الجمعة، 9 ديسمبر 2022

أغاني اليهود البابليين الدينية

 اليهودية والإسلام - إله واحد موسيقى واحدة




 

صدر سنة 2019 عن دار بريل المتخصصة بنشر الكتب الأكاديمية  كتاب ثمين عنوانه: "اليهودية والإسلام - إله واحد موسيقى واحدة" من تأليف الباحثة الموسيقية د. ميراف روزنفلد - حداد. وهي من أبناء الجيل الأول المولود في إسرائيل لأبوين عراقيين هما بلانش سوميخ (1935 - 2019) وموريس حداد (1932 - 2017). 

الفكرة الأساسية للكتاب هي أن يهود بابل [وتعني اليهود العراقيين] كانوا يستعملون نفس الوسائط الموسيقية التي يستعملها محيطهم الرافديني في أداء التراتيل الخاصة بمناسباتهم الدينية والاجتماعية على الدوام. يتعلق هذا بالنظام الموسيقي (الأنغام والمقامات والإيقاعات العراقية) والأدوات الموسيقية إن كانت هناك موسيقى تصاحب التراتيل. تعرّف الباحثة هذا النوع من الغناء الديني بمصطلح "اغنية شبه طقسية" (Paraliturgical Song) لتمييزها عن التراتيل الطقسية الدينية التي تنظمها تعاليم غاية في التشدد (هالاخاه)، وهو أمر لا ينطبق على هذه التراتيل والأغاني التي تغنى في مناسبات معينة مثل وجبات طعام أيام السبت أو الأعراس أو الختان أو البلوغ ونحو ذلك، مواضيعها المدائح والتسبيح للرب ومواضيع عامة مثل القيم والأخلاق والتمسك بالشريعة الموسوية الخ. 

بحثت روزنفلد - حداد في أصل النصوص العبرية الشعرية المتوارثة وصنفتها حسب التسلسل التاريخي استناداً إلى مجموعتين من كتب التسابيح (سفر ها-شيريم) الأولى صدرت في بغداد سنة 1906، والثانية في القدس سنة 1954 هي نسخة موسعة من الأولى أضيف إليها ما كتب منذ 1906، وكان وجود هذين الكتابين في مكتبة جدها الحاخام يتسحاق مئير رفائيل الحداد (بغداد 1896 - تل أبيب 1968) ما دفعها للخوض في هذا الموضوع.

أحصت الباحثة 247 نصاً شعرياً تغطي قرابة ألف عام، منذ العصر العباسي حتى العصر الحالي ألفها 53 شاعر. وأبرزت بضعة شعراء أقدمهم دوناش ها-ليفي بن لابرات (فاس 918 - قرطبة 970)، والأندلسي الاسباني شلومو بن غابيرول (مالاغا 1020 - بالنسيا 1057)، وتوقفت عند شاعرين مهمين هما اسرائيل بن موشيه نجارا (صفد 1555 - غزّة 1625) الذي ألف واحد وثمانين نشيداً، والحاخام يوسف حاييم بن إيليا  (1835 - 1919) الحاخام البغدادي الذي ألف خمسين نصاً، بالإضافة إلى سبعة وعشرين من شعراء بغداد من القرنين 18 - 19 ألفوا واحدا وستين نشيداً. إذاً حفظت هذه الكتب الأشعار التي تبعت قواعد الشعر العربي من وزن وقافية إلى الأجيال اللاحقة، لكن لا توجد في الكتابين أية إشارة إلى اللحن والموسيقى، فهذه تناقلتها الأجيال شفاهاً، بقليل أو كثير من التحوير كما هو معروف في عملية نقل شفاهي مثل هذه. 

يبدو من الأمثلة المسموعة اليوم أن هذه الأغاني والتراتيل تماثل تماماً ما هو معروف في بغداد والموصل وحلب، وتتشابه لغتها الموسيقية إلى حد كبير مع التراتيل الدينية في الكنيسة المسيحية الرافدينية باللغة الآرامية، وهي تراتيل قد يعود تأريخ تأليفها إلى أكثر من ألف عام، وربما يعود بعضها إلى القرون الأولى بعد الميلاد.

يقوم الشاعر بكتابة نص عبري يحل محل النص العربي لاغنية شهيرة أو موشح شائع في ذلك الوقت. لهذا أعتبر هذه المجموعة مهمة إذا ما أردنا عكس العملية للبحث في الأغاني العربية الأصلية التي كانت شائعة قبل قرون. وحتى أوضح ذلك ألجأ إلى المثل الذي استعملته المؤلفة عن قيام السوري حاييم شاؤول عبود (حلب 1890 - القدس 1977) بكتابة نص يناسب اغنية محمد عبد الوهاب (1902 - 1991) الشهيرة "امتى الزمان يسمح يا جميل" 1930 في مقام كرد. وسمعت في واحد من التسجيلات المنشد يشيئيل نهاري (من أصول يمنية وسورية) وهو ينشد بلحن أغنية أم كلثوم أنت عمري 1964، وهي من تلحين محمد عبد الوهاب في مقام كرد. وكان جمهور المصلين في كنيس موجود في نيويورك (منهاتن) يردد وراءه مقاطع هذه الأغنية التي حصلت على شعبية هائلة بينهم بقدر ما حصلت عليه في الشارع العربي. لذلك أعتبر الطبقات الأقدم من هذه الأناشيد مرآة تعكس حال الأغاني العربية الشهيرة في القرون الماضية، تماماً مثلما حصل مع اغنيتي عبد الوهاب في القرن العشرين.

نعود إلى كتابي التسابيح اللذان شكلا منطلق كتاب الباحثة عراقية الأصل ميراف روزنفلد - حداد، بالعبرية سفر ها - شيريم (كتاب الأغاني أو التراتيل). أعد طبعة 1906 الربي عزرا رؤبين دنـگـور (1848 - 1930)، وهو من الشخصيات اليهودية البغدادية المهمة، ولد في بغداد ودرس عند الربي عبدالله سوميخ. أسس مطبعة في بغداد سنة 1904 طبع فيها هذا الكتاب وكتب عربية وعبرية أخرى. أما ناشر طبعة 1954 فهو صالح بن يعقوب منصور (1895 بغداد - 1987 القدس) الذي هاجر إلى فلسطين في 1927 وأصبح ناشراً ناجحاً هناك.

الأنغام المستعملة لأداء التراتيل المدونة في المجموعتين هي نفس المقامات العربية عموما، والكثير من المقامات العراقية المعروفة (مع بعض الاختلاف الطفيف بين نسختي 1906 و 1954): نوى، رست، صبا، أوج ومخالف، زنجران، بهيرزاوي، خنبات الخ. وهذه هي اللغة الموسيقية العراقية الخالصة ذاتها.

وإذا أخذنا في عين الاعتبار الدور الرائد للموسيقيين اليهود في العراق حتى التهجير والهجرة الجماعية منتصف القرن العشرين، بالخصوص دور الأخوين صالح الكويتي (الكويت 1908 - رامات گـان 1986) وداود الكويتي (الكويت 1910 - رامات گـان 1976)، ومدير قسم الموسيقى رئيس الفرقة الموسيقية في اذاعة بغداد عازف القانون يوسف زعرور (بغداد 1902 - رامات گـان 1969) وعشرات غيرهم، لا نستبعد أن تكون ألحان بعض التراتيل المذكورة في المجموعتين قد ألفها موسيقيون يهود. على العموم تستنتج الباحثة روزنفلد - حداد أن معظم هذه الألحان إن لم يكن جميعها أغاني عربية في الأصل. الجوهر في الأمر التقاليد الموسيقية المشتركة بالنسبة للجميع، من مسلمين ويهود ومسيحيين، جميعهم يستعملون هذه الموسيقى بشكل طبيعي لأنها جزءاً منهم وهم جزء من هذه الثقافة الموسيقية المشتركة. 

ما الذي حدث في إسرائيل بعد الهجرة أوائل خمسينات القرن العشرين هو محاولة طمس هذا التراث الثمين لاعتبارات سياسية تتعلق بالصراع العربي - الاسرائيلي، بسبب ارتباطه بالعرب عموماً. لكن هذا الأمر تغير منذ الثمانينات، فقد تعاظم الاهتمام بهذه التقاليد وأخذ تقديم التراتيل يتزايد وتعدى الجانب الروحاني الديني إلى الجانب الدنيوي. ولا ينطبق الأمر على حملة هذا التراث المتحدرين من اصول عراقية أو سورية أو يمينة أو شرقية (سفاردية) فحسب، بل انتشر بين ذوي الأصول الأشكنازية كذلك. 

ونجد اليوم عدداً كبيراً من المرتلين الدينيين والفنانين الذين يقدمون الأعمال الدينية والدنيوية بروح المقام العراقي. نبرز منهم المرتّل (بالعبرية حازان) موشيه حبوشا (1961)، حفيد المرتّل بغدادي الولادة الحاخام گـرجي يائير (بغداد 1910 - اسرائيل 1999) الذي علمه أصول الغناء، ثم تأثر بالغناء الحلبي والمصري. درس حبوشا كذلك على يد شلومو رؤبين معلم (بغداد 1905 - اسرائيل 1989). وحبوشا هو أحد أهم حفظة التراث اليهودي البغدادي، رغم خدمته في كنيس لليهود السوريين في نيويورك منذ عقود. نبرز كذلك حسقيل تسيون مرتّل بيث توراة بروكلين في نيويورك، وهو من اصول عراقية (لقبه الأصلي سونا، أمه من عائلة شهرباني). أما الجانب الدنيوي فخير من يمثله اليوم الموسيقي متعدد الاهتمامات عازف الكمان يائير دلال، إلى جانب عازف القانون دافيد رجف زعرور وفرقته "لا فلفوله" التي تقدم المقام العراقي والبستات البغدادية بالطريقة التقليدية، وهو ابن حفيد يوسف زعرور الكبير. ولابد من ذكر داوود تاسا حفيد داود الكويتي من جهة امه، وفرقته المسماة "الكويتيون"، وهو مغني بوب شهير في إسرائيل يقدم ما أبدعه الاخوان صالح وداود لكن بأسلوب البوب الحديث أو الجاز.


بحث هذه المدونة الإلكترونية

صدر مؤخراً

بارتوك وتجميع الموسيقى الشعبية

الجذور كان الموسيقي المجري البارز بيلا بارتوك (1881 - 1945) من بين أوائل الباحثين الذين وضعوا أسس علم الموسيقى الشعبية (Ethnomusicology)، وك...