رومانيا ومولدافيا). كانت هذه التجمعات القروية المجرية تمتلك أهمية استثنائية لأن الطبقات الأكثر قدماً وأصالة في التراث الموسيقي المجري لا تزال حية لديها، نجد فيها العناصر التي ترجع إلى فترات التعايش مع الشعوب التركية والإيرانية في سهوب وسط آسيا قبل قدوم المجريين إلى حوض الكاربات حيث يعيشون اليوم. وقد ساعده تجميع هذه المادة القديمة في تجميع التراث الغنائي والموسيقي الشعبي في الأناضول لاحقاً بشكل كبير. قام بارتوك كذلك بمسح ميداني في شرق الجزائر سنة 1913 كما أشرت في كتابة سابقة.

أما رحلته إلى تركيا في 1936 فجاءت بعد فترة من الانقطاع عن المسح الميداني، زار فيها اسطنبول وأنقرة حيث ألقى محاضرات في جامعتها وقدم حفلات موسيقية قبل أن يتجه إلى المنطقة الممتدة بين أضنة وعثمانية لتجميع المادة الموسيقية. 



بارتوك في الجزائر


تعرّف بيلا بارتوك على الموسيقى في شمال أفريقيا للمرة الأولى في سنة 1906، عندما عَبَر مضيق جبل طارق إلى طنجة عقب جولة فنية في اسبانيا والبرتغال كعازف بيانو مرافق لعازف الكمان المجري الطفل المعجزة فرنس ڨَيچَي (1893 - 1935). أخذ بارتوك يهتم بالموسيقى الشعبية بشكلٍ واضح في ذلك الوقت عقب سماعه الأغاني الشعبية المجرية، وقام بأول رحلاته لتجميع وتوثيق الموسيقى الشعبية المجرية في ترانسلفانيا بالتعاون مع زميله زولتان كوداي.

بالتزامن مع بدء بارتوك بتجميع الموسيقى الشعبية المجرية وتسجيلها على اسطوانات الشمع، أسس الباحث الإثنو موسيقي أريخ فون هورنبوستل (1877 - 1935) أرشيف برلين للفونوغراف (Berliner Phonogramm-Archiv) وهو مركز لتجميع تسجيلات الموسيقى الشعبية من مختلف أنحاء العالم. ونشأت بين الرجلين علاقة تعاون في 1912 بعدما أرسل بارتوك مجموعة من التسجيلات الموسيقية الرومانية إلى برلين، طالباً بالمقابل إرسال تسجيلات للأغاني الشعبية التونسية بعد اطلاعه على بحث هورنبوستل في دورية موسيقية متخصصة، كما طلب منه إرسال اسطوانات جديدة حتى يستعملها في رحلته الجزائرية سنة 1913.

بدأ بارتوك رحلة إلى الجزائر لمسح الفولكلور الغنائي في حزيران 1913 فزار مدينة بسكرة وتجول في الواحات القريبة مثل سيدي عقبة وطولقة والقنطرة وعلى طول خط سكة الحديد بين بسكرة وقسنطينة. أخذ بارتوك معه أحدث تقنيات ذلك العصر: فونوغراف أديسون مع عدد من الاسطوانات الشمعية لتسجيل الأغاني التي توارثها الجزائريون والأمازيغ (البربر) طوال قرون. سجّل بارتوك 96 اسطوانة شمع خلال هذه الرحلة، هي محفوظة اليوم في أرشيف بارتوك في بودابست، وقد نُقلت رقمياً على أقراص مضغوطة سي دي. وثّق بارتوك خلاصة جهده في الدورية المجرية "سيمفونيا" سنة 1917، ثم باللغة الألمانية بالتفصيل في "مجلة العلوم الموسيقية" الألمانية سنة 1920.

تدوين أحد الأغاني من بسكرة - الجزائر


لخص بارتوك تجربته الجزائرية بالشكل التالي:

"ما نعرفه عن الموسيقى العربية من مختلف المطبوعات هو ليس الموسيقى الشعبية بالتعبير الدقيق، بل موسيقى العرب في المدن، وهو بالتأكيد من بقايا الموسيقى العربية القديمة الكلاسيكية التي وصلت إلينا عبر التناقل الشفاهي بسبب عدم وجود طريقة للتدوين الموسيقي. في دراستي هذه لا أتطرق سوى إلى الموسيقى الشعبية، أي موسيقى الفلاحين التي تختلف عما ذكر أعلاه بشكل جوهري".

من ملاحظات بارتوك المهمة عن "السلالم"، يذكر أنه واجه صعوبة في إفهام الموسيقيين الجزائريين ما يعني طلبه منهم عزف السلم الموسيقي لقطعة معينة، فهم يميلون لعزف تقاسيم على المقام / النوبة الخ دون أن يفهموا لماذا يطلب منهم عزف "سلّم". ويذكر كذلك "… أن العلاقة بين درجات السلم غريبة، ولا يمكن مقارنتها بدرجات سلمنا الدياتوني أو الكروماتي المعدل إلا نادراً". نذكر هنا أن بارتوك تمتع بنعمة (أو نقمة) السماع المطلق، ما يجعله حساساً لتردد درجات السلم الموسيقي لدرجة كبيرة. أستعمل بارتوك علامات مثل + أو 0 للتدليل على اختلاف طبقة النغمة المعينة زيادة أو نقصانا عن النغمات في السلم الأوروبي المعاصر عند تنويط الأغاني التي جمعها، واستعمل الإشارات 2/♯ أو2/♭ للدلالة على اختلاف الطبقة بربع تون صعودا أو نزولاً.

الملاحظة الأخرى التي يذكرها بارتوك عن الألحان الشعبية في الجزائر، أنها تسير بشكل ضيق، يتكون اللحن على الغالب من بضع درجات متجاورة (الحديث هنا يدور حول الأغاني الشعبية مثل تنويم الطفل أو النواعي أو ما شابه، وليس حول التراث الموسيقي الكلاسيكي المعقد مثل التراث الأندلسي).

حديث بارتوك عن الإيقاع مثير، فهو يقول: "الإستعمال الثابت لأدوات الإيقاع في مصاحبة الألحان في إيقاع صارم … المستوى العالي لتطور الإيقاع يتناقض مع بدائية الشكل والمساحة الضيقة للحن".

استعمل بارتوك المادة التي جمعها في الجزائر وكذلك فهمه لهذه المادة في حوالي عشرة من أعماله، منها متتابعة البيانو (عمل رقم 14 - سنة 1916، الحركة الثالثة)، وعمله المتميز "المندرين العجيب" والحركات الأولى الأربع من متتابعة الرقص (1923) والرقصة العربية من 44 ثنائي للكمان (رقصة رقم 42) والقطعة رقم 58 من مجموعة البيانو الثانية من "ميكروكوزموس" (1936).


مؤتمر القاهرة للموسيقى العربية 1932


ساهم بارتوك في مؤتمر القاهرة الشهير سنة 1932، ولربما كان هو وفون هورنبوستل الوحيدين بين الحاضرين ممن اهتم بذلك الفرع من الموسيقى، أي الشعبية، التي اعتبرها الجميع متخلفة وليست مهمة. وعثر بين مسوداته على مخطط لورقة عمل باللغة الفرنسية حول الموسيقى العربية اقترحها على الحاضرين، نلمس صداها في وثائق المؤتمر. تذكر المسودة الأهمية القصوى لطبقة الموسيقى الشعبية بشكل تفصيلي، وتتطرق إلى خطة وطريقة لتجميعها وتصنيفها في نفس الوقت. تتناول الورقة تفاصيل كثيرة، بينها مشكلة التناقض بين اتجاه كتابة اللغة العربية مع اتجاه سير التدوين الموسيقي - النوطة في حالة تدوين النص مع الموسيقى، وتدعو إلى استعمال نتائج تجميع الموسيقى العربية الشعبية في تطوير الموسيقى العربية المعاصرة. 

أسهم بارتوك وفون هورنبوستل في لجنة التسجيل التي رأسها روبرت لاخمان (1892 - 1939) بسبب اهتمامهما بتوثيق الموسيقى الشعبية. قامت لجنة التسجيل باختيار الفرق التي يجري تسجيل أعمالها، ونلاحظ تأثير الرجلين عند اختيار تسجيل "فرقة من العازفين عزفاً بلدياً من القاهرة" وتسجيل "مغنيات (عوالم) من القاهرة" وتسجيل "طبل ومزمار بلدي من القاهرة" وتسجيل "زار (غناء ورقص)" وتسجيل "مغنين ريفيين من الفيوم"، إلى جانب سماع فرق الدول العربية وعزف الأستاذ مسعود جميل بك الطنبوري (1902 - 1963) الذي درّس في معهد الفنون الجميلة في بغداد لاحقاً. 

وقررت اللجنة بالإجماع "عظم الأهمية التي تستفاد من الموسيقى الريفية ومن الأغاني المرتبطة بالحياة العامة… (أغاني أوقات العمل وأغاني الملاحين والباعة في الطرق)... والبحث عن هذه الموسيقى في الأرياف وبين القبائل الرحل.." ووضعت توصيات بالغة الأهمية نلمس فيها الكثير مما اعتاد بارتوك شرحه في دراساته وكتاباته حول قواعد تجميع الموسيقى الشعبية. وتضمّن تقرير اللجنة إلى المؤتمر هذه التوصيات والآليات نجدها في الصفحات 93 - 110 من وثائق المؤتمر. 



الرحلة الى تركيا



طلب مصطفى كمال أتاتورك من الموسيقي الألماني باول هندميت (1895 - 1963) المساعدة في تنظيم ما يتعلق بالحياة الموسيقية على أسس جديدة معاصرة، وكان هذا في سنة 1935. قام هندميت بإعادة تنظيم التعليم الموسيقي وتأسيس داراً للأوبرا وإطلاق فن الباليه على أسس حديثة. لكن لم يكن هناك عالماً موسيقياً تطلب منه الحكومة التركية التعامل مع التراث الشعبي الموسيقي سوى بارتوك الذي ذاع صيته في الأوساط العلمية بصفته حجة في العلوم الإثنوموسيقية، على الخصوص بعد أبحاثه الجزائرية (1913) ومشاركته البارزة في مؤتمر القاهرة الدولي للموسيقى العربية في 1932.

رأى بارتوك أن استعمال المادة الموسيقية الشعبية (أغاني وموسيقى الفلاحين بالدرجة الأولى) في التأليف الموسيقي يمكن أن يجري على ثلاثة مستويات: المستوى الأول هو استعمال العمل الموسيقي الشعبي بشكل أمين، المستوى الثاني هو اختيار المؤلف الموسيقي موتيفات معينة من المادة التي يعالجها وإدخالها في عملية التأليف الموسيقي بحيث يمكن تمييزها والتعرف عليها، أما المستوى الثالث فهو استعمال الأسلوب الموسيقي للمادة الشعبية وملامحها دون اقتباس أي شيء ملموس من مادتها. ونجد في أعمال بارتوك كل هذه المقتربات من معالجة المادة الموسيقية التي جمعها وحللها، مثلما ذكرت في كتابة قبل بضعة أسابيع.



كان بارتوك مقتنعاً بوجود قرابة موسيقية مجرية تركية بالأساس، خاصة بعد عثوره على نماذج مشتركة ضمن ما حصل عليه من مادة موسيقية تعود لمجموعات إثنية من الأورال تستعمل سلماً موسيقياً خماسياً (پنتاتوني). لذلك قابل بفرح كبير دعوة خلق اولري (بيوت الشعب، وهي حركة أسسها حزب أتاتورك) في ربيع 1936 لإلقاء محاضرات في جامعة أنقرة عن جمع الموسيقى الشعبية وتقديم مؤلفاته الموسيقية.

وصل بارتوك اسطنبول في 2/11/1936 واستقبله هناك الموسيقي التركي المعروف أحمد عدنان سايغون (1907 - 1991) ورافقه طوال جولته التركية، كما رافقه باحثان من جامعة أنقرة ليتعلما منه "أسرار المهنة" خلال جمعه المادة التراثية.

وقع اختيار الأتراك على مناطق السكن الشتوي لقبائل اليُرُك، وهي قبائل لا تزال شبه بدوية قريبة من عثمانية وطرسوس  ومرسين وعينتاب القريبة إلى الحدود السورية. لكن رحلة التجميع هذه واجهتها صعوبات كثيرة، فعدا الأمطار وصعوبة التنقل في المناطق النائية واستعماله وسائل نقل بدائية ومرضه لفترة، اصطدم بالتقاليد التي تمنع المرأة من الغناء أمام الغرباء وبتخوف المغنين من التقنية الغريبة التي شاهدوها أمامهم وهي الفونوغراف واسطوانات الشمع، وخوفهم من فقدان صوتهم بعد تسجيله مثلما ينحبس الجني في المصباح السحري.

وصف بارتوك رحلته التركية في كلمة أذاعها الراديو المجري بعد شهر ونيف من عودته، ونشرت الكلمة في العدد الأول من أشهر دورية أدبية مجرية في التاريخ هي نيوغات (الغرب) سنة 1937، تطرق بارتوك فيها إلى أوجه التشابه بين الأغاني التركية والمجرية. أنجز بارتوك تدوين وتحليل كل المادة التي جمعها في تركيا في أيار، بعد ستة أشهر من عودته.

جمع بارتوك أكثر من 100 من الألحان الشعبية (تُركو) في المناطق التي زارها في جنوب الأناضول وقرب أنقرة سجلها على 64 اسطوانة. وقد عثر على كنز كبير أثناء لقائه في العثمانية بعلي بكر أوغلو بكر (70 سنة) الذي أسمعه أغان وجد ألحانها مشابهة لأغاني مجرية يعرفها. شرع بارتوك بدراسة المادة التي جمعها فور عودته إلى بودابست، فدون الألحان وحللها وصنفها حسب الألحان إلى مجاميع، ثم بذل جهداً كبيراً لتدوين النصوص بالتركية بمساعدة الموسيقار التركي عدنان سايغون الذي رافقه في رحلته وعلماء مجريين.

لكن تطور الأحداث في تلك الفترة مثل احتلال جيكيا وضم النمسا إلى ألمانيا دفع بارتوك إلى التفكير بالهجرة. وكان يفكر جدياً في العمل في مسح الفولكلور الغنائي في تركيا مقابل توفير معيشته، وطلب من عدنان سايغون التوسط عند معارفه لهذا الغرض دون طائل بسبب تغير الأوضاع الداخلية في تركيا نفسها.




في الختام، هاجر بارتوك إلى الولايات المتحدة خريف 1940 على أمل العودة إلى بلاده بعد الحرب. فعمل في جامعة كولومبيا باحثاً في تحقيق مجموعة من الأغاني الشعبية الصربية والكرواتية وبحث في موضوع الفولكلور الروماني وأنجز مجلدات عن الموسيقى الشعبية الرومانية الغنائية والأدواتية في نهاية 1942 دون أن تنشر، لكنه جهّز محاضرات عنها ألقاها في جامعة هارفارد. وبموازاة ذلك عمل على المادة التركية التي جمعها، وجهّزها للنشر في 1943 دون أن يجد من ينشرها بسبب انعدام الإهتمام بها. وضع بارتوك مسودة كتابه "الموسيقى الفولكلورية التركية من آسيا الصغرى" صيف 1944 في مكتبة جامعة كولومبيا. واستمر بتأليف الأعمال الموسيقية في نفس الوقت، منها الكونشرتو الشهيرة وسوناتا الكمان المنفرد التي ألفها بطلب من عازف الكمان الشهير يهودي مينوهين. غير أن هذا الجهد الاستثنائي الذي بذله بارتوك في البحث وإلقاء المحاضرات أثر على صحته العليلة أصلاً، وترافق ذلك مع الحالة المادية الصعبة التي مرت به بسبب عدم تجديد جامعة كولومبيا عقده، والاهمال الذي واجهه هذا الموسيقار والباحث الإستثنائي، إذ لم يعر له الأمريكان المنشغلون بالحرب الكثير من الاهتمام. توفي بارتوك مديوناً في غرفة إيجار بائسة في نيويورك في 26 أيلول 1945. لم يصدر الكتاب مطبوعاً إلا بعد عقدين من وفاة بارتوك سنة 1945. فقد صدرت الطبعة الإنكليزية في 1976 ثم بالتركية في تركيا سنة 1991، ولم يصدر بالمجرية إلا مؤخرا في 2019.

يستنتج بارتوك في بحثه الطليعي استناداً إلى المادة الشحيحة التي جمعها أن 43% منها يشكّل الطبقة الأقدم والأكثر انسجاماً داخلياً والتي تحمل مزايا السلم الخماسي (البنتاتوني)، وهناك أجزاء من المادة تتشابه بشكل كبير مع الطبقات الأقدم في الفولكلور المجري. وتشير جذور الإثنين إلى أصول مشتركة في أواسط وغرب آسيا حيث عاش أجداد الأتراك والمجريين قبل 1200 - 1500 سنة. ولاحظ بارتوك أن هذه السمات المشتركة لا توجد لدى الشعوب المجاورة.


الخميس، 25 يناير 2024

مرة اخرى عن كتاب اصول الصابئة المندائيين ومعتقداتهم الدينية للباحث عزيز سباهي

بعد شهور قليلة من نفاذ طبعته الأولى، صدرت الطبعة الثانية من كتاب الباحث العراقي عزيز سباهي “اصول الصابئة المندائيين ومعتقداتهم الدينية” عن دار المدى. ولاقى الكتاب منذ الطبعة الاولى التي صدرت في العام 1996 ترحيباً واسعاً من القراء العرب، ومن المتخصصين في الموضوع، أبرزهم العالم الألماني الكبير كورت رودولف. وللبروفسور كورت رودولف عدد من الكتب والأبحاث حول الصابئة المندائيين، بينها ترجمات لبعض النصوص المندائية، مثل لفافة ديوان الأنهر (ديوان نهرواثا). ويُعتبر البروفسور رودولف أحد أهم المتخصصين في الدراسات المندائية اليوم بعد وفاة البروفسور ماتسوخ عالم الآراميات البارز في أوائل التسعينيات في ألمانيا. وتكمن قيمة الكتاب في الجهد العلمي الكبير الذي بذله المؤلف في البحث ودراسة العديد من المواضيع المتعلقة بمادة الكتاب، تراوحت بين تاريخ الشرق الأوسط في العهد الهليني (الهيلينستي)، والمعتقدات الدينية البابلية، وطوائف البحر الميت (بضمنهم الأسينيين وأصحاب مخطوطات قمران)، والغنوصية والمانوية. وكشف الكتاب أمام القارئ خفايا موضوع نادر عندما عرض المعلومات المتوفرة عن دويلة ميسان في جنوب العراق. ولم يعط الكاتب حلولاً جاهزة للقضايا التي طرحها نظراً لتعقد الموضوع، لكنه ترك القارئ ليفكر فيما يقرأ ويبني رأيه الخاص به، وهذا إنجاز يستحق الثناء.



والمندائيون طائفة دينية صغيرة تنتشر في جنوب العراق والأهواز بإيران، ويعرفون محلياً بالصبّة، أو الصابئة، وأسماهم ابن النديم صابئة البطائح (أهوار جنوب العراق) في فهرسته. وورد ذكر الصابئة ثلاث مرات في القرآن الكريم، وهم من أهل الكتاب. وهو دين قديم موحد تعود جذوره وطقوسه الى مايعرف بالثنائية البابلية، التي جوهرها التناقض بين الخير والشر، النور والظلام. والخالق يسمى عندهم مندا د-هيي (ويترجمها بعض رجال الدين بعارف الحياة أحياناً) الذي يسمى بأسماء اخرى مثل ملكا د-نهورا (ملك النور)، أو مار د-ربوثا (سيد العظمة). وكلمة هيي هي جمع لكلمة الحياة في الواقع، ولربما لذلك علاقة بأسطورة الخليقة عندهم، فهي تمت بأربع مراحل، إذ خلق كل من بثاهيل وأباثر ويوشامن (وهم من كبار الملائكة عندهم) الكواكب والأشياء وحتى الجسد البشري، لكنهم لم يتمكنوا من خلق الإنسان، بل أن الخالق الحقيقي، مندا د-هيي هو الذي خلق النفس (نشمثا وهي النسمة) وأسكنها الجسم البشري. وجاءت تسمية الطائفة بالمندائية، وتعني المعرفية، كناية عن إيمانهم بأن الخلاص يتم عبر معرفة الطريق المؤدي إلى الخالق. هذا الدين هو مزيج من معتقدات الشرق الأوسط القديم، من المعتقدات الفارسية القديمة شرقاً مروراً بالبابلية والسامية الغربية حتى المصرية غرباً. ولنأخذ أحد الأسماء التي مرت قبل قليل: بثاهيل الذي يرى فيه البعض اسم بتاح الاله المصري مع اللاحقة السامية إيل، وكذلك التقويم المندائي الشمسي الخاص المشابه للتقويم الفرعوني المصري (تتكون السنة من 12 شهراً بثلاثين يوم، مع 5 أيام كبيسة اضافية)، ولعل ذكر المندائيين في صلواتهم أرواح المصريين الذين غرقوا في البحر الأحمر وهم يتعقبون موسى واليهود هو الدليل الآخر الذي يسوقه البعض للبرهان على وجود العلاقة مع مصر. كما تلحظ الليدي درور – وهي من أهم علماء المندائيات - كثافة العناصر السامية الغربية (الكنعانية-الآرامية) في معتقداتهم، وتدخل تعابير الكروم (جفنا) والزيت (زيت الزيتون والسمسم) في نظام الرموز لديهم، كما هو الحال لدى حضارات الكنعانيين. وتشرح كتبهم كيف اضطروا الى مغادرة وادي نهر الأردن، حيث كانوا يعيشون، وهجرتهم الى وادي الرافدين بعد الاضطهاد الذي لاقوه على يد اليهود. ولربما حدثت هذه الهجرة قبل الميلاد أو بعده بقليل. ويسمي الصابئة الماء الجاري الذي يقدسوه يَردنا، وهو اسم نهر الاردن أيضاً الذي اشتق اسمه من هذه الكلمة الآرامية القديمة، وفي هذا دلالة على المكانة التي يحتلها نهر الاردن عندهم. ويتمتع يحيى بن زكريا (وعندهم يهي يهانا) بمرتبة رفيعة، وهو أحد معلمي الدين الكبار والرسول المبجل. وتعطي الكتب المندائية ليحيى صفات مقاربة لصفات السيد المسيح حسب المفاهيم الانجيلية، فولادته عجائبية، وقدراته خارقة ومن ثم قتله من قبل اليهود.

لكن هذا الدين تكون بشكله الحالي في جنوب العراق، بتأثير مباشر من الفكر البابلي وعلى ضفاف الفرات ودجلة. والنصوص المندائية تزخر بإشارات تفصيلية الى بيئة ضفاف الأنهار ومنطقة الأهوار في جنوب العراق. ونجد عناصر هذا الفكر واضحة في تقديسهم الماء الجاري والتعمد فيه، ولبسهم البياض وتحريم قص الشعر - تماماً كما كان البابليون يفعلون. ولغة المندائيين هي لهجة من اللهجات الآرامية، تلك التي كانت سائدة في جنوب العراق قبل الميلاد وبعده. كتبت النصوص المندائية المتنوعة بأبجدية قريبة من الأبجدية النبطية، وهي بشكل كتب ولفافات، وهناك نصوص مكتوبة على ألواح رصاصية ومسكوكة على النقود، بالإضافة إلى عدد كبير من الأدعية المكتوبة على أوانٍ فخارية.

ولعل من أهم محاسن هذا الكتاب الجاد - الى جانب كشفه الجذور المتنوعة التي غذت الدين المندائي - هو إغناء المكتبة العربية بمرجع هام يتناول تاريخ الشرق الأوسط القديم في مرحلة كاملة من مراحل تطوره، تلك التي تمتد بين اجتياح الاسكندر المقدوني والفتح العربي الاسلامي وتغطي نحو ألف عام من تاريخ المنطقة، وهي الفترة التي نعرف عنها أقل بكثير من الفترات الذهبية التي سبقتها أو تلتها. وكان تناول هذه الفترة ضرورياً لفهم الجذور والأسس الفكرية والدينية التي نبعت منها حركات دينية مثل المندائية والمانوية، ناهيك عن المسيحية.

وفي الكتاب تركيز على علاقة المانوية بالمندائيين. ومن المعروف أن أبا ماني، فاتق، كان أحد أعضاء جماعة معمدانية قد تكون جماعة المندائيين ذاتهم، وأن ماني نشأ وترعرع في هذه البيئة. ويعكس القاص اللبناني الأصل أمين معلوف في روايته “حدائق النور” عمق التأثير الذي مارسته هذه الطائفة على ماني مؤسس أحد أهم الأديان المعرفية التي انتشرت في الشرق بشكل واسع بين القرون الثالث والثالث عشر الميلاديين. ونعلم أن معلوف قاص وليس مؤرخ أو عالم، وانعكس ذلك في عدم دقة بعض الآراء الواردة في روايته، سواء تلك المتعلقة بماني ذاته، أو تلك التي خال نسبتها الى طائفة أسماها “أصحاب الملابس البيضاء” التي عاش ماني بين ظهرانيها لحين بلوغه الرابعة والعشرين. ويورد المؤلف سباهي في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه أنه اطلع على ترجمة لمخطوطة مانوية تعود الى القرن الرابع والخامس الميلادي، مما عزز لديه الاعتقاد بأن الطائفة التي نشأ فيها ماني انما هي طائفة مندائية أو قريبة من المندائيين.

وصلت المانوية الى الهند، وكان تأثيرها محسوساً في مصر، حيث وجدت مخطوطات مانوية هامة في نجع حمادي تعود الى طائفة الشيثيين. وقد اكتشف العالم شميت كتاب الأناشيد عام 1930، وهو كتاب يعود الى القرن الرابع الميلادي. وتسبق الأشعار الواردة فيه أقدم الأشعار القبطية المعروفة بنحو 600 سنة. لذلك عاملها العلماء باهتمام كبير لأنها تمثل حلقة الوصل بين الشعر المصري القديم والشعر القبطي اللاحق. لكن العلماء لاحظوا أوجهاً عديدة للشبه بين الشيثيين في مصر والمندائيين في وادي الرافدين. أولاً، اسم شيت الذي تسمت طائفة نجع حمادي به، وهو أصغر أبناء آدم (وهو أخ لقابيل وهابيل وحنوك حسب التوراة)، فشيث (شيتل) عند المندائيين هو أحد أبناء آدم ويبجلونه كثيراً، وهو اسم شائع لديهم. كما يعتقد العلماء بأن العديد من هذه النصوص هي ترجمة شبه حرفية لنصوص مندائية أقدم، نورد منها المثال التالي (ترجمنا النص القبطي من اللغة الانجليزية، والمندائي من اللغة المندائية) :


النص القبطي:

بِمَ اشبهكَ ياسيدي

اشبهكَ بالشمس التي تشرق، التي تأتي يوميا بأشعتها

وتجلب المسرة لكل المخلوقات .. لنغنِ.

بِمَ اشبهك يامحبوب

اشبهك بالفيضان العظيم الذي يجلب السعادة للعوالم

ويزود الحقول الجافة ]بالماء[ .. لنغنِ


النص المندائي (من كتاب كِنزا رَبّا):

بم اشبهكِ يا نفس1 ، اشبهكِ بما في هذا العالم

اشبهك بشمس النهار

أشبهك بالقمر (سيرّا) في الليل

اشبهك بريح الشمال 2، التي تهب 3 على العالم

اشبهك بأمواج المياه، التي تلاعبها ريح الشمال


1 النفس (النسمة أو نشمثا بالمندائية)، هي قطعة من عالم النور، كائن نوراني حبيس الجسد الأرضي الفاني والدنس بحسب اعتقادهم.

2 أيار هو الهواء أو الريح المنعشة. وأيار كلمة مستعارة من اللغة اليونانية، وريح الشمال مرغوبة في وادي الرافدين، فهي باردة جافة على العكس من الريح الجنوبية الرطبة الساخنة والتي تجلب الغبار (وتسمى بالعامية العراقية شرجي)

3 تهب عليه (الكلمة المستعملة هي مِتيايَربه، من أيار = هواء)

(من كتاب:

Säve-Söderberg, T.: Studies in the Coptic Manichaean Psalm-Book. Cambridge, 1949.)


وتعتبر نصوص الكتاب المندائي الرئيسي كنزا ربّا (الكنز العظيم) من أقدم النصوص المندائية المعروفة الى جانب المجموعة الشعائرية الشعرية المعروفة بـ “نياني” (الأغاني)، ولربما وضعت في القرون التي سبقت الميلاد قبل تجميعها وتدوينها في كتاب واحد خلال القرون اللاحقة (انتهت هذه العملية في أوائل فترة الحكم العربي). بالتالي ليس هناك شك في أنها كانت معروفة قبل نصوص نجع حمادي، وأن الأخيرة هي التي اقتبستها. ونلحظ في المثال السابق نقل المترجمين الأجواء المنعكسة عن البيئة الرافدينية إلى ما يلائم الطبيعة في وادي النيل، فاستبدلت ريح الشمال والأمواج التي تسببها في مساحات واسعة من الماء (كمياه الأهوار مثلا) بالفيضان العظيم، ففي مصر تعتمد الزراعة على الفيضان المنتظم لنهر النيل. أما في وادي الرافدين، ففيضان دجلة والفرات مدمر وغير منتظم الحدوث، وهو أبعد مما يمكن وصفه بالظاهرة المرغوبة.

ولا نجد أفضل من التأكيد على كلمات المؤلف عزيز سباهي في خاتمة مقدمة الطبعة الثانية: “لقد أقنعتني دراسة المصادر التي حصلت عليها مؤخراً بأن المسألة المندائية هي شائكة حقاً، كما يقول عنها أحد الباحثين، ومع ذلك فليس أمتع للباحث من أن يخوض غمار القضايا الشائكة، وقد يخطئ أو يصيب”. وقد لانخطئ إذا قلنا بأن الكتاب الذي نحن بصدده قد دلنا على طريق الصواب.


ثائر صالح

كانون الثاني 1998


الخميس، 4 يناير 2024

ليدي درور: أهوار العراق


توفيت الباحثة والمستشرقة البريطانية ليدي درور في شباط 1972 عن عمر قضته في البحث والتأليف وترجمة النصوص المندائية المختلفة الى اللغة الإنكليزية. بدأت درور حياتها ككاتبة روائية نشرت باسم أثل سسل ستيفنس، ومنذ زواجها من سير أدوين درور في العام 1910 حملت اسمه، ثم بدأت بالنشر بأسم ليدي درور بعد حصوله على هذا اللقب. وقد عمل سير درور مستشاراً في وزارة العدل العراقية في الفترة بين 1922-1946، ورافقته زوجته هناك حيث تعرفت الى هذا البلد وشعبه العريق. وأثار اهتمامها التنوع الاثني والديني، فتوجهت لدراسة الأقليات الدينية مثل الأيزيدية في كردستان العراق، وتخصصت ببحث دين الصابئة المندائيين. وكانت أول باحث غربي يجري مسحاً ميدانياً لحياة وتقاليد وطقوس هذه الطائفة حيث يعيش أفرادها. فقد كتب علماء الساميات الكبار عن المندائية استناداً الى مؤلفات المندائيين وهم في مكاتبهم في برلين أو لندن، مثل العلامة نولدكه والمستشرق العبقري ليدزبارسكي. بذلك عنيت درور بالفولكلور الحي لهذه الجماعات، ومن هنا جاء اهتمامها بتقاليد الأحراز والتنجيم المندائيين الذين يعود أصلهما إلى الجذور الكلدانية والبابلية مباشرة. كذلك اهتمت بالحياة الاجتماعية للجماعة، وبشكل خاص بدور المرأة الاجتماعي. وهذان الأمران انعكسا في محاضرتها عن حياة سكان أهوار العراق، إذ ركزت على موضوعي السحر وحياة النساء بشكل أساسي، لكنها تناولت مواضيع اخرى لا تقل أهمية، مثل العمارة والطبيعة والعادات والتقاليد.

جمعت درور كل النصوص المندائية الأساسية (وهذه محفوظة في مكتبة بودليان بجامعة اوكسفورد تحت عنوان مجموعة درور، وهي أكبر وأشمل مجموعة نصوص مندائية في مكتبات العالم)، وترجمت العديد منها بعد إتقانها اللغة المندائية، وهي لغة من اللغات الآرامية الشرقية وبذلك فهي قريبة من السريانية والتلمودية (وهي مشتقة من لغة سكان جنوب العراق الآرامية قبل الإسلام كما هو معروف)، وكتبت بالتعاون مع العالم ماتسوخ القاموس المندائي - الانكليزي. وأحد أشهر كتبها "الصابئة المندائيون في العراق وإيران" الذي صدر في العام 1937، وهو في عداد المراجع، وترجمه إلى العربية الاستاذان نعيم بدوي وغضبان الرومي، وصدرت منه طبعة انكليزية جديدة مؤخراً.

قدمت ليدي درور محاضرتها عن سكان الأهوار في جنوب العراق في 12 حزيران 1946 بعد عودتها من العراق، وعرضت أثناءها صوراً (سلايدات) عن الحياة في الأهوار. وعكست المحاضرة روحية ونمط تفكير البريطانيين في تلك اللحظة، عقب انتصار الحلفاء على ألمانيا النازية. وبالتأكيد كان نشاط الوطنيين العراقيين في تربية التلاميذ بروح حب الوطن والعداء للمستعمر البريطاني يمثل تعليماً مشوهاً معادياً للأجانب بنظر الغالبية الساحقة من البريطانيين. لكننا إن أزلنا هذه القشرة الاستعمارية من محاضرة درور، نلمس مدى تعلقها بهذا البلد وإعجابها بشعبه.

ومن المؤسف أن نرى اليوم الحالة المأساوية لمنطقة الأهوار في جنوب العراق (وهي واحدة من أهم وأغنى وأكبر المناطق الطبيعية في العالم) بعد المشروع الضخم المشبوه الذي أنجزه النظام الدكتاتوري لتجفيف الأهوار ونقل سكانها الى مجمعات سكنية قسرية، مما أدى الى القضاء على نمط الحياة فيها، هذا النمط الذي يعود الى أكثر من خمسة آلاف عام. وكان اسم الشركة المنفذة للمشروع يحمل دلالة بليغة على الهدف من هذه الحملة الهمجية: شركة الأنفال للمقاولات، وهي من شركات مؤسسة التصنيع العسكري…. فهذه الأنفال هي ما أصاب عرب الأهوار بعد أنفال كردستان العراقية العام 1988!!


ثائر صالح

1998

درور في عشرينات القرن العشرين


أخشى أن تكون الرحلة التي سأتحدث عنها مساء اليوم هي الرحلة الأخيرة التي أقوم بها إلى الأعماق الحقيقية لأهوار جنوب العراق، وقد جرت قبل زيارتي لبعض أصدقائي القدماء في العمارة وقلعة صالح في الربيع الماضي. إن المرء معرض للتعلق بأصدقائه الذين استضافوه في العديد من المناسبات، ومن الصعب اقتلاع جذور الإنسان نهائياً من بلد تنجذب إليه أوتار القلب حيث عاش لثماني وعشرين سنة.

طرت الى الوطن العام 1940، وعدت بحراً في الخريف ووصلت بغداد في كانون الثاني من العام 1941، ولعلكم تذكرون بأن هذا العام شهد دسيسة رشيد عالي [الكيلاني]. وعندما عدت، لاحظت نجاح الدعاية المؤيدة للمحور والمعادية لبريطانيا. واستمرت الدعاية المعادية لبريطانيا بهمة عالية ومن دون تدخل يذكر من قبلنا لفترة طويلة. فقد تربى طلاب المدارس على أن بريطانيا العظمى المجرم الأزلي وعدو الحرية، وأضحى اليوم العديد من هؤلاء التلاميذ شباباً متشرباً بالكراهية للأمة التي تعتبر نظرياً صديقة وحليفة للعراق. وكان السوق، بتأثير من الصحافة المحلية والراديو، يتنبأ بكل صراحة انتصار ألمانيا، وقد بدأ أولئك الواقفون على الحياد بالانزلاق الى الجانب الخاطئ.

لم أجد نقصاً في حميمية أصدقائي في بغداد، ومع ذلك كان تحول الهمهمة الى قرقعة بالغ الوضوح، وكنا نتوقع حدوث ما حدث منذ فترة مسبقة. وقد خططت للقيام برحلتين ربيع ذلك العام، الاولى الى أهوار الجنوب - وهي منطقة "صيد" قديمة بالنسبة لي - والثانية الى الشمال، كمحاولة لتشجيع أصدقائنا أينما وجدوا، كوسيلة متواضعة، ربما ليست ملائمة - لتوصيل قناعاتنا في النصر النهائي إلى المترددين والمشككين. وقد أنجزت الرحلة الأولى، لكن الثانية لم تنجز، فقد كنت على وشك السفر عندما تفجرت العاصفة. ونقلنا نحن النساء الى [قاعدة] الحبانية وابقي علينا هناك لحين نقلنا لاحقاً جواً الى بر الأمان، فأصبحنا لاجئات في الهند. وجاءت زيارتي الاولى الى أهوار وجنوب العراق قبل سنوات عدة أثناء الفترة التي درست خلالها الجماعة المندائية، حيث تعودت الذهاب الى ذلك الجزء من العراق كل ربيع بشكل منتظم.

ومن المعتقد أن هذه الأهوار الواسعة كانت موجودة منذ أزمان سحيقة، إذ أنها تقع في سهل رسوب يتعرض إلى الانغمار بالمياه متى ما فاض النهران العظيمان. وكانت المناطق المعروفة يوماً بأرض المياه لدى الكلدانيين، مسكونة منذ الحقبة البابلية، ولربما منذ الحقبة السومرية. وترتفع فوق الماء والقصب هنا وهناك تلال قديمة لم تستكشف بعد. ويطلق السكان المحليون على هذه التلال اسم "ايشان"، ويعتقدون بأنها مسكونة بالجن. وهذا الاعتقاد يوفر نوعاً من الحماية ضد التنقيبات غير القانونية، على رغم أن أسماء مثل "أبو ذهب" التي أطلقوها على أحدها تشير الى احتمال وجود كنوز مدفونة فيها. وتاجر سكان الأهوار الأثرياء أبان العهد البابلي - بالتأكيد كما هي الحال لدى أحفادهم اليوم - بالحبوب والسمك والتبن والقصب والبواري [جمع بارية وهي بساط يحاك من القصب] وغيرها من المنتجات. إن تجفيف وتمليح السمك كان صناعة أساسية على الدوام، ولربما جاءت زراعة الرز على مساحات واسعة في أزمان لاحقة.

في المناطق المزروعة مثل تلك التي على ضفتي الكحلاء والمِجَر وغيرها من الأنهار الصغيرة والممرات المائية، يجد المرء نفسه على أطراف الهور. ومع أن القرى هناك اقيمت من قصب والشوارع ممرات مائية، فإن غالبية هذه القرى متصلة بالبر ويمكن الوصول إليها بالسيارة. وتستعمل السكة الحديدية القديمة بين البصرة والعمارة بمثابة طريق عام لأنها بنيت بمستوى أعلى من المناطق المحيطة بها، وهناك طريق سيارات جيد بين الحلفاية والعمارة.

وكلما توغل الانسان عميقاً في الأهوار، تصبح الممرات المائية الوسيلة الوحيدة للانتقال. وتؤلف هذه الشبكة هنا وهناك متاهة حقيقية، وتروى الكثير من القصص عن تيه أغراب لأيام في هذه المتاهة، فالقصب مرتفع ومتين، بحيث تنحجب الرؤية وتحك صفوف القصب الكثيفة جوانب قوارب الأهوار الرشيقة المرتفعة القيادم والكواثل التي تحرك بالتجذيف وتدفع بالمردي [عصا طويلة من خيزران سميك].

وتنفتح أحياناً صفحات عريضة من الماء، حيث تسبب الرياح أمواجاً كأمواج البحار. وقد حصل الأمر معي أيضاً عندما كادت الرياح المفاجئة أن تغرق الطرادة العائدة لأحد شيوخ الأهوار، فقد كانت مثقلة وبدأ الماء بالتسرب إليها، وعند وصولنا بر الأمان كنا نجلس في بركة من ماء ولا تفصلنا عن الموت سوى بضعة انشات. وأذكر كيف كان الشيخ فالح الصيهود يحمد الله على نجاتنا ثم يعود فيلعن ويسب. ولعل بعضكم يذكره، فقد كان هائل الجثة ويزن ما يزيد عن 130 كيلوغراماً، ولم يستعمل سوى نظارات قراءة على رغم تجاوزه الثمانين. وكان يصوب ببندقيته أفضل من كثير من الشباب، وصنعت هذه البندقية خصيصاً له، ثقيلة يتعذر على غالبية الرجال حملها، كما صنعت له في بريطانيا دراجة هوائية خاصة كان يركبها لبضع خطوات، واعتاد عدد من الرجال إعانته عند الركوب أو النزول. وكعادة شيوخ الأهوار، فقد تزوج سبعين أو ثمانين مرة .. لكن بنت عمه الوسيمة عفرة كانت الأثيرة لديه. وقد سألتها مرة كيف نجحت في ذلك، فقالت إنه السحر: "انهن يأتين ويذهبن" وقد قصدت الزوجات الأخريات، "لكني أتخلص منهن". وحدثتني عن بعض الطرق السحرية التي اعتمدتها، أغلبها ترديد تعاويذ مقفاة تنتهي عادة بعبارة "انه سليمان ملك الجن من يقول هذا وليس أنا". وهذه إحدى التعاويذ: "خذ هدهداً. قف بين قبرين أحدهما قديم والآخر حديث. سر الى الوراء قارئاً التعويذة ماسكاً الهدهد خلف ظهرك واقطع رقبته. يجب ألا تتحدث الى أي شخص، اسلق الطائر الى أن يهترئ اللحم. خذ عظم الجناح مع عظمتين اخريين وقطعة من الذهب وقطعة من المرجان ولؤلؤة مع قليل من المحلب والعطور، وضعها كلها في منخل واحملها في الماء في جدول أو نهر. إن للعظام التي ستطفو باتجاه التيار قوة عظيمة ضد الضرة". وهناك تعويذة اخرى تتطلب قراءتها عند دهن سرير الضرة أو كوخ القصب بسمن الخنزير. لكن عفرة لا تحتاج المزيد من التعاويذ، فقد توفي الشيخ فالح الأسف منذ سنوات طويلة.

عليّ أن أعود الى سفرتي الى شيوخ الأهوار. كتبت الى كورنيليا والنبرغ في العمارة لأسألها مرافقتي، وكانت تعمل لدى مستشفى البعثة الأميركية هناك لسنوات في حقل رعاية الحوامل والنساء بين العشائر المحيطة بالعمارة. لم تجد غضاضة في أن يوقظوها في الثالثة أو الرابعة من صباح أي يوم شتوي وأن تسير لأميال بسيارتها الصغيرة أو بالقارب الى مناطق نائية لمساعدة إمرأة فقيرة في ولادتها العسيرة أو معالجتها من الأمراض. وكان الناس يعرفونها باسم ست شريفة في كل العمارة وقرى الأهوار. وكنا، ست شريفة وأنها، نعرف بعضنا لسنوات، وهي لم تزر قلب الأهوار بعد، وكنت أعرف بأنها ستسر لمرافقتي في هذه الرحلة. وقد استضافتني في بيتها في العمارة ومن هناك طلبت مساعدة متصرف العمارة ماجد بيك، وهو كردي ثري. وكان ماجد بيك في غاية اللطف ووعد بتقديم المساعدة. وبعد أيام في العمارة * قضيتها في الزيارات وتقديم عرض سينمائي في ساحة دار مس والنبرغ (التي سأسميها شريفة من الآن فصاعداً) - أرسل ماجد بيك في طلبي وعرض علي استعمال مركبه الخاص مع طاقمه وشرطي. وكان للمركب كابينة تتسع لشخصين، جد ملائمة لشريفة ولي. وفي الليل يتدبر خادمي والرجال منامهم على الضفة.

وقد خطط ماجد بيك للرحلة معي، ناشراً الخرائط على الأرض موجهاً التعليمات الى رجاله فيما يخص الطريق. وأخيرا، في صباح آذاري، انطلقنا ونحن مسلحين بالأواني والمقالي والمؤن وكمية من الهدايا لنساء العشائر. وكان المركب في انتظارنا عند مدرسة البنين. وبما أنهم كانوا واقعين تحت تشويه التعليم المعادي للأجانب، أصبح الأولاد المتحلقون عند الضفة ميالين الى الازعاج والخشونة. لكن بعض تعليقات المليحة ونكتة أو نكتتين سرعان ما بددت كل هذا، وعندما أرخينا المرساة وانطلقنا مع التيار، ودع جمعهم قاربنا بتلويح حميم.

كان النهر في الفيضان، محمر اللون من الطين، والرف على الجانبين منبسطاً، وقد تحددت الضفتان هنا وهناك بصفصافٍ تفجر لتوه بالأوراق. سرنا بسرعة كبيرة. وعندما تركنا دجلة وانحدرنا في نهر أصفر وجدنا قرى من القصب على الجانبين فطلبت من الطاقم تخفيض السرعة لأن الموج الذي سببه المركب أدى الى ذعر السكان. فقد غرقت أكداس من أقراص الوقود [المطّال] بالماء وانقلبت قوارير الماء [وتسمى المصخنة] وتلاعب الموج بالمشاحيف - زوارق الهور الواطئة المطلية بالقير - مما أرعب أصحابها، وتطاير الدجاج في كل الاتجاهات وسارعت العجول بالهرب مفزوعة إلى الصرائف التي تعيش فيها مع مربيها.

كلما توغلنا أكثر، بدا المشهد أقرب الى منظر الأهوار الحقيقية. أطفال نصف عراة يتراكضون صائحين على طول الضفاف، كلاب حراسة تنبح بصوت أبح تتزايد كلما توغلنا أعمق وأعمق في وطن القصب.

وتبنى منازل سكان الأهوار من القصب بالكامل دون استعمال مسمار أو برغي. وصريفة القصب تشبه الخيمة، والغطاء هو بواري توضع فوق هيكل من حزم مربوطة بعناية. وتسمى هذه الحزم شِباب [مفردها شِبه]. وتربط حزم القصب القوي بحبال من البردي. أما الأكواخ الأكبر حجماً، مثل مضايف الشيوخ، فهي بناء عظيم بحق، فالمضيف الجيد يكون أحياناً بحجم كنيسة صغيرة. وتغرس حزم القصب في الأرض عند البناء بصفين، ثم تحنى لتلتقي أزواجاً عند القمة وتربط بعناية فائقة بحيث يستحيل رؤية موقع الاتصال بين الحزمتين. ويبلغ سمك هذه الأضلاع القدمين [62 سم]. ويعتقد الكثير من الآثاريين بأن هذه هي أسلاف القوس المعماري.

والضوء يدخل المضيف من الباب، وفي الطقس الحار عبر مشبك من الجوانب. إنها أشعة كهرمانية لينة تتسلل الى برودة وعتمة مضايف الشيوخ، مطعمة بزرقة أشعة الشمس البراقة أحياناً، وإن وقعت على سجادة ثرية بألوانها تتموج في الباطن الوقور للمضيف بحيرة من زمرد وياقوت.

ويفضل بعض أثرياء الشيوخ بناء مضايف من الطابوق، وهو تغيير يرثى له بحق. وتؤثث هذه عادة بأثاث أوروبي: كراسي ومناضد رديئة النوعية والذوق. أما في مضايف القصب فيجلس الضيوف على مفروشات على الأرض، ويسندون ظهورهم إلى وسائد محشوة بعناية.

وكوخ الفقير أكثر بساطة، فهو يبنى بالطريقة نفسها، بواري فوق هيكل لكنه أصغر حجماً وأقل ترتيباً. ولربما يتم تكديس الأغصان والدغل على جوانب الصريفة للوقاية من ريح الشمال الباردة، وعند المدخل تترك كمية من الحلفاء دون ربطها من القمة، فتتلاعب الريش برؤوسها الريشية. والمدخل يواجه الجنوب عادة، وغالباً ما تجد صفوفاً من أقراص الوقود البنية اللون المسطحة الرقيقة ملتصقة على جدران الصريفة الخارجية لتجفيفها. وهذه تصنع من خليط روث الجواميس مع القصب المفروم.

تبنى قرى القصب على الأرض، وأحياناً على حافة الماء مباشرة، وعند الوصول الى قلب الأهوار نجد بيوتاً يقف كل منها على جزيرته الصناعية الخاصة به. في الفصل الجاف، عندما ينخفض منسوب المياه، يوضع أساس من طين وقصب وحصائر القصب على شكل طبقات وتداس كلها بعناية، لحين تكون منصة كبيرة وقوية كفاية لتحمل الصريفة وبعض والمواشي. ويمكن رفع مستوى هذه المنصة عند الفيضان بإضافة مواد اخرى وحلفاء وتراب يجلب بالقارب. وفي قرى مثل الچبايش (جمع چبشة، اسم الجزر الصناعية هذه) تتوزع البيوت كل على جزيرته الصغيرة. والشارع ممرات مائية، والطريقة الوحيدة لزيارة جارك هو التجديف بالقرب أو على حزمة قصب، أو السباحة. ويتعلم أطفال الأهوار السباحة في نفس الوقت مع تعلمهم السير، وأغلب الأطفال يمسكون بالمجداف كما لو أنه أحد أطرافهم.

والأثاث مصنوع من الطين والقصب مثل الصريفة. وتعلق الستائر على سكة مصنوعة من حلفاء مبرومة، السرير من قصب، أما سرير الطفل المنسوج من صوف الخروف فهو معلق بحزم القصب. وتصنع أوان حفظ الرز والطحين من طين، وكذلك رحى طحن الحبوب، وتصنع المناول التي تحوك بها النسوة الحصران من الطين والقصب. وهناك على الدوام وعاء طيني مع غطاء - هو العدة - حيث يحفظ براد الشاي والأقداح. وتعرض زوجة الشيخ علينا صندوق مهرها أيضاً وكمية من البسط، تصل أحياناً من الأرض حتى السقف. ولكل بيت على جزيرة صغيرة كلب حراسته الأشعث وقطيع جواميسه الصغير وبعض الدجاجات النحيلات، وبقرات شاحبات قليلات. والأبقار ليست سعيدة البتة في هذه القرى المكونة من العديد من الجزر، لأنها مقيدة الحركة في مكان ضيق، وما لم تخض الى أرض جافة فإنها تطعم الحلفاء، والشيء ذاته ينطبق على الأغنام الموسمية، غير أن الجواميس تجد نفسها في الجنة، فهي تخوض وتعوم بتراخٍ إلى أماكن رعيها المفضلة خلال النهار، وتعود في أوقات الحلب حسب مزاجها أو تقاد من قبل طفل صغير يركب على ظهر إحداها، وكأنها مخلوقات من قبل التأريخ. 

ويعتمد سكان الأهوار عليها في طعامهم، لأنها تزودهم بالقيمر الفاخر واللبن الرائب والزبد والأجبان، ويصنع سكان الأهوار الخبز من طحين الرز بدلاً من طحين الحنطة. وتصنع النسوة نوعين من الخبز، سيحا [في الأصل السِيّاح] والرِصّاع الذي هو أقل سمكاً. ولصنع السلاطة يستعملون أبو خنجر (جرجير الماء أو الكرسون المائي) ونبات له أزهار وردية اللون يسمى لگاط، والذي قدم لنا أحياناً مطعماً بالخل والزيت. ثم هناك نوع من الحلفاء قابل للأكل يسمى عجيل Ageyl، وطلع البردي الذي تصنع منه حلويات [يجمع غبار الطلع ويطبخ بالبخار لتكوين كتلة صلبة صفراء اللون حلوة المذاق تسمى خِرّيط].

أود أن أحدثكم المزيد عن رحلتنا. لقد انتقلنا من مضيف الى كضيف، فيرسل مضيف يوم أو وجبة رسولاً الى التالي كي يتهيأ لاستقبالنا. وكرم الشيخ أمر لا يمكن رفضه، لأن كبرياءه سيُثلم وسمعته تُنتقص عندما يعجز عن تقديم أجود ما يمكن تقديمه لضيفه. لقد وفرت السفرة فرصاً عدة للحديث عن الحرب، الأمر الذي كان وقتها يوافق رغبتي. وفي اللحظة التي يصل المرء يقدم له شاي حلو وسگائر في المضيف، ولا تبدأ التحضيرات وإعداد الطعام إلا بعد أن يجلس الضيف. ولا تذبح الخراف والدجاج التي كانت تنتظر إلا في ذلك الوقت، بعدئذ تسلخ الخراف ويُنتف ريش الدجاج وبعدها تطبخ. ويعد الرز والسمك والحلويات (عادة يقدم  المحلبي الذي يصنع من الرز المطحون المطبوخ بالحليب والمُطيب بماء الورد)، لذلك تجهز الوجبة خلال ثلاث أو أربع ساعات، ومع ذلك غالباً ما تقدم باردة. وتفوت ساعات الانتظار بالأحاديث، وعرب الأهوار متحدثون ماهرون. وبعد تناول الطعام وغسل الأيدي، نقوم بزيارة النساء في المنزل، ونوزع هدايانا المكونة من بضعة أمتار من الحرير أو القبعات أو الألعاب للأطفال وبعض الحلويات.

وتبذل جهود لتسليتنا، فقد اقترض أحد الشيوخ الراديو القديم لمدير إحدى المدارس وربطناه الى بطارية المركب كي نستمع الى الأخبار. وللأسف، وعلى رغم التدوير الصبور للأزرار، لم نلتقط سوى إذاعات ألمانية أو إيطالية، وبدأ مضيفنا بالاعتذار. أخيراً وفقنا إلى التقاط موسيقى قوزاقية وطلبنا الاستماع الى هذه على الأقل. أحيانا كنا نصاحب الشيخ على الرماية أو الى حقول الرز. وفي إحدى الليالي تمتعنا بالاستماع الى "البستة"، وهي حفلة الأهوار الموسيقية. وقدم المطربون أغاني غرامية، وعندما طلبنا أغنية حرب، قدموها مصحوبة بإيقاع طق الاصبعتين، واحياناً أُستعمل الطبل في مصاحبة الأغاني.

وحاولنا، شريفة وأنا، إصدار صوت عن طريق طق السبابة والوسطى، وهم يفعلونها هكذا، دون أي نجاح. وبعد أن أرانا قائد المشحوف الذي نقلنا في اليوم التالي كيف يجب أن نعمل، ذكر لنا بأنه من المشين على المرأة طق أصابعها أمام الرجال. لقد كان عجوزاً قبيحاً. "لو فعلت زوجتي ذلك، فإني أقطع رقبتها بيدي وأشرب دمها" قال ذلك مؤشراً بيديه. وقد غضبت قليلاً، وعندما سألته لماذا لم يمنعنا من ذلك، قال "آه، أنتن النساء الانكليزيات تختلفن، أنتن كالرجال".

وتتمتع النساء في الأهوار بالرقص عندما يكن وحدهن، لكنهن يعتقدن بأن الرقص أمام الرجال مشين. وهذا يختلف كثيراً عن النساء في شمال العراق، فالمرأة الكردية ترقص مع الرجال الدبكة في كل الاحتفالات.

وتقوم النساء في الأهوار بأداء شكل من أشكال الرقص في مراسيم الحداد. عندئذ يجري تمزيق الثوب وحل الشعر ورميه ذات اليمين والشمال، واللطم على الصدر والترديد في كورس بعد العدّادة. والعدّادة محترفة، تعدد حسنات الميت وأسباب الحزن. وقد حضرت مثل هذه المناسبة قبل سنوات، وكانت العدادة هذه المرة رجلاً بلباس امرأة، بارعاً في ارتجال القافية، ويعمل في أرجاء الأهوار. كان حليق الوجه ويضع المكياج، ويستعمل اسماً نسوياً، وهو مندائي أسلم.

إن الرجال والأولاد الذين يرتدون ملابس النساء شعبيون في أفراح الزواج في الأهوار. وفي الربيع الماضي، عندما حضرت حفل زواج ابن أحد رجال الدين في إحدى قرى الأهوار، كان أحد هؤلاء الراقصين بشعره الطويل وملابس النساء يتندر مع الموسيقيين. كان منظره مقززاً عندما يتلوى ويقوم بحركات تؤديها النساء عادة، لكن ذلك أثار حماساً شديداً لدى الحاضرين كما كان واضحاً.

ذكرت دين المندائيين قبل لحظات، وهناك في الأهوار تجمعات من هؤلاء الناس المثيرين للاهتمام، وعوائل هنا وهناك متفرقة، ويعرفون محلياً باسم الصبة. وهم حرفيون ماهرون، يصنعون القوارب والحلي للعشائر، والفالات وصنارات صيد السمك والمساحي والمحاريث وغيرها من أدوات. ونشاطهم الآخر هو كتابة الرقي، إذ يذهب سكان الأهوار الى الكهنة المندائيين للحصول على تعاويذ باللغة العربية أو المندائية، والأخيرة تعتبر شديدة الفاعلية لأنها تكتب بخط ولغة غير معروفين. فهم يكتبون أحرازاً ضد المرض وسيطرة الأرواح الخبيثة وتعاويذ الحب بمختلف أنواعها، وأدعية لإرباك العدو أو الغريم، وتدفع مبالغ كبيرة لقاء هذه الكتابات.

كنا محظوظتين في النوم في كابينة المركب، فالربيع هو موسم البراغيث، حيث تعج حصائر بيت القصب بها. وقد اشتكى الطاقم وخادمي في البداية: حتى هم الذين تعودوا عليها وجدوا النوم مستحيلاً بسبب البراغيث، وقالوا "چان السمچ ينام بالهور إحنا نمنا". وتتألف تنويمة الربيع في الأهوار من نقيق ملايين الضفادع والنباح الأبح للكلاب، فقد أصر شرطينا على إقامة معسكرنا الليلي قرب مضيفينا.

وفي الليلة الأخيرة قررنا، شريفة وأنا، الانزواء لقضاء ليلة هادئة وتناول وجبة بسيطة على ظهر المركب. لكن الشرطي لم يأكل معنا على رغم توافر الطعام لكل الطاقم، إذ قال إن الشيوخ يبعثون بشخص للمراقبة قرب المركب للتأكد من عدم تعرضنا لأي مكروه. وقد أرسينا مركبنا قرب أحد البيوت التي يمتلكها الشيخ فيصل بن مجيد - وهي دار من طابوق بناها لعائلته، والعائلة هي النساء - حيث يمكننا تناول طعامنا في المركب بهدوء. لكن بعد فترة وجيزة جاء رجل حاملاً دعوة للعشاء مع فيصل الذي يبعد لمسافة عن الموقع الذي نحن فيه. إعتذرنا بأننا جد تعبات حتى نقوم بهذه الرحلة وشكرناه على الدعوة. بعد ذلك جاءت رسالة من الدار: "السيدات يودن رؤيتنا". هذا الأمر لم نستطع رفضه. عبرنا وسرنا على أرض مزروعة بالثيل (وعلمنا لاحقاً بأن مضيفتنا وجيهة هي التي زرعته) ودخلنا الدار بمرافقة عبد أسود. وما كدنا ندخل حتى نهضت السيدة الشابة، وحدقت فيّ لحظة، وصاحت: "أهذه أنت؟" واندفعت نحوي وقبلتني على الخدين. حييتها بحرارة ولكني لم أتذكر من هي وأين التقيتها. شيئاً فشيئاً عرفت بأنها وامها كانتا من بين زواري حينما أقمت في كوخ في قلعة صالح، الأمر الذي تعودت القيام به كل ربيع. وقلعة صالح مدينة صغيرة أو قرية كبيرة في منطقة العمارة. ولم تكن البنت من العشائر، بل ابنة تاجر من البصرة. والام أرملة ميسورة الحال سكنت قلعة صالح، في حين كانت البنت تدرس في المدرسة وقد تطلقت من زوجها. وكانت شغوفة بالقراءة والكتابة وكانت مغنية جيدة، وغالباً ما يطلب منها الغناء في الموالد، وهي المناسبات الدينية التي يجري فيها الغناء. وطلبها فيصل لسنوات بعد أن سمع بجمالها ومواهبها، غير أن أقاربها كانوا ضد الزواج العشائري. لكنه في النهاية حصل عليها، من المحتمل بعد دفع مبالغ كبيرة، والآن هي زوجته المفضلة. وهناك المزيد مما يمكن أن أرويه من قصتها، أطول مما يمكن أن يُقص هنا لكنه رومانتيكي جداً.

وعدناها بالعودة. وعند زيارتنا لها في المساء، طلبت منها أن تريني خزانة ثيابها بعد أن رأيت ملابسها المختلفة عن ملابس نساء العشائر. أخرجت الثوب بعد الآخر، وبدأت الثياب تتكوم في حضني حتى وصلت حنكي. وكانت تعرف عدداً من الأدعية السحرية التي كتبتها. ان منظرها الحسن وذكاءها يسهلان علينا فهم سبب كونها الزوجة المفضلة لفيصل المزواج. ويشاع أن أبا فيصل، مجيد، اتخذ له زوجة جديدة كل مساء. لربما كان في ذلك مغالاة، لكنه من المعتقد أن كثرة الزوجات والمحظيات دلالة على قوة الرجال وثرائهم. وترتدي زوجة الشيخ الحجاب عند ملاقاة الأغراب، لكن نساء الأهوار غير محجبات على العموم. وهن مُجدات في عملهن، مرحات ومحبوبات، وجميلات الطلعة غالباً. وحياتهن ليست بسهلة، فأزواجهن يطلقونهن لأتفه الأسباب ويحتفظون بالأولاد الذكور. ولا يمكن للبنت أن تتزوج من دون موافقة ابن عمها. ويمكنه الزواج منها إذا شاء، وإن لم يشأ فإنه قادر على منع زواجها من أي شخص كان، وإن تزوجت البنت حبيبها من دون موافقة ابن عمها فإنها تعرض حياتها للخطر، وعدد البنات اللائي خرقن هذا القانون كبير، ولذلك لا غرابة في تحدث الأغاني عن الحب الخائب أو المأساوي.

لكن النساء يواصلن الدرب: يطحنّ الحبوب ويطبخن ويحلبن الدواب وينسجن الملابس ويصبغنها، يُعلفن المواشي، ينجبن الكثير من الأطفال ويحملن العبء، إلى أن يعجزن قبل أوانهن. والزلم، أزواجهن ومضطهدوهن، هم أولادهن أيضاً، فهم يتوجهون اليهن طلباً للنصح والراحة، والعديد من النساء يحكمن أزواجهن دون معرفتهم.



(صدرت في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية) 

بحث هذه المدونة الإلكترونية

صدر مؤخراً

بارتوك وتجميع الموسيقى الشعبية

الجذور كان الموسيقي المجري البارز بيلا بارتوك (1881 - 1945) من بين أوائل الباحثين الذين وضعوا أسس علم الموسيقى الشعبية (Ethnomusicology)، وك...