السبت، 5 سبتمبر 2020

موتسارت الأسود

 



تعد السيمفونيات الباريسية التي ألفها النمسوي فرانس يوزف هايدن (1732-1809) بين سيمفونياته المحبوبة. وكان هايدن وقتها وصل ذروة شهرته، وألف هذه السيمفونيات الست (أرقامها من 82 الى 87) بطلب من الفرقة الباريسية كونسير دو لا لوغ اوليمبيك. قدمت الاوركسترا هذه السمفونيات الست لأول مرة في باريس سنة 1786 بنجاح ساحق، لكن من قاد الاوركسترا وقتها؟ انه الفارس جوزف بولون دو سنت-جورج، أحد أعظم عازفي الكمان في باريس وقتها. كان شخصية فذة، متعددة المواهب، فهو عازف كمان بارع (فيرتوز) ومؤلف موسيقي لامع، وأشهر مبارز لاعب سيف وخيّال ماهر، ولاحقاً جنرال في جيش الثورة الفرنسية. لربما كانت مشكلته الرئيسية هي تحدره، فقد ولد العام 1745 في غوادلوب في الكاريبي لأب فرنسي نبيل من مالكي المزارع وام زنجية جلبت من غرب أفريقيا لكنها عتقت. هل كان لون بشرته السبب في نسيانه قرابة 200 عام بعد وفاته سنة 1799 برغم الروايات التي صدرت مستلهمة سيرة حياته الغنية والمثيرة؟ ربما، سيما أن الثورة الفرنسية، على الرغم من شعار الاخوة والمساواة والحرية الذي رفعته، لم تجلب الأخوة ولا المساواة بين الفرنسيين أو للمرأة الفرنسية ذاتها، ولا الحرية للمستعمرات الفرنسية أو للعبيد في أراضيها، برغم كل المثل السامية التي عبرت عنها. فقد تأخر الحصول على الحقوق المدنية لأكثر من قرن بعد قيام الثورة الفرنسية وتطلب الوصول إلى ذلك ذلك نضالا مريرا.

لابد هنا من ذكر الموقف الغريب الذي أخذه كبار رجال عصر التنوير الفرنسي من قضية الأعراق، فهذا فولتير العظيم قد وصل الأمر به إلى التشكيك بإنسانية الزنوج. إذ ينعتهم في الرسالة السابعة من رسائل أمابد بالحيوانات، أما في رسالته عن الأخلاق فيصفهم بأنهم دون البيض من جهة الفهم "فهم ليسوا بشراً، إلا في هيئتهم، مع القدرة على النطق والتفكير هي أبعد ما يكون عن قدراتنا نحن. هكذا كان الأفراد الذين رأيتهم وفحصتهم" (من مقدمة رسالة في الأخلاق).

إذاً، يمكننا تخيل الرأي العام في المجتمع الفرنسي آنئذ إذا كان فولتير الفيلسوف المتنور يحمل أفكاراً من هذا القبيل. بدأ ظهور الأفارقة في فرنسا قبل الثورة يثير القلق، مما دعى الملك لويس الخامس عشر إلى سن قرار في 5 نيسان أبريل 1762 يلزم الزنوج بموجبه التسجيل لدى كاتب الأدميرالية خلال شهرين من صدور القرار. وبذلك تسجل 159 من الزنوج والملونين (بضمنهم الذين ولدوا من أبوين مختلطي العرق، مثل جوزيف دو سنت-جورج).

لكن جوزيف دو سنت-جورج تمكن برغم هذا الجو الذي لا يمكن وصفة بالمتسامح، من الوصول إلى أعلى مراتب المجتمع الفرنسي متخطياً كل العوائق العرقية. وتطلب منه إلى جانب القدرات الفذة التي تمتع بها الكثير من العمل والجهد والمثابرة للوصول إلى ما وصل إليه. بالمقابل كان عليه تحمل صليبه، فقد حرم من الزواج من امرأة تناسبه وتناسب قدراته بسبب القوانين التي تحرم ذلك.

انتقل جوزف الصغير في الثامنة من العمر إلى بوردو بفرنسا مع أليزابيت زوجة أبيه، ثم انتقل للعيش في باريس مع قدوم أبيه وأمه من غوادلوب خريف 1755، ليستقروا في حي سنت جرمان الراقي. دخل جوزف أكاديمية المبارزة التي أدارها نيكولا دو لا بوسيير، سوية مع ابن مالك الأكاديمية حيث أصبحا صديقان حميمان. وهناك كان يدرس الرياضيات واللغات والتاريخ والموسيقى والرسم والرقص في الصباح، وبعد الظهر المبارزة والفروسية. تتوج تفوقه في المبارزة بحصوله على منصب عسكري هام في مكتب الفرسان وصفته مستشار الملك، وقد خدم في هذا المنصب لمدة أحد عشر عاماً، وحصل بذلك على لقب فارس وأصبح من النبلاء. إذ كانت وظيفته تلك تعني قيادة فوج من الخيالة خفيف التسليح، ليس بسبب قدراته الفائقة في المبارزة فحسب، بل كذلك لمؤهلاته الراقية في مجال الإدارة. وليس هناك دليل أكبر على قدرات جوزيف بولون دو سنت-جورج الفائقة، من إعفائه من شرط السن كي تسند إليه هذه الوظيفة، إذ كان في السابعة عشرة فقط، بينما كان شرط السن هو بلوغ المتقدم للوظيفة سن الخامسة والعشرين.

كانت مهاراته في المبارزة، إلى جانب مركزه الوظيفي العاملان الأساسيان في الدفاع عن نفسه في ذلك المجتمع الذي يحتقر السود والملونين: الدفاع إذن كان ذا حدين: فيزياوي (عضلي، جسماني، عنفي) واجتماعي.

 

جوزيف دو سنت-جورج والموسيقى:

مثلما برع جوزيف باللعب بالسيف، برع باللعب على الكمان والكلافسان (الهاربسيكورد بالانكليزية والتشمبالو بالإيطالية، وهي أداة موسيقية تشبه البيانو). لربما تعلم العزف على الكمان عند أشهر مؤلف وعازف كمان فرنسي في ذلك الوقت، هو جان-ماري لوكلير، ولبراعة عزفه أهداه أفضل المؤلفين أعمالهم التي ألفوها خصيصاً له، مثل الفرنسي فرانسوا-جوزيف غوسك والألماني كارل شتاميتس والايطالي أنتونيو لولي (Lolli وليس له علاقة بجان باتيست لولي Lully أحد أعظم الموسيقيين الفرنسيين 1632-1687 وهو من أصل ايطالي). ومرة اخرى، صعد دو سنت-جورج إلى القمة فأصبح عازف الكمان الأول في الفرقة الموسيقية التي أسسها غوسك باسم فرقة الهواة. هؤلاء الهواة لم يكونوا هواة في الواقع، فقد تألفت الفرقة من أكثر من سبعين عازف، بينهم هواة ومحترفين من الأكاديمية الملكية للموسيقى ومن عازفي الملك. وفي 1773 أصبح دو سنت-جورج قائد فرقة الهواة، التي كانت تعتبر أفضل وأكبر اوركسترا فرنسية في وقت قيادة دو سنت-جورج لها. زيادة على ذلك، كاد أن يصبح المدير الموسيقي لدار الاوبرا لباريسية، لولا انتفاض بعض المغنيات الرئيسيات في الفرقة ضد تعيينه (لأسباب عنصرية بالطبع، لكن السبب الحقيقي هو الخوف من فقدان موقعهن) وتقديمهن التماساً إلى الملكة. ومن المعروف أن هذا المنصب هو أرقى منصب يمكن للموسيقي أن يحتله في فرنسا.

في العام 1781 حلت فرقة الهواة، لكن سرعان ما تشكلت فرقة ثانية هي اوكسترا اللوج الاولمبي (كونسير دو لا لوغ اوليمبيك) التي قدمت سيمفونيات هايدن الباريسية الست. وتسمى تلك السيمفونية الباريسية التي تحمل الرقم 85 بسيمفونية الملكة، لأنها كانت المفضلة لدى ماري أنتوانيت ملكة فرنسا التي أطاحت المقصلة رأسها بعد أعوام قلائل. وماري أنتوانيت، وهي من عائلة هابسبورغ التي حكمت النمسا لقرون، حصلت على تعليم موسيقي ممتاز في فيينا، وكان الموسيقار الكبير كريستوف فيليبالد غلوك بين مدرسيها. ولربما قام جوزيف بتدريس الملكة الشابة التي حرصت على حضور كل حفلات اوركسترا اللوج الاولمبي، وهناك دلائل تشير إلى علاقة حميمة قامت بين الفارس الأسمر والملكة.

ويعتقد بعض الباحثين، أن هذه الفرقة قدمت أول كونشرتو لأداة الكلارينيت ألفها دو سنت-جورج في ربيع 1782، وأعيد تقديمها عدة مرات في 1783. وإن ثبت ذلك، ستسبق كونشرتو دو سنت-جورج رائعة موتسارت كونشرتو الكلارينيت في لا الكبير (ألفها قبل وفاته في 1791، ورقمها 622 حسب تصنيف كوخل) وهي تعتبر أول كونشرتو كلارينيت في التاريخ. وتشير المعلومات المتوفرة أن هذه الأداة الموسيقية قد تم تطويرها بحدود العام 1784.

 

دو سنت-جورج والثورة الفرنسية:

كان دو سنت-جورج في مدينة ليل عندما قامت الثورة، وسرعان ما تطوع لخدمة الثورة بسيفه وكمانه. ألا أن علاقته بالنظام الملكي القديم جعلته يتخذ حيطته، فأخذ يتجنب التوقيع باسمه السابق، واستعمل اسم جوزف سنت-جورج فقط. وفي 1791 أقرت الجمعية الوطنية تشكيل وحدة عسكرية لينضم اليها الملونون والمتحدرون من اصول افريقية الذين حصلوا على حريتهم من الرق، وأصبح دو سنت-جورج آمرا على هذه الوحدة برتبة جنرال، ليرأس 800 من المشاة و200 خيّالا. وكان اسم هذه الوحدة الرسمي "فيلق الخيالة الأمريكي" كناية عن مستعمرات فرنسا في الكاريبي، لكنها سرعان ما أصبحت تعرف بفيلق سنت-جورج. أختار الجنرال مساعداً له، هو صديقه توماس - ألكسندر دوما الذي يشبهه في تحدره، فأمه من عبيد هايتي، وأبوه ارستقراطي فرنسي خدم في الجيش الفرنسي في هايتي وقتها. ودوما هذا هو أبو الكاتب الفرنسي الشهير الكسندر دوما (الأب، 1802-1870).

 حارب فيلق سنت-جورج القوات النمساوية التي هجمت على مدينة ليل، وصد هجومها وأبعدها. واشترك دو سنت-جورج في القتال بنفسه. لكن السلطات بدأت بإبعاد الزنوج من الفيلق تدريجياً، بأرسالهم إلى المستعمرات لقمع انتفاضات العبيد هناك، وغيرت اسم الفيلق إلى الفيلق الثالث عشر. ومع ذلك يعود الفضل لدو سنت-جورج في كشف مخطط الماركيز ديمورييه لاحتلال ليل بمساعدة وحدات من الجيش النمساوي بقيادة الجنرال البولوني مياتشينسكي، وتنصيب ابن لويس السادس عشر ليكون ملكاً باسم لويس السابع عشر. إذ خدع دو سنت-جورج ودوما هذا الضابط وتظاهرا بالتعاون معه، لكنهما اعتقلاه مع جنوده عندما جاء لتسلم المدينة، وأرسلاه إلى باريس، فأفشلا واحدة من أخطر المؤامرات على الثورة الفرنسية. ومع كل هذا، وبسبب موقعه المرموق في النظام السابق، وبسبب الفوضى التي صاحبت الثورة الفتية، زج بالفارس دو سنت-جورج في السجن بتهم مختلفة ومختلقة في خريف 1793. ولحسن حظه أطيح بروبسبير سريعاً، وأعلنت لجنة السلامة العامة أن دو سنت-جورج أبعد من الفيلق وسجن من دون سبب، فأطلق سراحه بعد عام تقريبا، في خريف 1794. لكنه فشل في العودة الى منصبه السابق بعد تغير الأحوال السياسية.

ألغت الجمعية الوطنية الفرنسية العبودية في 4 شباط فبراير 1794، لكن نابليون بونابرت أرسل جيوشه في 1802 إلى غوادلوب وسنت-دومنغ (هايتي) بهدف إعادة العمل بنظام العبودية. وعانت الجيوش الفرنسية في سبيل استعادة السيطرة وقتلت آلاف السود، واخيراً سيطر الفرنسيون على غوادلوب التي شهدت مذبحة كبيرة عندما فضل مئات المقاتلين السود الموت على الاستسلام بتفجير أنفسهم في مخزنٍ للبارود. بالمقابل فشل الجيش الفرنسي في السيطرة على سنت-دومنغ التي أعلنت استقلالها في 1804 لتصبح أول جمهورية سوداء في التأريخ. أما في فرنسا فقد ميّع تشريع إلغاء الرق، وأنهت قرارات سرية صدرت العام 1802 وجود الملونين في الجيش، ومنهم الجنرال توماس-الكسندر دوما. بذلك أصبحت تضحيات الملونين من أجل مبادئ الثورة الفرنسية في الأخاء والمساواة والحرية عبثاً بفضل نابليون.

مسح اسم الموسيقار والمحارب الفارس جوزف بولون دو سنت-جورج من صفحات التاريخ الذي يمجد نابليون ويعتبره من أعظم القادة العسكريين ورجال السياسة. وبعد أكثر من مئتي عام على وفاته، بدأ الفرنسيون في تقدير الدور البارز والهام الذي لعبه هذا الرجل الاستثنائي، السوبرمان الحقيقي، إذ نجد أخيراً شارعاً في باريس يحمل اسمه في لا مادلين.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بحث هذه المدونة الإلكترونية

صدر مؤخراً

بارتوك وتجميع الموسيقى الشعبية

الجذور كان الموسيقي المجري البارز بيلا بارتوك (1881 - 1945) من بين أوائل الباحثين الذين وضعوا أسس علم الموسيقى الشعبية (Ethnomusicology)، وك...