السبت، 5 سبتمبر 2020

سقوط بابل.. بين الدين والتأريخ والموسيقى


  

من الأعمال الموسيقية التي تمتعت بالاستماع إليها في العام 2012 هو اوراتوريو بيلشاصر لجورج فريدريك هيندل. تستند قصة هذا الاوراتوريو البديع إلى كتاب دانيال من العهد القديم، كتب نصه باللغة الانكليزية صديق هيندل الثري تشارلز جنينس (1700-1773). وجنينس كاتب هاو وضع نص خمسة من أهم أعمال هيندل الدرامية، بينها المسيح وشاؤول وهذا الاوراتوريو الذي ألفه هيندل صيف سنة 1744. يتناول العمل قصة سقوط بابل والامبراطورية الكلدانية على يد كورش الفارسي سنة 539 ق.م.

وبيلشاصر هو القراءة العبرية لأسم الأمير بيل-شارا-اصر (ابن الملك نابونيدوس، بالأكدية نابو- نايد) كما ورد في كتاب دانيال (الاصحاح الخامس). يتحدث الاصحاح عن إقامة بيلشاصر الملك وليمة لعظمائه الألف، يأمر خلالها احضار آنية الهيكل التي غنمها أبوه نبوخذناصر ليشرب بها الملك وحاشيته، وبينما كانوا يشربون بهذه الآنية ظهرت أصابع يد انسان وكتبت على الحائط عبارة "منا منا تقيل وفرسين"، فلم يفهمها الملك وحاشيته، وفزع. نادى الملك على الكلدانيين والمنجمين والمجوس (السحرة)، فلم يتمكنوا من قراءتها أو تفسيرها. وجاءت الملكة الام فاقترحت على الملك أن ينادي على دانيال. دنيال تحدث عن أبيه نبوخذناصر وكيف تساوى قلبه بالحيوان وسكن مع الحمير الوحشية وأطعموه العشب كالثيران بعد الملكوت العظيم. وبعد موعظة عن تعظّم الملك على رب السماء لأنه أمر بإحضار آنيته ولم يمجده، ذكر له أن الرب أرسل من طرفه اليد التي سطرت الكتابة. كانت هذه الكلمات باللغة الآرامية (وهي مماثلة للغة الكلدانيين)، عبارة عن اسماء اوزان بابلية قديمة. منا هي المن، ويساوي 60 ثقلا (شيقل بالعبرية) وهو الرطل وزنه قرابة نصف كيلوغرام. والثقل (بالعبرية شيقل) وزنه 9 غرام تقريباً. أما فرسين فجاءت من كلمة فرس أو فرسو، وهو وزن قيمته نصف المن. والكتاب المقدس لا يترجمها، بل يشرح معناها. لهذا جاء تفسير دانيال على النحو التالي: عُدّت أيامك، ووُزنت بالميزان، فوُجدت ناقصة. وهنا تأتي التورية والاشارة إلى مصير بابل بشكل تقسيم الامبراطورية الأكدية قسمين بين ميديا وفارس (التي رمز إليها التقارب الصوتي مع فرس أو فرسو).

آنية بيت الرب التي أشار إليها دانيال هي آنية الهيكل التي غنمها نبوخذنصر (نابو-قدوري-أصر 605-562 ق.م.) عند احتلال اورشليم وتدمير الهيكل في 587 ق.م. في هذه الرواية التي روتها اليهود الكثير من التداخل التاريخي. فقد انتهت صياغة سفر دنيال في القرن الثاني قبل الميلاد حيث اخذ الشكل المعروف اليوم. ويرى الباحثون أن أصحاحاته قد كتبها أربعة كتاب مختلفين على الأقل، لذلك يحوي هذا السفر على الكثير من المتناقضات والأخطاء. فكورش (قورش، سيروس، كيروش، كسرى إلخ) الفارسي هو الذي تغلب على نابونايد، آخر ملوك الكلدانيين، وليس داريوس المادي (الميدي) على بيلشاصر ابنه كما ورد في الاصحاح الخامس. وهناك خلط بين نابوقدوري اصر ونابونايد، فالأخير هو الذي ترك بابل وذهب إلى المناطق البدوية (العربيا) في شمال شبه الجزيرة الواقعة عند واحة تيماء، وقضى هناك مايقرب من 10 أعوام قبل أن يعود إلى بابل (والحدث مصدر قصة حلم نابوقدوري اصر بالشجرة الهائلة وتفسير دانيال لهذا الحلم في الاصحاح الرابع).

ونابونايد هو ابن نابو- بالاستو – إقبي، حاكم حرّان، وكان نبيلاً من نبلاء الآشوريين. امه كانت أداد - گـوپّـي (أو گـوفّي) كاهنة معبد سين (القمر) في حرّان، وعاشت عمراً مديدا (أكثر من مائة عام) ويبدو أنها كانت محط احترام في ذلك الوقت. توفيت أداد - گـوپّـي في عام 547/546 ق.م. أي قبل سقوط بابل بخمس سنوات. وعنها ورث نابونايد عبادة سين (إله القمر) الذي رفعه لاحقاً إلى مصاف الاله الوحيد. خدم نابونايد في بلاط نابوقدوري اصر وتزوج من ابنته، ثم في بلاط نرگـال-شار-اصر (560-556 ق.م.) الذي كان صهر نابوقدوري اصرهو الآخر. اشتهر نابونايد آخر ملوك الكلدانيين بميله للتوحيد، ولربما كان أول ملوك الرافدين الموحدين. ألا أن سعيه هذا أثار طبقة الكهنة ضده، وقد تآمروا عليه وفرحوا لسقوط بابل واحتلالها من قبل كورش الكبير في تشرين الأول سنة 539. وخلال اعتكافه في واحة تيماء في البادية لسنوات، أوكل مهامه إلى ابنه الأمير بيل-شارا-اصر (بيلشاصر)، لكنه عاد إلى بابل لمواجهة خطر التقدم الفارسي نحو مملكته. اشتبك الكلدان مع جيوش كورش في معركة أوپـيس (في أيلول 539 ق.م.) التي حسمت الصراع بين الطرفين، فقد انتصر فيها كورش وبعدها احتل مدينة سپّـار، ومنها دخل الفرس بابل دون مقاومة وأسروا نابونايد. وأوپـيس هي أوفي أو أوفيا باللغة الأكدية، وهي مدينة تقع على الضفة اليسرى من دجلة قرب بغداد (ربما بالقرب من مصب نهر ديالى).

ونعلم الكثير من التفاصيل المذكورة من خلال اللوح الطيني مكتوب بالمسمارية باللغة البابلية الحديثة، يعرف باسم حوليات نابونايد. وتحفظ هذه اللقية في المتحف البريطاني، ومن المحتمل أن تكون قد كتبت في فترة حكم داريوس الأول، بعد سنوات أو حتى عقود من سقوط بابل. وتشير الوثيقة إلى غياب الملك نابونايد في تيماء وعدم حضوره في احتفالات أكيتو (رأس السنة البابلبة) عندما ترك بابل وعاش في العربيا لسنين. ومن المعروف أن هذا المهرجان يتم بوجود الملك، لأنه يقوم بدور رئيس في الطقوس الدينية. يرى بعض العلماء أن هذا النص كتبه كهنة بابليون على الأغلب من معبد مردوخ إله بابل الرئيسي، لذا لم يكونوا متعاطفين مع نابونايد الذي أعلى من شأن الاله سين على حساب إلههم مردوخ، لأن طقوس الأكيتو يمكن أن تقام بوجود من يحل محل الملك، وفي هذه الحالة، يمكن لابنه بيل-شارا-اصر الحلول محله. وتذكر الحوليات في السنة العاشرة بعد غياب الملك، أن الاحتفال بعيد الأكيتو قد أقيم، ويعني هذا أن الملك عاد وشارك في طقس العيد الذي يبدأ من 21 آذار ويستمر حتى الأول من نيسان حسب التقويم البابلي.

تناول قصة سفر دانيال هذه الكثير من الفنانين، وأشتهرت لوحة الهولندي رمبرانت "وليمة بيلشاصر" (1635)، وكانت موضوع الموسيقى التي ألفها الفنلندي جان سيبيليوس لمصاحبة مسرحية "وليمة بيلشاصر" (1906). أما اوراتوريو هيندل "بيلشاصر"، فهو من بين أفضل أعماله الدرامية، إن لم يكن أفضلها. وقد استعمل فيه تأثيرات وتقنيات لم تكن اعتيادية في ذلك العصر، سابقاً بذلك كريستوف فيليبالد غلوك في تجديده لفن الأوبرا بعد نحو عشرين سنة من هذا الاوراتوريو. بين التجديدات التي أدخلها هيندل توظيف الكورس في العمل بشكل فعال وجديد، فدوره أساسي بنفس أهمية دور الاوركسترا والمغنين المنفردين، وهو بذلك يتجاوز الدور التقليدي المعروف للكورس والذي يقتصر على التعليق على الأحداث. كما وظف المادة الموسيقية بشكل جديد ومرن. استعمل كذلك تقنية طورها فاغنر في أعماله الدرامية بعد قرن من الزمان، هي تقنية اللحن الدال أو الرئيسي (لايتموتيف)، وهذا يعني استعمال لحن أو جملة موسيقية للدلالة على شخصية ما أو موضوع معين يتكرر مع التحوير خلال العمل. ونعثر على هذا الشيء بالذات في هذه الدراما، حيث تصاحب الملكة الام ألحان تتكرر وتتحور على الدوام. واللافت أن النص تعامل مع الملكة الام بكل احترام، وأعتقد أن سبب ذلك الخلط بين بيلشاصر وأبيه نابونايد، وكما ذكرنا فإن ام نابونايد كانت كاهنة معبد الاله سين. أما زوجة نابونايد وام بيلشاصر فكانت ابنة نابوقدوري اصر (واسمها حسب المؤرخين الاغريق نيتوكريس). ويبدو لي أن الشخصية الرئيسية والمحورية في كل الاوراتوريو هي الملكة الأم.

يبدأ الاوراتوريو حسب النص الذي كتبه جنينس بمقدمة موسيقية رائعة ومؤثرة، تهيؤنا لتلقي الأجواء الغامقة لهذه الدراما شيكسبيرية الطابع. وتبدأ نيتوكريس ام الملك التي تتخوف من مصير المدينة في مونولج أشبه بتحليل سياسي لوضع بابل آنئذ، ثم تتحاور مع دانيال الذي يقول: "لا تنتحبي، فقد فعلت ما عليك، وأنا فعلت ما علي. ذنوب بابل هي التي سوف تقرر مصيرها". أما كورش فيتحاور مع غوبرياس (وهو نبيل آشوري قتل بيلشاصر الطاغية ابنه): "جفف دموعك وأسرع للانتقام العادل من قاتله، سأبدد مخاوفك القاتمة". في هذه الأثناء يقيم الملك الوليمة وينغمس في الملذات والخمر، حتى أن هيندل استعمل هنا أغاني تذكرنا بأغاني الحانات الانكليزية. تحاول ام الملك ثني ابنها عن عنجهيته وغيه وتحذره من أفعاله في ثنائية رائعة، لكنا تفشل في منعه استعمال آنية الهيكل. عندئذ تطل علينا اليد التي كتبت الكلمات الآرامية الشهيرة على الحائط. فيصاب الملك بالرعب ولتفسير الكلام يطلب حكماء بابل الذين يعجزون عن ذلك، فتقترح نيكوتريس أن يأتوا بدانيال الذي يرفض عطايا الملك، ويشرح له معنى العبارة: قربت نهاية مملكتك وسيصيرها الرب ليد اعدائك الفرس والميديين.

يدخل كورش القصر، ويقتل بيلشاصر. تلي هذا الحدث الرئيسي اغنيتان من أجمل مقاطع الاوراتوريو، الاولى اغنية حماسية قصيرة لكورش يعلن فيها عن عدائه للطغاة:

 

أيتها الحرب المدمرة، حدودك معروفة؛

هنا، بموت الطاغية، تنتهي مصائبك.

فأنا عدو الطغاة فقط،

وللخير وأصحابه أنا صديق.

أيتها الحرب المدمرة.

 

وبعدها تغني الملكة الام نيتوكريس ثنائياً مع كورش، هو بين أجمل ما كتب هيندل. اغنية رقيقة، تتناقض تماماً مع عنفوان وحماس الأغنية التي سبقتها:

 

نيتوكريس:

أيها المنتصر العظيم، أنحني عند أقدامك،

لم أعد ملكة، بل تابعاً لك!

أرأف بشعبي! اغفر لي مخاوفي،

أندب ابناً، كفّف دموعي،

الطبيعة التي لا تقاوَم تجعلها تفيض.

 

كورش:

انهضي، أيتها الملكة الطيبة، هدئي من روعك،

اتركي الخوف والحزن للريح.

شعبك في أمان، إن أراد؛

ستبقين ملكة، ستظلين اماً،

ستجدين في كورش لك ابنا.

 

ينتهي الاوراتوريو بفك أسر اليهود والسماح لهم بالعودة، وتمجيد الرب الذي أرسل كورش بعد أن عفي عن اليهود بفضل تقوى دانيال. وبرغم الموضوعة الدينية الصريحة لهذا الاوراتوريو، لا بد من القول إنه ليس عملاً دينياً، إذ ألفه هيندل للتقديم على قاعة المسرح خصيصاً وليس في الكنيسة، فهو عمل درامي ذو موضوع ديني وليس عملاً دينياً ذو موضوع درامي. وتؤكد هذا الاشارات السياسية الذكية التي ضمّنها جنينس في نص الاوراتوريو، مثل الآريا الاولى للملكة الام عن أمراض الدول والمجتمعات. وكان جنينس من مؤيدي عائلة ستيوارت المالكة التي انتهى حكمها بوفاة الملكة آن وتنصيب الملك جورج الأول، الذي كان من عائلة هامبورغ الألمانية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بحث هذه المدونة الإلكترونية

صدر مؤخراً

بارتوك وتجميع الموسيقى الشعبية

الجذور كان الموسيقي المجري البارز بيلا بارتوك (1881 - 1945) من بين أوائل الباحثين الذين وضعوا أسس علم الموسيقى الشعبية (Ethnomusicology)، وك...