الخميس، 25 يناير 2024

مرة اخرى عن كتاب اصول الصابئة المندائيين ومعتقداتهم الدينية للباحث عزيز سباهي

بعد شهور قليلة من نفاذ طبعته الأولى، صدرت الطبعة الثانية من كتاب الباحث العراقي عزيز سباهي “اصول الصابئة المندائيين ومعتقداتهم الدينية” عن دار المدى. ولاقى الكتاب منذ الطبعة الاولى التي صدرت في العام 1996 ترحيباً واسعاً من القراء العرب، ومن المتخصصين في الموضوع، أبرزهم العالم الألماني الكبير كورت رودولف. وللبروفسور كورت رودولف عدد من الكتب والأبحاث حول الصابئة المندائيين، بينها ترجمات لبعض النصوص المندائية، مثل لفافة ديوان الأنهر (ديوان نهرواثا). ويُعتبر البروفسور رودولف أحد أهم المتخصصين في الدراسات المندائية اليوم بعد وفاة البروفسور ماتسوخ عالم الآراميات البارز في أوائل التسعينيات في ألمانيا. وتكمن قيمة الكتاب في الجهد العلمي الكبير الذي بذله المؤلف في البحث ودراسة العديد من المواضيع المتعلقة بمادة الكتاب، تراوحت بين تاريخ الشرق الأوسط في العهد الهليني (الهيلينستي)، والمعتقدات الدينية البابلية، وطوائف البحر الميت (بضمنهم الأسينيين وأصحاب مخطوطات قمران)، والغنوصية والمانوية. وكشف الكتاب أمام القارئ خفايا موضوع نادر عندما عرض المعلومات المتوفرة عن دويلة ميسان في جنوب العراق. ولم يعط الكاتب حلولاً جاهزة للقضايا التي طرحها نظراً لتعقد الموضوع، لكنه ترك القارئ ليفكر فيما يقرأ ويبني رأيه الخاص به، وهذا إنجاز يستحق الثناء.



والمندائيون طائفة دينية صغيرة تنتشر في جنوب العراق والأهواز بإيران، ويعرفون محلياً بالصبّة، أو الصابئة، وأسماهم ابن النديم صابئة البطائح (أهوار جنوب العراق) في فهرسته. وورد ذكر الصابئة ثلاث مرات في القرآن الكريم، وهم من أهل الكتاب. وهو دين قديم موحد تعود جذوره وطقوسه الى مايعرف بالثنائية البابلية، التي جوهرها التناقض بين الخير والشر، النور والظلام. والخالق يسمى عندهم مندا د-هيي (ويترجمها بعض رجال الدين بعارف الحياة أحياناً) الذي يسمى بأسماء اخرى مثل ملكا د-نهورا (ملك النور)، أو مار د-ربوثا (سيد العظمة). وكلمة هيي هي جمع لكلمة الحياة في الواقع، ولربما لذلك علاقة بأسطورة الخليقة عندهم، فهي تمت بأربع مراحل، إذ خلق كل من بثاهيل وأباثر ويوشامن (وهم من كبار الملائكة عندهم) الكواكب والأشياء وحتى الجسد البشري، لكنهم لم يتمكنوا من خلق الإنسان، بل أن الخالق الحقيقي، مندا د-هيي هو الذي خلق النفس (نشمثا وهي النسمة) وأسكنها الجسم البشري. وجاءت تسمية الطائفة بالمندائية، وتعني المعرفية، كناية عن إيمانهم بأن الخلاص يتم عبر معرفة الطريق المؤدي إلى الخالق. هذا الدين هو مزيج من معتقدات الشرق الأوسط القديم، من المعتقدات الفارسية القديمة شرقاً مروراً بالبابلية والسامية الغربية حتى المصرية غرباً. ولنأخذ أحد الأسماء التي مرت قبل قليل: بثاهيل الذي يرى فيه البعض اسم بتاح الاله المصري مع اللاحقة السامية إيل، وكذلك التقويم المندائي الشمسي الخاص المشابه للتقويم الفرعوني المصري (تتكون السنة من 12 شهراً بثلاثين يوم، مع 5 أيام كبيسة اضافية)، ولعل ذكر المندائيين في صلواتهم أرواح المصريين الذين غرقوا في البحر الأحمر وهم يتعقبون موسى واليهود هو الدليل الآخر الذي يسوقه البعض للبرهان على وجود العلاقة مع مصر. كما تلحظ الليدي درور – وهي من أهم علماء المندائيات - كثافة العناصر السامية الغربية (الكنعانية-الآرامية) في معتقداتهم، وتدخل تعابير الكروم (جفنا) والزيت (زيت الزيتون والسمسم) في نظام الرموز لديهم، كما هو الحال لدى حضارات الكنعانيين. وتشرح كتبهم كيف اضطروا الى مغادرة وادي نهر الأردن، حيث كانوا يعيشون، وهجرتهم الى وادي الرافدين بعد الاضطهاد الذي لاقوه على يد اليهود. ولربما حدثت هذه الهجرة قبل الميلاد أو بعده بقليل. ويسمي الصابئة الماء الجاري الذي يقدسوه يَردنا، وهو اسم نهر الاردن أيضاً الذي اشتق اسمه من هذه الكلمة الآرامية القديمة، وفي هذا دلالة على المكانة التي يحتلها نهر الاردن عندهم. ويتمتع يحيى بن زكريا (وعندهم يهي يهانا) بمرتبة رفيعة، وهو أحد معلمي الدين الكبار والرسول المبجل. وتعطي الكتب المندائية ليحيى صفات مقاربة لصفات السيد المسيح حسب المفاهيم الانجيلية، فولادته عجائبية، وقدراته خارقة ومن ثم قتله من قبل اليهود.

لكن هذا الدين تكون بشكله الحالي في جنوب العراق، بتأثير مباشر من الفكر البابلي وعلى ضفاف الفرات ودجلة. والنصوص المندائية تزخر بإشارات تفصيلية الى بيئة ضفاف الأنهار ومنطقة الأهوار في جنوب العراق. ونجد عناصر هذا الفكر واضحة في تقديسهم الماء الجاري والتعمد فيه، ولبسهم البياض وتحريم قص الشعر - تماماً كما كان البابليون يفعلون. ولغة المندائيين هي لهجة من اللهجات الآرامية، تلك التي كانت سائدة في جنوب العراق قبل الميلاد وبعده. كتبت النصوص المندائية المتنوعة بأبجدية قريبة من الأبجدية النبطية، وهي بشكل كتب ولفافات، وهناك نصوص مكتوبة على ألواح رصاصية ومسكوكة على النقود، بالإضافة إلى عدد كبير من الأدعية المكتوبة على أوانٍ فخارية.

ولعل من أهم محاسن هذا الكتاب الجاد - الى جانب كشفه الجذور المتنوعة التي غذت الدين المندائي - هو إغناء المكتبة العربية بمرجع هام يتناول تاريخ الشرق الأوسط القديم في مرحلة كاملة من مراحل تطوره، تلك التي تمتد بين اجتياح الاسكندر المقدوني والفتح العربي الاسلامي وتغطي نحو ألف عام من تاريخ المنطقة، وهي الفترة التي نعرف عنها أقل بكثير من الفترات الذهبية التي سبقتها أو تلتها. وكان تناول هذه الفترة ضرورياً لفهم الجذور والأسس الفكرية والدينية التي نبعت منها حركات دينية مثل المندائية والمانوية، ناهيك عن المسيحية.

وفي الكتاب تركيز على علاقة المانوية بالمندائيين. ومن المعروف أن أبا ماني، فاتق، كان أحد أعضاء جماعة معمدانية قد تكون جماعة المندائيين ذاتهم، وأن ماني نشأ وترعرع في هذه البيئة. ويعكس القاص اللبناني الأصل أمين معلوف في روايته “حدائق النور” عمق التأثير الذي مارسته هذه الطائفة على ماني مؤسس أحد أهم الأديان المعرفية التي انتشرت في الشرق بشكل واسع بين القرون الثالث والثالث عشر الميلاديين. ونعلم أن معلوف قاص وليس مؤرخ أو عالم، وانعكس ذلك في عدم دقة بعض الآراء الواردة في روايته، سواء تلك المتعلقة بماني ذاته، أو تلك التي خال نسبتها الى طائفة أسماها “أصحاب الملابس البيضاء” التي عاش ماني بين ظهرانيها لحين بلوغه الرابعة والعشرين. ويورد المؤلف سباهي في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه أنه اطلع على ترجمة لمخطوطة مانوية تعود الى القرن الرابع والخامس الميلادي، مما عزز لديه الاعتقاد بأن الطائفة التي نشأ فيها ماني انما هي طائفة مندائية أو قريبة من المندائيين.

وصلت المانوية الى الهند، وكان تأثيرها محسوساً في مصر، حيث وجدت مخطوطات مانوية هامة في نجع حمادي تعود الى طائفة الشيثيين. وقد اكتشف العالم شميت كتاب الأناشيد عام 1930، وهو كتاب يعود الى القرن الرابع الميلادي. وتسبق الأشعار الواردة فيه أقدم الأشعار القبطية المعروفة بنحو 600 سنة. لذلك عاملها العلماء باهتمام كبير لأنها تمثل حلقة الوصل بين الشعر المصري القديم والشعر القبطي اللاحق. لكن العلماء لاحظوا أوجهاً عديدة للشبه بين الشيثيين في مصر والمندائيين في وادي الرافدين. أولاً، اسم شيت الذي تسمت طائفة نجع حمادي به، وهو أصغر أبناء آدم (وهو أخ لقابيل وهابيل وحنوك حسب التوراة)، فشيث (شيتل) عند المندائيين هو أحد أبناء آدم ويبجلونه كثيراً، وهو اسم شائع لديهم. كما يعتقد العلماء بأن العديد من هذه النصوص هي ترجمة شبه حرفية لنصوص مندائية أقدم، نورد منها المثال التالي (ترجمنا النص القبطي من اللغة الانجليزية، والمندائي من اللغة المندائية) :


النص القبطي:

بِمَ اشبهكَ ياسيدي

اشبهكَ بالشمس التي تشرق، التي تأتي يوميا بأشعتها

وتجلب المسرة لكل المخلوقات .. لنغنِ.

بِمَ اشبهك يامحبوب

اشبهك بالفيضان العظيم الذي يجلب السعادة للعوالم

ويزود الحقول الجافة ]بالماء[ .. لنغنِ


النص المندائي (من كتاب كِنزا رَبّا):

بم اشبهكِ يا نفس1 ، اشبهكِ بما في هذا العالم

اشبهك بشمس النهار

أشبهك بالقمر (سيرّا) في الليل

اشبهك بريح الشمال 2، التي تهب 3 على العالم

اشبهك بأمواج المياه، التي تلاعبها ريح الشمال


1 النفس (النسمة أو نشمثا بالمندائية)، هي قطعة من عالم النور، كائن نوراني حبيس الجسد الأرضي الفاني والدنس بحسب اعتقادهم.

2 أيار هو الهواء أو الريح المنعشة. وأيار كلمة مستعارة من اللغة اليونانية، وريح الشمال مرغوبة في وادي الرافدين، فهي باردة جافة على العكس من الريح الجنوبية الرطبة الساخنة والتي تجلب الغبار (وتسمى بالعامية العراقية شرجي)

3 تهب عليه (الكلمة المستعملة هي مِتيايَربه، من أيار = هواء)

(من كتاب:

Säve-Söderberg, T.: Studies in the Coptic Manichaean Psalm-Book. Cambridge, 1949.)


وتعتبر نصوص الكتاب المندائي الرئيسي كنزا ربّا (الكنز العظيم) من أقدم النصوص المندائية المعروفة الى جانب المجموعة الشعائرية الشعرية المعروفة بـ “نياني” (الأغاني)، ولربما وضعت في القرون التي سبقت الميلاد قبل تجميعها وتدوينها في كتاب واحد خلال القرون اللاحقة (انتهت هذه العملية في أوائل فترة الحكم العربي). بالتالي ليس هناك شك في أنها كانت معروفة قبل نصوص نجع حمادي، وأن الأخيرة هي التي اقتبستها. ونلحظ في المثال السابق نقل المترجمين الأجواء المنعكسة عن البيئة الرافدينية إلى ما يلائم الطبيعة في وادي النيل، فاستبدلت ريح الشمال والأمواج التي تسببها في مساحات واسعة من الماء (كمياه الأهوار مثلا) بالفيضان العظيم، ففي مصر تعتمد الزراعة على الفيضان المنتظم لنهر النيل. أما في وادي الرافدين، ففيضان دجلة والفرات مدمر وغير منتظم الحدوث، وهو أبعد مما يمكن وصفه بالظاهرة المرغوبة.

ولا نجد أفضل من التأكيد على كلمات المؤلف عزيز سباهي في خاتمة مقدمة الطبعة الثانية: “لقد أقنعتني دراسة المصادر التي حصلت عليها مؤخراً بأن المسألة المندائية هي شائكة حقاً، كما يقول عنها أحد الباحثين، ومع ذلك فليس أمتع للباحث من أن يخوض غمار القضايا الشائكة، وقد يخطئ أو يصيب”. وقد لانخطئ إذا قلنا بأن الكتاب الذي نحن بصدده قد دلنا على طريق الصواب.


ثائر صالح

كانون الثاني 1998


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بحث هذه المدونة الإلكترونية

صدر مؤخراً

بارتوك وتجميع الموسيقى الشعبية

الجذور كان الموسيقي المجري البارز بيلا بارتوك (1881 - 1945) من بين أوائل الباحثين الذين وضعوا أسس علم الموسيقى الشعبية (Ethnomusicology)، وك...