الأحد، 23 أكتوبر 2022

موسيقى الملوك


 بريطانيا

يعود موضوع الملوك والأمراء الموسيقيين إلى الواجهة بمناسبة وفاة الملكة إليزابث الثانية مؤخراً. فقد كتب الكثير عن التربية الموسيقية الرفيعة التي يحصل عليها أفراد العائلة المالكة البريطانية ومن هم في فلكها من أعمدة الملكية. فهناك أفلام نادرة تظهر قدرة الأميرة ديانا الفذة في العزف على البيانو، ونعرف عن تلقي الملكة الراحلة أليزابث الثانية تعليماً في العزف على البيانو، والملك الجديد تشارلز الثالث على الترومبيت والبيانو عندما كان يدرس في كامبريج، وعزفه على التشيلو في اوركسترا كلية الثالوث المقدس في اوكسفورد. هذا التعليم المتنوع لا يستهدف تحويل ابناء العوائل المالكة إلى فنانين وموسيقيين بقدر ما هو جزء من تعليم شامل ووافي في كل نواحي الحياة في مختلف الفنون والعلوم الإنسانية والطبيعية لتهيئتهم للحكم بالطبع.

العلاقة بين الملوك والموسيقى قديمة، وهناك ملوك وأمراء لم يكتفوا بتذوق الموسيقى وتعلم العزف، بل ألفوا أعمالا موسيقية، منهم الملك هنري الثامن (1491 - 1547) الذي اهتم بالموسيقى وتعلمها، وكان يجيد العزف على الكثير من الأدوات المستعملة في عصر النهضة، ويحب الغناء. ألف بعض الأعمال الموسيقية الغنائية والآلية، منها قداسين لخمسة أصوات (فُقد العملان)، وهناك 33 أغنية من تأليفه ضمن مخطوطة كتاب الأغاني الخاص به وهو يضم 109 أغاني. كما نجد بضعة أغاني من تأليفه في كتاب الأغاني الذي جمعته زوجته الثانية آن بولاين، سوية مع مختارات من أعمال جوسكان دو بريه وجان موتون وأنتوان بروميل، وأعمال الأخرى يُجهل مؤلفها. لذلك يميل بعض الباحثين إلى أن تكون بولاين قد ألفت بعضاً منها، مثلما تنسب إليها اغنية "أيها الموت تعال وهدهدني حتى أنام" التي قيل أنها ألفتها في انتظار ساعة إعدامها بتهمة الخيانة.


ونعرف عن الملك جورج الأول (1660 - 1727) مؤسس عائلة هانوفر البريطانية المالكة التي انتهى حكمها بموت الملكة فكتوريا سنة 1901 حبه للموسيقى ودعمه لها. كان جورج أميراً على هانوفر وخدم عنده جورج فريديريك هندل، لكنه تركه وذهب إلى إنكلترا سنة 1712 بعد بعض المشاحنات بينه وبين الأمير. غير أن تنصيب جورج ملكاً على بريطانيا سنة 1714 أفضى إلى التقاء الرجلين مرة ثانية وتصالحهما في لندن. لم يمر وقت طويل حتى ألّف هندل درّته الشهيرة موسيقى المياه التي أعجب بها الملك أيما إعجاب، فأمر بإعادة تقديمها عدة مرات وهو في نزهته بالسفينة في نهر التيمس مساء وليل 17 تموز 1717 لتصبح واحدة من أعمال هندل المحبوبة.

استقبل ملوك بريطانيا من عائلة هانوفر الكثير من الموسيقيين الألمان (والنمساويين) مثل هندل وهايدن وكذلك مندلسون الذي كان يقضي فترات طويلة في ضيافتهم. هناك ألف الكثير من الأعمال المعروفة مثل افتتاحية كهف فنغال الشهيرة.

أما فيكتوريا التي كانت تعزف على الأورغن وزوجها الأمير ألبرت، فقد تخلد اسميهما بالارتباط مع قاعة ألبرت الملكية في جنوب كنزنغتون التي افتتحتها الملكة فيكتوريا سنة 1867 تخليداً لذكرى زوجها. تعد هذه القاعة أحد رموز الموسيقى في لندن، المكان الذي يقام فيه المهرجان اللندني الصيفي الشهير، برومز.


ألمانيا


كان فريدريك (الكبير) ملك بروسيا (1712 - 1786) من أشهر الملوك الذين برعوا في التأليف الموسيقي. فهو عازف جيد على الفلوت ولديه الكثير من الأعمال الموسيقية، تحديداً 121 سوناتا للفلوت وأربع كونشرتات للفلوت، ثلاثة سمفونيات وثلاثة مارشات. كانت فرقته الموسيقية من بين أفضل فرق أوروبا، بلغ عدد أفرادها 50 موسيقياً بارعاً في خمسينات القرن الثامن عشر. عمل عنده أفضل الموسيقيين وقتها مثل كارل فيليب إيمانويل باخ والأخوين غراون، واستقدم من بلاط دريسدن أعظم عازف فلوت في وقته، يوهان يواخيم كفانتس ليعلّمه الفلوت، ودفع له 2000 تالر سنوياً بعد أن كان كفانتس يحصل على 250 تالر في دريسدن. 


فريدريك الثاني ملك بروسيا

وكانت الأميرة أنّا آماليا لا تقل اهتماماً بالموسيقى عن أخيها الملك فريدريك الكبير. تعلمت العزف على الفلوت والكمان والهاربسيكورد، ألفت عدداً من الأعمال لكنها أتلفت الكثير منها. وعثر على عدد من أعمالها ضمن مجلدات مكتبة "أكاديمية الغناء" البرلينية التي اكتشفت في مكتبة في كييف العاصمة الأوكرانية سنة 1999 بعد سرقتها من برلين في 1945. إذ يعود للأميرة الفضل في حفظ الكثير من أعمال باخ الكبير وغيره من الضياع بتجميع أعمالهم في مكتبتها الضخمة التي تبلغ 2000 مجلداً، منها 600 مجلد لأعمال باخ وهندل وتلمان وباخ الابن كارل فيليب، وهي جزء مهم من مكتبة الدولة الألمانية في برلين اليوم. 

يبرز كذلك الأمير لويس فرديناند البروسي من نفس العائلة، فهو أبن أخ فريدريك الكبير، رعته عمته أنّا آماليا. وكان عازف بيانو قال عنه بيتهوفن "إن عزفه ليس كعزف الملوك والأمراء، بل مثل أمهر عازفي البيانو". كان فرديناند ضابطاً في الجيش البروسي، وقد قُتل في معركة زالفيلد مع جيش نابليون سنة 1806، عاش 34 سنة، لكنه ترك لنا 13 قطعة موسيقية للبيانو للحجرة وكذلك للأوركسترا، منها روندو جميل للبيانو والأوركسترا

الأمير الآخر الذي يستحق أن نذكره في هذا المقام هو يوهان أرنست أمير فايمار الذي توفي قبل أن يبلغ التاسعة عشرة (1696 - 1715). كان هذا العمر كافياً لتأليف 19 كونشرتو وسوناتا واحدة لأداة الترومبيت، أعاد الموسيقار يوهان سيباستيان باخ توزيع بعض هذه الأعمال للهاربسيكورد. وللتذكير، عمل باخ في فايمار من 1708 كعازف أورغن في كنيسة البلاط وعازف كمان في جوقته، ثم قائداً للجوقة بين 1714 -1717. أمضى الأمير يوهان أرنست سنتين في هولندا لدراسة الموسيقى، وهناك تعلم الكثير من التقنيات التي لم تكن معروفة في ألمانيا وقتها، ومنه تلقفها باخ. كما كانت للأمير علاقة بعبقري آخر غير باخ، هو جورج فيليب تلمان (وكان في هامبورغ)، وقد أهدى تلمان مجموعته من سوناتات الكمان المطبوعة سنة 1712 إلى الأمير، وهو من قام بنشر كونشرتات الأمير بعد موته. تكمن أهمية يوهان أرنست في توطين شكل الكونشرتو الإيطالي في ألمانيا عبر تأثيره على أعظم موسيقارين في الولايات الألمانية وقتها، باخ وتلمان.



إيبيريا


يعتبر الملك آلفونس العاشر ملك قشتالة (1221 - 1284) الملقب بالحكيم من أهم وربما أقدم الملوك الذين نعرف عن صلتهم الوثقى بالموسيقى. عرف الفونس العاشر بعظمة بلاطه وقد شجع الترجمة من العربية إلى اللاتينية، بذلك كان واسطة لنقل العلوم والفنون الأندلسية إلى أوروبا. كان ملك قشتالة يبرع في الكثير من العلوم والفنون، فبرع في علم الفلك والتاريخ والحقوق إلى جانب جمعه أناشيد القديسة ماريا، وهي مجموعة شعرية وموسيقية هامة من العصور الوسطى كتبت باللغة القشتالية.

توجد اليوم أربع مخطوطات من الأناشيد، واحدة في مكتبات توليدو وواحدة في المكتبة الوطنية في فلورنسا واثنتان في مكتبة الأسكوريال، قسم من النسخ مزدانة برسوم باذخة وأخرى أقل تزيينا. تحوي النسخ ما مجموعه 420 نشيداً، فهي ليست متطابقة تماماً، وهناك الكثير من الرسوم الدقيقة باذخة التفاصيل في بعض النسخ. جرى تنويط الأناشيد لكن لا تزال أمام الباحثين طريق طويلة لفك رموزها بشكل مقبول، إذ توجد صعوبات في تحديد الأشكال الموسيقية والإيقاع وقيمة الأنغام (الدرجة) بشكل أفضل رغم التقدم الكبير الحاصل في العقود الأخيرة. تكمن أهمية هذه المخطوطة في كونها حلقة الوصل بين الموسيقى الأندلسية والموسيقى في أوربا القرون الوسطى، بسبب النشاط الكبير الذي بذله الفونس العاشر في نقل الفنون والآداب والعلوم الأندلسية إلى اللاتينية. 

عرف ملك البرتغال جواو (يوحنا) الرابع (1604 - 1656) بتحقيقه استقلال البرتغال عن الحكم الإسباني، ليحكم البلاد في مملكة قائمة بذاتها استعمرت أصقاع شاسعة من العالم، من أمريكا اللاتينية مروراً بأفريقيا حتى آسيا. فقد خضعت البرتغال قبله لسلطة العرش الإسباني الذي تربع عليه فرع من عائلة هابسبورغ حكام النمسا. عُرف كذلك باهتماماته الموسيقية الجادة، وحتى في النقد الموسيقي. يشهد على ذلك الاهتمام سعيه للدفاع عن موسيقى بالسترينا (1525 - 1594) ضد هجوم أحد الأساقفة عليه، لخص هذا الدفاع في رسالة نشرها سنة 1649 تتضمن الكثير مما يعتبر اليوم ضمن النقد الموسيقي.

للأسف لم تصلنا أية أعمال كاملة للملك جواو الرابع، سوى جزأين من ستة أجزاء من عملين له في شكل الموتيت في ستة أصوات. يعني هذا الكلام أن الموتيت كتب لستة خطوط لحنية (ستة أصوات غنائية)، لذلك يجري طبع كل خط لحني (صوت) لوحده على انفراد حتى يستعمله المغني الذي يؤدي هذا الخط اللحني. فلم يبق لنا من المدونات الستة سوى اثنتين. أما الموتيت فهو شكل غنائي ديني لبضعة أصوات، على الأغلب دون مصاحبة الأدوات الموسيقية (وفي عصر الباروك قليلاً ما صاحبته أدوات الباص المستمر مثل التشيلو أو الهاربسيكورد).

أمتلك الملك جواو الرابع مكتبة موسيقية ضخمة لم تبزها سوى مكتبة الفاتيكان. لكن هذا الكنز تدمر في حريق شب عقب زلزال أصاب لشبونة في سنة 1755. لم يتبقى لنا سوى الجزء الأول من فهرس المكتبة وقد ضم مئات العناوين. 


العثمانيون


اهتم عدد من السلاطين العثمانيين بالفنون والموسيقى، منهم السلطان مراد الرابع (1612 - 1640)، وبقي لنا عمله بشرف على مقام عزال (حجاز + عشاق). عرف بقسوته الشديدة وبحروبه مع الدولة الصفوية التي احتلت بغداد لخمسة عشر عاما واسترجاعها منهم. 

لكن أشهر السلاطين من جانب حبه للفنون والآداب والخط والموسيقى على الإطلاق هو السلطان سليم الثالث (1761 - 1808) الذي اشتهر كذلك بمحاولة تحديث الإمبراطورية عبر إصلاح الجهاز العسكري وتقليص دور الانكشارية واستحداث ما عرف بالنظام الجديد، وهو جيش مشاة مدرب ومجهز وفق أحدث معايير ذلك العصر. لكنه عزل عن الخلافة بسبب معارضة الجيش النظامي القديم والانكشارية وتآمرهم عليه وعلى إصلاحاته وتنصيب مصطفى الرابع سنة 1807 وسجن في السراي لحين قتله بأمر من مصطفى. كان سليم الثالث يتقن العربية والفارسية (لغة الشعر في السراي العثماني) إلى جانب التركية والبلغارية القديمة.

افتتن سليم بالموسيقى وكان عازفاً على الناي والطنبور ومؤلفاً كتب 64 عملاً لا يزال البعض منها يقدم حتى اليوم كجزء من التراث الموسيقي العثماني الكلاسيكي. كان سليم كذلك من أتباع الطريقة الصوفية المولوية المعروفة باستعمال الموسيقى والغناء في مراسيم السماع، لذلك ألّف سليم أعمالا موسيقية مولوية (وأشكالها العين والذكر). رعى كذلك الفنون، ودعم الموسيقار الأرمني همبرسوم في جهده لابتكار نظام تدوين موسيقي ملائم للموسيقى العثمانية استعمل فيه الحروف الأرمنية وعدداً من الرموز. جمع همبرسوم ودوّن أهم الأعمال الموسيقية العثمانية في ستة مجلدات وأهداها لسليم الثالث، كما دعم دده أفندي أحد أعظم الموسيقيين العثمانيين وأهم من كتب الموسيقى المولوية، وكانت موسيقاه تؤدى في قصر السلطان.  

لم يكتف السلطان سليم بدعم الموسيقى العثمانية الكلاسيكية، بل دعم تقديم الموسيقى الأوروبية، فأمر باستقدام فرقة موسيقية وقدمت أول عروض الأوبرا في باحة قصر توبكابي في اسطنبول سنة 1797، ربما بمساعدة السفارة الفرنسية هناك.


السلطان عبد العزيز


السلطان الآخر الذي عرف بحبه للفنون  مثل الخط  والرسم والشعر وعلى الخصوص للموسيقى، وبتأليفه مقطوعات كلاسيكية تركية وأوروبية هو عبد العزيز (1830 - 1876). كان عبد العزيز مهتماً بتحديث البلاد بالخصوص الأسطول العثماني، وبناء نظام تعليمي معاصر وسكك حديدية وصناعة. كان أول سلطان عثماني يزور الكثير من دول أوروبا سنة 1867، وقد استقبلته فكتوريا ملكة بريطانيا بفرقة موسيقية تعزف أحد أعماله، فقد كان مهتماً بالموسيقى العثمانية والأوروبية على حد سواء. من أعماله الجميلة سيرتو حجاز كار، والسيرتو هو رقصة يونانية سريعة أصبحت من القوالب الموسيقية المهمة في الدولة العثمانية. وقد عمل عدد كبير من الموسيقيين اليونانيين والأرمن وغيرهم من القوميات في الاستانة وكان لهم حضوراً كبيراً في غالبية الفنون، وهم الذين طوروا الفنون العثمانية من موسيقى وعمارة. جرى اقتلاع مليون وربع المليون يوناني من أرض أجدادهم سنة 1923 ونقلوا إلى اليونان.

ويذكر هنا أن السلطان محمود الثاني (1785 - 1839) كان أول السلاطين الذين ألفوا موسيقى أوروبية، ولديه 26 عملا موسيقيا.


كتابة في أربع حلقات صدرت في صحيفة المدى البغدادية في شهر تشرين الأول 2022



بحث هذه المدونة الإلكترونية

صدر مؤخراً

بارتوك وتجميع الموسيقى الشعبية

الجذور كان الموسيقي المجري البارز بيلا بارتوك (1881 - 1945) من بين أوائل الباحثين الذين وضعوا أسس علم الموسيقى الشعبية (Ethnomusicology)، وك...