الجمعة، 30 يوليو 2021

بغداد أمس


سوميخ، ساسون: بغداد أمس. ترجمة د. محمود عباسي.
دار المشرق، شفاعمرو 2011


مؤلف هذا الكتاب النادر والمفيد هو أحد أهم الباحثين في الأدب العربي الحديث، على الخصوص أدب الكتاب المصريين الكبار نجيب محفوظ ويوسف إدريس وغيرهم. ولد البروفيسور ساسون سوميخ في بغداد ودرس في مدرسة مدام عادل الاهلية ثم تخرج سنة 1950 من مدرسة شماش التابعة للطائفة اليهودية (الموسوية كما كانت تدعى آنئذ) قبل أن يهاجر إلى إسرائيل ربيع 1951. تعرفت على المؤلف خلال مؤتمر عالمي أقامه قسم اللغات العربية والسامية في جامعة بودابست للعلوم صيف العام 1995. وصلنا قاعة المؤتمر متأخرين، فجلسنا وكان البروفيسور ساسون سوميخ يقدم بحثاً عن الأدب العربي الحديث باللغة الانكليزية. لكننا انتبهنا إلى لكنته العراقية عندما قرأ نماذج شعرية. عندما ذهبنا لنتعرف عليه بادر إلى القول "تره آني هم عراقي من جماعتكم".


ساسون سوميخ (1933 – 2019)

شغل البروفيسور سوميخ كرسي الأدب العربي في جامعة تل أبيب لسنوات طويلة، حصل على الدكتوراه من جامعة اوكسفورد العام 1968 في اطروحة كتبها عن أدب نجيب محفوظ صدرت في 1973 عن دار بريل الهولندية الشهيرة. يعيش اليوم في رامات گان قرب تل أبيب وينشط في دعم اللغة العربية في اسرائيل وهو من الأعضاء المؤسسين لمجمع اللغة العربية (ومقره في حيفا)، كما تفرغ للتأليف والبحث فصدرت له مؤخراً في 2012 سبعة كتب هامة بينها كتاب "ملامح اسلوبية جديدة في الأدب العربي الحديث" (مجمع اللغة العربية، حيفا 2012)، كما نشط كذلك في ترجمة الأدب العربي إلى اللغة العبرية، ومن آخر ترجماته عدد من قصائد محمود درويش ستصدر قريباً في كتاب. تنادى مع عدد من المثقفين بينهم الكاتبان سامي ميخائيل وشمعون بلاص، البروفيسور يهودا شنهاب والعديد من الأكاديميين ورجال الأعمال المولودين في العراق لتشكيل جمعية الدفاع عن الشعب العراقي في اسرائيل سنة 1998 عندما عزّ الصديق، وتسابق العالم كله لمعاقبة الشعب العراقي بجريرة حاكمه. وجاء في البيان التأسيسي للجمعية "يرمي هذا التنظيم إلى إقامة الجسور الدائمة مع الأوساط العراقية المعارضة التي تعمل الآن في الغرب، وإلى التذكير بالتجربة الحياتية المشتركة التي كانت تجمع اليهود وغير اليهود في بلاد الرافدين حتى الهجرة الجماعية التي تمت في أوائل الخمسينيات". ومن مفارقات القدر رفض السلطات الاسرائيلية تسجيل الجمعية رسمياً بحجة الخوف من تحولها إلى وكر تجسس لحساب صدام!

اطلعت على كتاب مذكراته "بغداد أمس" قبل نحو عشر سنين بترجمته الانكليزية، وترجمت منه فصلاً نشر في صحيفة المؤتمر الصادرة في لندن آنئذ في أيار 2002، بعنوان مقهى بغداد - شارع الرشيد 1950 (ونشر الشاعر فوزي كريم نفس الفصل في مجلة اللحظة الشعرية سنة 2009). تحدث البروفيسور سوميخ فيه عن مدرسته شماش التي تقع في منطقة الميدان مقابل جامع الحيدرخانة بجوار مقهى حسن عجمي الأسطورية، وعن أساتذته فيها الشهيد حسين مروة (اغتيل في 1988) ومحمد شرارة (توفي في 1979) وعن لقائه بالجواهري الكبير وعلاقته ببدر شاكر السياب وانشغاله بالأدب والصحافة آنئذ.

أما الترجمة العربية الحالية فقد أنجزها صاحب مجلة الشرق الأدبية د. محمود عباسي، وهو من الكتاب العرب المعروفين في اسرائيل، من نفس جيل البروفيسور ساسون سوميخ، أو أصغر منه بسنتين أو ثلاث سنوات. صدرت هذه المذكرات عن دار المشرق في شفاعمرو العام 2011 مع ملحق بعدد من الصور التاريخية التي تصور حياة عائلة سوميخ. وكان المؤلف قد نشر فصولاً من كتابه هذا باللغة العبرية في الملحق الأدبي لصحيفة ها آرص بين 2000 - 2003. وصدرت الترجمة الإنكليزية في سنة 2007 عن دار نشر إيبيس، لندن. وتبع هذه المذكرات الجزء الثاني الذي يصف حياة هذا الشاب اليهودي العراقي في اسرائيل بعد هجرته اليها بعنوان "الحياة بعد بغداد".

لعل أهم ما في هذه المذكرات المثيرة - إلى جانب قيمتها الفنية الأدبية واسلوبها الساحر - هو قيمتها التوثيقية لحال بغداد في مرحلة نهاية الأربعينات. فيتحدث عن مجتمع متعدد الطوائف والأديان وعن العلاقات التي تسود بينها، ويفصّل في مساهمة اليهود في المجتمع العراقي آنئذ، وعلاقاته بأقرانه من التلاميذ، والفورة الأدبية لسنوات ما بعد الحرب، وظهور الأساليب الشعرية الجديدة. كما يتناول بشيء من التوسع وثبة كانون والضربات التي تلقاها الحزب الشيوعي وقادته بعد الوثبة، ويتحدث بالتفصيل عن خلفيات قرار غالبية اليهود تسقيط الجنسية والهجرة إلى اسرائيل بعد أن بدأوا يشعرون باستحالة مواصلة حياتهم السابقة.

يتكلم سوميخ عن علاقاته بالأدباء الشباب ولقاءاتهم في مقهى حسن عجمي القريب من المدرسة، ومحاولاته الصحفية والأدبية وترجماته من الإنكليزية التي كان ينشرها في صحف بغداد مثل صدى الأهالي (صحيفة الجادرجي) والنبأ والنديم (لصاحبها الصحفي والناشر محمد حسن الصوري، وقد تعرفت عليه عن طريق الأديب عبد الغني الخليلي عندما استضافنا في برلين سنة 1980). وعن أيامه الأخيرة في بغداد يحدثنا سوميخ عن لقائه الشاعرين رشيد ياسين وعبد الرزاق عبد الواحد، مع آخرين من الشعراء الشباب في مقهى حسن عجمي قبل هجرته لتوديعهما، ويقول انه عاهدهما بعدم نسيان الصداقة، "والقسم بالبقاء على وفائي للغة العربية. لقد أقسمت وأعتقد أنني وفيت بقسمي" (ص 143). كما زار صديقه الشاعر الدكتور أكرم الوتري الذي أفرد لقصة لقائهما الأخير فصلاً كاملاً في كتابه، دون أن ينسى ذكر ديوانه "الوتر الجاحد" الذي أخذه معه إلى إسرائيل ولا يزال يحتفظ به إلى اليوم.

يكتب سوميخ بإسهاب عن الحركة الشيوعية ومساهمة بعض اليهود فيها. ويذكر أن يوسف سلمان يوسف - فهد - قد ألقى القبض عليه مع ابراهيم ناجي ويعقوب سحّيق وهما يهوديان ثريان كانا يمتلكا مذخر أدوية جوري اخوان. وحكم ناجي بالإعدام لكن الحكم خفف إلى المؤبد، ولم يخرج من السجن إلا بعد ثورة تموز، التحق بعدها بزوجته أيلين درويش في اسرائيل.

ويسهب في الحديث عن ساسون دلال الذي قاد الحزب لفترة بعد اعدام فهد ورفاقه زكي بسيم وحسين الشبيبي ويهودا صدّيق، ويصف دلاّل بالقائد الشيوعي المقدام الجسور، ويعتبر ادعاء حنا بطاطو عن دلاّل أنه عمل بدوافع صهيونية ادعاءاً سخيفاً وشريراً للغاية (ص 104). ويقول إنه لم يعرف ساسون دلاّل، ألا أنه كان يعرف أخاه الأكبر عبّودي الذي درّس اللغة الانكليزية في مدرسة شماش لفترة وجيزة، وأخاه الأصغر فتحي وكان صديقه وزميله في الصف.

يُعرف عن الحزب الشيوعي العراقي أنه يضم كل أطياف الشعب العراقي، وكان لليهود حضورهم في قياداته كما هو الحال مع ساسون دلال ويهودا صدّيق وغيرهم. ومع حرب 1948 والنكبة وما تلا ذلك من تصاعد في النفس القومي وعلى الخصوص في سوريا ولبنان، بدأ تمثيل اليهود في قيادات الأحزاب الشيوعية العربية بالتقلص. وقد حدثني عمار بكداش أن أبوه القائد الشيوعي السوري خالد بكداش فرض على قادة المجموعات الشيوعية العراقية في لقاء عقدوه بدمشق لتوحيدها في الخمسينات، أن يُستبعد اليهود من قيادات الحزب العليا كلّياً.

ونجد معلومات مثيرة في أحد الفصول عنوانه عمبة هندية، وهو فصل درس فيه المؤلف التجارة التي أجراها التجار اليهود مع دول الشرق، وانتقال أعداد منهم إلى الهند ولاحقاً إلى اندونيسيا وسنغافورة وحتى إلى الصين، وتأسيسهم شركات ناجحة. ويحدثنا عن داود ساسون (1792 - 1864) الذي أثرى في الهند، وعن انتقال أبنائه إلى بريطانيا مبكراً، واندماجهم بالحياة السياسية والاقتصادية هناك ومنهم من أصبح عضواً في البرلمان البريطاني (مثلما أصبح أفراد عائلة ساعچي التي هاجرت إلى بريطانيا من العراق من أثرياء البلد، ومنهم البارون موريس ساچي عضو مجلس اللوردات). وما دمت ذكرت العمبة، أقول لا أزال أذكر طعم طرشي المنگا المحفوظ في براميل خشبية كنا نشتريه في أوائل ستينات القرن الماضي من بائع يهودي في بداية سوق حنّون عند شارع الكفاح (شارع غازي سابقاً، وهي منطقة سكنها اليهود قبل هجرتهم(.

في تقديري أن أهم شخصية تأثر بها سوميخ وتحدث عنها في كتابه هي استاذه محمد شرارة. فيذكر أن حبه للأدب العربي وتذوقه للأدب إنما ازدهرا بفضل هذا المربي اليساري البارز. ويذكر سوميخ هذا المربي والأديب والصحفي الكبير في مواقع عديدة، كما كتب مبكراً كتابات جميلة عنه وعن زميله مروة في مجلة الكرمل الحيفاوية التي رأسها الأديب والمناضل أميل حبيبي (1922 -1996).

وما أثار انتباهي في الكثير من الأحداث والذكريات التي رواها سوميخ هو العلاقات الجميلة والمتسامحة بين المثقفين في ذلك الوقت. فكان الكبار يصغون للأصوات الشابة الواعدة ويحيطونها بالرعاية ويقدمون المساعدة لها سواء بتقديم النصح أو البحث عن منفذ لنشر نتاجات المبدعين الشباب.

يحدثنا سوميخ في الفصل السابع "اللغات" عن اللهجة البغدادية القديمة. ويذكر أن لهجة يهود بغداد هي الأقرب إلى اللهجة البغدادية الأصلية التي حافظ اليهود عليها بسبب مجتمعهم المنغلق، بينما تأثر جيرانهم من المسلمين بتغلغل اللهجات البدوية (ص 46 (. والحق يقال أن هجرة القبائل البدوية مثل شمر وعنزة في القرن السابع عشر وبداية الثامن عشر وسيطرتها على مناطق واسعة من المناطق المتاخمة للفرات ودجلة قد غير من التركيبة السكانية للعراق (انظر لونغريك أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث). وبينما احتفظت الموصل بلهجتها القديمة، تغيرت لهجة بغداد. وهذه اللهجة القديمة - شأنها شأن لهجة الموصل - كانت زاخرة بالكلمات والتعابير الآرامية وببقايا قواعد هذه اللغة. وهذا أمر ليس بغريب في عالم الألسنيات. ويكفي أن أضرب مثلاً عن تحول طريقة قراءة الصابئة للنصوص المندائية والحديث بها - وهي من أنقى اللغات الآرامية - إلى لهجة تماشي اللهجة البدوية التي بدأت تسود منذ قرنين في العراق، وإلى لهجة فارسية الصوت عند صابئة الأهواز في إيران.

يعزو سوميخ سبب إسقاطه الجنسية العراقية إلى رغبته في مواصلة دراسته في الجامعة، وهو أمر أشبه بالمستحيل في بغداد وقتئذ بالنسبة لتلميذ يهودي مثله. إذ يقول إنه لم يقرر الذهاب إلى إسرائيل لأسباب دينية أو سياسية، فلم يكن متديناً وما كانت السياسة تستهويه - كان بعيداً كل البعد عن الصهيونية، لكنه تعاطف مع اليسار-، بل رغبته في الذهاب إلى الجامعة. ولم يتحقق له حلمه إلا بعد سنوات طويلة وصعبة.

(صدرت في مجلة تاتو عدد شباط 2013)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بحث هذه المدونة الإلكترونية

صدر مؤخراً

بارتوك وتجميع الموسيقى الشعبية

الجذور كان الموسيقي المجري البارز بيلا بارتوك (1881 - 1945) من بين أوائل الباحثين الذين وضعوا أسس علم الموسيقى الشعبية (Ethnomusicology)، وك...