السبت، 31 يوليو 2021

الاذن المطلقة

 

الاذن المطلقة 

 


يمتلك عدد قليل من الناس القدرة على تمييز طبقة أو درجة الصوت دون الحاجة إلى معرفة الطبقة (الدرجة) القياسية. بعبارة أخرى سيتعرف الشخص على النغمة فوراً دون أن يحتاج إلى مقارنتها بصوت قياسي (وهو عادة نغمة لا وقيمتها الترددية 440 هرتس). تسمى هذه الظاهرة الاذن المطلقة أو السمع المطلق، وهي ترجمة للمصطلح الأوروبي الذي يقابلها. لا يشترط أن يمتلك الموسيقيون هذه الصفة بالطبع، فالظاهرة الأخرى المسماة الاذن النسبية أو السمع النسبي، هي الشائعة بين الموسيقيين، وهي تأتي عبر تدريب قدرات الاذن على التمييز بين الأصوات. ويعتبر ودرس الصولفيج الشهير في المعاهد الموسيقية أحد أهم هذه التدريبات، يكمن جوهره في تعليم القراءة الشفاهية للنوطة وقراءة الأصوات. التدريب المهم الآخر هو درس السماع الموسيقي والغناء في كورس مع الآخرين.

لكن ما السر الكامن وراء هذه الظاهرة النادرة؟ لا يوجد تفسير دقيق لها، ويعتقد بعض الباحثين بالأسباب الوراثية، ويعتقد آخرون بأن الجميع يولدون بهذه القابلية وما علينا سوى الحفاظ عليها من الضياع وتنميتها بالتدريب. لكن الخبرة تقول بأن نسبة من يتمتع بها بين الأطفال الذين يتلقون تدريباً موسيقياً قبل الرابعة (أو السادسة) من العمر هي أعلى بكثير من أقرانهم على العموم. وتدل أبحاث الدماغ أن الأمواج التي تنبعث من منه تشير إلى نشاط أقل في عملية استخراج المعلومات المخزونة ومقارنتها بالمعلومات الجديدة، فمن يتمتع بالسمع المطلق يستعمل خزين الذاكرة بدرجة أقل.

هناك مجموعة خاصة هم من يستطيع تحديد الصوت القياسي (لا) في ذهنه بدقة، ويحدد باقي الأصوات بمقارنتها مع هذه الدرجة. لهذا السبب أدخل الباحثون مفهوم سرعة التعرف على الصوت عند بحث السمع المطلق للتمييز بين هذه المجموعتين. هذا الفارق يقودنا إلى الحديث عن أنواع السمع المطلق: فهناك من يستطيع تمييز درجة الأصوات بغض النظر عن طبيعتها موسيقية أو صوت محرك السيارة أو ارتطام جسم بالأرض. وهناك من يستطيع تمييز الأصوات التي تصدرها الأداة الموسيقية التي يعزف عليها بسهولة، بينهما يصعب عليه تمييز أصوات أداة موسيقية أخرى. على العموم، التعرف على سلم دو الكبير بالنسبة لمن تربى على الموسيقى الغربية أسهل بسبب التمرين المستمر، هذا يعني معرفة أصوات المفاتيح البيضاء في البيانو، بينما يصبح التعرف على أصوت المفاتيح السوداء أصعب.

نعرف من تاريخ الموسيقى بعدد كبير من المؤلفين المشهورين الذين تمتعوا بهذه القدرة الفائقة، قد يكون موتسارت أحدهم، فقد علق ذات مرة أن كمان عائلة أصدقاءه لا يزال منصوبا بربع صوت أقل مثلما كان عند الزيارة السابقة. أما بيلا بارتوك فكان قادراً على تسمية نغمات البيانو وهو في الغرفة الثانية، وكان قادراً على تمييز كوردات (مركبات صوتية) بسيطة بالسماع. وقد ساعدت هذه القدرة الفائقة بارتوك كثيراً في تجميعه للموسيقى والأغاني الشعبية. من ناحية ثانية كان بارتوك حساساً تجاه للغاية ما يصدر من أصوات في محيطه. فحتى صوت راديو الجيران الذي تسرب خافتاً عبر السقف كان يزعجه، لذلك "ابتكر" وسيلة أسماها ماكنة الضجيج تصدر أصواتا دونما درجة معينة ومحددة كي يطمس الأصوات القادمة من الطابق الأعلى. ونعرف أن الحساسية المفرطة تجاه الصوت قد تكون واحدة من علامات أمراض التوحد، وهناك إشارات إلى احتمال مرض بارتوك بدرجة ما من طيف مرض التوحد.

تشير الأبحاث الى ارتباط اللغة والسمع المطلق بالجانب الأيسر من الدماغ، هذا يأخذنا إلى تأثيرات طبيعة اللغة الأم على القدرات الموسيقية للطفل. أبرز من بحث هذه الظاهرة العالمة الإنكليزية - الأمريكية ديانا دويتش (1938، جامعة كاليفورنيا - سان دييغو). أثبتت دويتش العلاقة بين نوع اللغة والاذن المطلقة عند مقارنة المتحدثين باللغة الإنكليزية والمتحدثين باللغات المتميزة باستعمال التلحين، مثل لغة الماندرين الصينية أو اللغة الفيتنامية حيث تبلغ نسبة من يتمتع بالسمع المطلق أعلى بكثير من أقرانهم الأمريكان. فقد أجرت دراسة على طلبة روتشستر إيستمان للموسيقى في نيويورك وطلبة الكونسرفاتوار المركزي في بكين، وتبين أن من يمتلك هذه القدرة بين من بدأ دراسة الموسيقى بعمر 3 - 4 سنوات في نيويورك كان 14% مقابل 60% من الصينيين. لكن عند مقارنة من بدأ دراسة الموسيقى في أعمار 6 – 7 سنوات كانت هذه النسبة 6% مقابل 55%. واستمر البحث بدراسة من بدأ تعلم الموسيقى متأخراً عن هذه الأعمار فوجدوا نسبة تقرب من الصفر مقابل 42% بين الصينيين. 

ويقول المتخصصون في فيلولوجيا اللغات الشرقية بوجود أربعة أنماط من الانسيابية الصوتية أو التوكيد في لغة الماندرين واستعمالها المختلف يعطي معانٍ مختلفة عند استعمال نفس المقطع. وتزداد هذه الأنماط عند النزول صوب الجنوب، فيصبح العدد 8 أو 9 في اللغة الكانتونية، و9 – 10 في اللغة الفيتنامية. وأذكر أنني حاولت مرة أن أنطق كلمة مثلما كان ينطقها زميل فيتنامي، لكني توقفت عن المحاولة بعد دقائق لأنني عجزت عن قولها بشكل صحيح رغم تكراري نطقها بعده، إذ لم أتمكن من سماع الفارق في اللحن.

ارتباطاً بالحديث عن اللغة والموسيقى، نعرف أن موريس رافيل قد أصيب بمرض عصبي أثر على قدرته في التعبير اللغوي – الكتابي ولاحقاً الموسيقي، وهي الفترة التي ألف فيها عمله الغريب بوليرو، عندما فشل النصف الأيسر من الدماغ تحويل الأفكار الموسيقية المتولدة في النصف الأيمن إلى إشارات موسيقية، مثلما تعذر عليه كتابة أفكاره على الورق.

المثال المعاكس هو فقدان السمع، ففي حالة بيتهوفن ساعد السمع المطلق ونشاط الدماغ الموسيقي على استمراره بتأليف روائع الأعمال الموسيقية حتى بعد اقترابه من الصمم الكامل، رغم اننا لا نستطيع الجزم بامتلاك موتسارت أو بيتهوفن ملكة السمع المطلق بسبب حداثة العلم الذي يدرس هذه الظاهرة. إذ لم يبدأ الاهتمام بها إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأعطى التطور العلمي التقني في القرن العشرين دفعة لهذا البحث، خاصة مع ظهور تقنية الرنين المغناطيسي عند مراقبة نشاط الدماغ عند التعرض لمختلف المؤثرات.

الدفعة الحقيقية للبحث في التفكير والموسيقى جاءت بعد تطور تقنيات فحص الدماغ مثل التصوير بالرنين المغناطيسي والتوموغرافيا الكومبيوترية وتوموغرافيا الانبعاث البوزيتروني (MRI - CT - PET) التي تصور المخ أثناء عملية النشاط الدماغي. يرى العلماء إن تعامل الدماغ مع الموسيقى هو عملية غاية في التعقيد، وقد تكون أعقد عملية يقوم بها الدماغ استناداً إلى اشتراك أجزاء متعددة منه فيها لا علاقة لها ظاهرياً بالسمع. وهنا وجد العلماء اختلافات كبيرة في نشاط المخ بين السماع المطلق والنسبي، لكن تفسير ذلك وفهمه لا يزال بعيداً عن المنال. مثلاً يبلغ حجم المنطقة القشرية المرتبطة باللغة والموسيقى (Planum Temporale) في النصف الأيسر من المخ أضعاف حجمها في النصف الأيمن، لكن الاختلاف بين الاثنتين أكبر بكثير عند أصحاب السمع المطلق.

ويعرف العلم نسبة أعلى من أصحاب الأذن المطلقة بين من يعاني من أمراض معينة، مثل فقدان حاسة أخرى كالبصر، كذلك ترتفع نسبتهم في حالة بعض الأنواع من التوحد كما ذكرت في مثال بيلا بارتوك. وتؤثر الأمراض الاعتيادية مثل الزكام أو الانفلونزا على إداء أصحاب الأذن المطلقة، كأن يتصور السلم الموسيقي عندهم على نصف درجة مثلاً، وهو أمر مربك لهم لحين شفائهم وعودة الإدراك الى مستوياته السابقة.

من جانب آخر قد ينزعج أصحاب الاذن المطلقة عند سماع ما يسمى الإداء التاريخي لعصر الكلاسيك أو الباروك، عندما تدوزن الأدوات بتردد أوطأ، مثلا بنصف درجة (أي 432 هرتس بدلا من440 هرتس المعتادة). عندها تقع السلالم الموسيقي التي اعتادوا عليها في مكان آخر. ويصف بعض عازفي البيانو حالة الارتباك عندما يجلسون عند بيانو تغيرت درجته أو نصب على درجة مختلفة فلا يتطابق الصوت الذي يسمعونه مع المفتاح الذي يضربون عليه. ويروى عن الموسيقار المجري أرنو (أرنست فون) دوهناني (1877 – 1960) قدرته على تصوير أي عمل في ذهنه على درجة أخرى وإدائه على البيانو مع الأوركسترا دون صعوبة حتى مع تغير موقع الأصابع وترتيبها بسبب اختلاف النغمات البيضاء والسوداء، وهذا إنجاز ذهني هائل. وقد يختلف مستوى هذه القدرة كذلك مع تقدم العمر، ويقال إن عازف البيانو الشهير سفياتوسلاف ريختر عاد إلى استعمال المدونة الموسيقية في أواخر عمره بعد أن كان يؤدي من الذاكرة بسبب تغير موقع الطبقات الموسيقية في ذهنه.

ختاماً أشير إلى أن هذه الملكة موجودة في كل الأنظمة الموسيقية. وقد ذكر لي الصديق جميل جوزي الكوران أحد مخضرمي فرقة الانشاد العراقية الشهيرة عن امتلاك الفنان الراحل روحي الخماش هذه القابلية الفريدة. هذا يعني معرفة كل الأبعاد العربية المرهفة المبنية على أساس السلم الموسيقي الطبيعي وأجناس المقامات التي ابتكر أصلها الموسيقيون السومريون وحفظها لنا الموسيقيون البابليون ومن تلاهم حتى اليوم.


 صدرت في صحيفة المدى بثلاث حلقات بين 20 حزيران و 4 تموز 2021

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بحث هذه المدونة الإلكترونية

صدر مؤخراً

بارتوك وتجميع الموسيقى الشعبية

الجذور كان الموسيقي المجري البارز بيلا بارتوك (1881 - 1945) من بين أوائل الباحثين الذين وضعوا أسس علم الموسيقى الشعبية (Ethnomusicology)، وك...