الخميس، 25 يناير 2024

مرة اخرى عن كتاب اصول الصابئة المندائيين ومعتقداتهم الدينية للباحث عزيز سباهي

بعد شهور قليلة من نفاذ طبعته الأولى، صدرت الطبعة الثانية من كتاب الباحث العراقي عزيز سباهي “اصول الصابئة المندائيين ومعتقداتهم الدينية” عن دار المدى. ولاقى الكتاب منذ الطبعة الاولى التي صدرت في العام 1996 ترحيباً واسعاً من القراء العرب، ومن المتخصصين في الموضوع، أبرزهم العالم الألماني الكبير كورت رودولف. وللبروفسور كورت رودولف عدد من الكتب والأبحاث حول الصابئة المندائيين، بينها ترجمات لبعض النصوص المندائية، مثل لفافة ديوان الأنهر (ديوان نهرواثا). ويُعتبر البروفسور رودولف أحد أهم المتخصصين في الدراسات المندائية اليوم بعد وفاة البروفسور ماتسوخ عالم الآراميات البارز في أوائل التسعينيات في ألمانيا. وتكمن قيمة الكتاب في الجهد العلمي الكبير الذي بذله المؤلف في البحث ودراسة العديد من المواضيع المتعلقة بمادة الكتاب، تراوحت بين تاريخ الشرق الأوسط في العهد الهليني (الهيلينستي)، والمعتقدات الدينية البابلية، وطوائف البحر الميت (بضمنهم الأسينيين وأصحاب مخطوطات قمران)، والغنوصية والمانوية. وكشف الكتاب أمام القارئ خفايا موضوع نادر عندما عرض المعلومات المتوفرة عن دويلة ميسان في جنوب العراق. ولم يعط الكاتب حلولاً جاهزة للقضايا التي طرحها نظراً لتعقد الموضوع، لكنه ترك القارئ ليفكر فيما يقرأ ويبني رأيه الخاص به، وهذا إنجاز يستحق الثناء.



والمندائيون طائفة دينية صغيرة تنتشر في جنوب العراق والأهواز بإيران، ويعرفون محلياً بالصبّة، أو الصابئة، وأسماهم ابن النديم صابئة البطائح (أهوار جنوب العراق) في فهرسته. وورد ذكر الصابئة ثلاث مرات في القرآن الكريم، وهم من أهل الكتاب. وهو دين قديم موحد تعود جذوره وطقوسه الى مايعرف بالثنائية البابلية، التي جوهرها التناقض بين الخير والشر، النور والظلام. والخالق يسمى عندهم مندا د-هيي (ويترجمها بعض رجال الدين بعارف الحياة أحياناً) الذي يسمى بأسماء اخرى مثل ملكا د-نهورا (ملك النور)، أو مار د-ربوثا (سيد العظمة). وكلمة هيي هي جمع لكلمة الحياة في الواقع، ولربما لذلك علاقة بأسطورة الخليقة عندهم، فهي تمت بأربع مراحل، إذ خلق كل من بثاهيل وأباثر ويوشامن (وهم من كبار الملائكة عندهم) الكواكب والأشياء وحتى الجسد البشري، لكنهم لم يتمكنوا من خلق الإنسان، بل أن الخالق الحقيقي، مندا د-هيي هو الذي خلق النفس (نشمثا وهي النسمة) وأسكنها الجسم البشري. وجاءت تسمية الطائفة بالمندائية، وتعني المعرفية، كناية عن إيمانهم بأن الخلاص يتم عبر معرفة الطريق المؤدي إلى الخالق. هذا الدين هو مزيج من معتقدات الشرق الأوسط القديم، من المعتقدات الفارسية القديمة شرقاً مروراً بالبابلية والسامية الغربية حتى المصرية غرباً. ولنأخذ أحد الأسماء التي مرت قبل قليل: بثاهيل الذي يرى فيه البعض اسم بتاح الاله المصري مع اللاحقة السامية إيل، وكذلك التقويم المندائي الشمسي الخاص المشابه للتقويم الفرعوني المصري (تتكون السنة من 12 شهراً بثلاثين يوم، مع 5 أيام كبيسة اضافية)، ولعل ذكر المندائيين في صلواتهم أرواح المصريين الذين غرقوا في البحر الأحمر وهم يتعقبون موسى واليهود هو الدليل الآخر الذي يسوقه البعض للبرهان على وجود العلاقة مع مصر. كما تلحظ الليدي درور – وهي من أهم علماء المندائيات - كثافة العناصر السامية الغربية (الكنعانية-الآرامية) في معتقداتهم، وتدخل تعابير الكروم (جفنا) والزيت (زيت الزيتون والسمسم) في نظام الرموز لديهم، كما هو الحال لدى حضارات الكنعانيين. وتشرح كتبهم كيف اضطروا الى مغادرة وادي نهر الأردن، حيث كانوا يعيشون، وهجرتهم الى وادي الرافدين بعد الاضطهاد الذي لاقوه على يد اليهود. ولربما حدثت هذه الهجرة قبل الميلاد أو بعده بقليل. ويسمي الصابئة الماء الجاري الذي يقدسوه يَردنا، وهو اسم نهر الاردن أيضاً الذي اشتق اسمه من هذه الكلمة الآرامية القديمة، وفي هذا دلالة على المكانة التي يحتلها نهر الاردن عندهم. ويتمتع يحيى بن زكريا (وعندهم يهي يهانا) بمرتبة رفيعة، وهو أحد معلمي الدين الكبار والرسول المبجل. وتعطي الكتب المندائية ليحيى صفات مقاربة لصفات السيد المسيح حسب المفاهيم الانجيلية، فولادته عجائبية، وقدراته خارقة ومن ثم قتله من قبل اليهود.

لكن هذا الدين تكون بشكله الحالي في جنوب العراق، بتأثير مباشر من الفكر البابلي وعلى ضفاف الفرات ودجلة. والنصوص المندائية تزخر بإشارات تفصيلية الى بيئة ضفاف الأنهار ومنطقة الأهوار في جنوب العراق. ونجد عناصر هذا الفكر واضحة في تقديسهم الماء الجاري والتعمد فيه، ولبسهم البياض وتحريم قص الشعر - تماماً كما كان البابليون يفعلون. ولغة المندائيين هي لهجة من اللهجات الآرامية، تلك التي كانت سائدة في جنوب العراق قبل الميلاد وبعده. كتبت النصوص المندائية المتنوعة بأبجدية قريبة من الأبجدية النبطية، وهي بشكل كتب ولفافات، وهناك نصوص مكتوبة على ألواح رصاصية ومسكوكة على النقود، بالإضافة إلى عدد كبير من الأدعية المكتوبة على أوانٍ فخارية.

ولعل من أهم محاسن هذا الكتاب الجاد - الى جانب كشفه الجذور المتنوعة التي غذت الدين المندائي - هو إغناء المكتبة العربية بمرجع هام يتناول تاريخ الشرق الأوسط القديم في مرحلة كاملة من مراحل تطوره، تلك التي تمتد بين اجتياح الاسكندر المقدوني والفتح العربي الاسلامي وتغطي نحو ألف عام من تاريخ المنطقة، وهي الفترة التي نعرف عنها أقل بكثير من الفترات الذهبية التي سبقتها أو تلتها. وكان تناول هذه الفترة ضرورياً لفهم الجذور والأسس الفكرية والدينية التي نبعت منها حركات دينية مثل المندائية والمانوية، ناهيك عن المسيحية.

وفي الكتاب تركيز على علاقة المانوية بالمندائيين. ومن المعروف أن أبا ماني، فاتق، كان أحد أعضاء جماعة معمدانية قد تكون جماعة المندائيين ذاتهم، وأن ماني نشأ وترعرع في هذه البيئة. ويعكس القاص اللبناني الأصل أمين معلوف في روايته “حدائق النور” عمق التأثير الذي مارسته هذه الطائفة على ماني مؤسس أحد أهم الأديان المعرفية التي انتشرت في الشرق بشكل واسع بين القرون الثالث والثالث عشر الميلاديين. ونعلم أن معلوف قاص وليس مؤرخ أو عالم، وانعكس ذلك في عدم دقة بعض الآراء الواردة في روايته، سواء تلك المتعلقة بماني ذاته، أو تلك التي خال نسبتها الى طائفة أسماها “أصحاب الملابس البيضاء” التي عاش ماني بين ظهرانيها لحين بلوغه الرابعة والعشرين. ويورد المؤلف سباهي في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه أنه اطلع على ترجمة لمخطوطة مانوية تعود الى القرن الرابع والخامس الميلادي، مما عزز لديه الاعتقاد بأن الطائفة التي نشأ فيها ماني انما هي طائفة مندائية أو قريبة من المندائيين.

وصلت المانوية الى الهند، وكان تأثيرها محسوساً في مصر، حيث وجدت مخطوطات مانوية هامة في نجع حمادي تعود الى طائفة الشيثيين. وقد اكتشف العالم شميت كتاب الأناشيد عام 1930، وهو كتاب يعود الى القرن الرابع الميلادي. وتسبق الأشعار الواردة فيه أقدم الأشعار القبطية المعروفة بنحو 600 سنة. لذلك عاملها العلماء باهتمام كبير لأنها تمثل حلقة الوصل بين الشعر المصري القديم والشعر القبطي اللاحق. لكن العلماء لاحظوا أوجهاً عديدة للشبه بين الشيثيين في مصر والمندائيين في وادي الرافدين. أولاً، اسم شيت الذي تسمت طائفة نجع حمادي به، وهو أصغر أبناء آدم (وهو أخ لقابيل وهابيل وحنوك حسب التوراة)، فشيث (شيتل) عند المندائيين هو أحد أبناء آدم ويبجلونه كثيراً، وهو اسم شائع لديهم. كما يعتقد العلماء بأن العديد من هذه النصوص هي ترجمة شبه حرفية لنصوص مندائية أقدم، نورد منها المثال التالي (ترجمنا النص القبطي من اللغة الانجليزية، والمندائي من اللغة المندائية) :


النص القبطي:

بِمَ اشبهكَ ياسيدي

اشبهكَ بالشمس التي تشرق، التي تأتي يوميا بأشعتها

وتجلب المسرة لكل المخلوقات .. لنغنِ.

بِمَ اشبهك يامحبوب

اشبهك بالفيضان العظيم الذي يجلب السعادة للعوالم

ويزود الحقول الجافة ]بالماء[ .. لنغنِ


النص المندائي (من كتاب كِنزا رَبّا):

بم اشبهكِ يا نفس1 ، اشبهكِ بما في هذا العالم

اشبهك بشمس النهار

أشبهك بالقمر (سيرّا) في الليل

اشبهك بريح الشمال 2، التي تهب 3 على العالم

اشبهك بأمواج المياه، التي تلاعبها ريح الشمال


1 النفس (النسمة أو نشمثا بالمندائية)، هي قطعة من عالم النور، كائن نوراني حبيس الجسد الأرضي الفاني والدنس بحسب اعتقادهم.

2 أيار هو الهواء أو الريح المنعشة. وأيار كلمة مستعارة من اللغة اليونانية، وريح الشمال مرغوبة في وادي الرافدين، فهي باردة جافة على العكس من الريح الجنوبية الرطبة الساخنة والتي تجلب الغبار (وتسمى بالعامية العراقية شرجي)

3 تهب عليه (الكلمة المستعملة هي مِتيايَربه، من أيار = هواء)

(من كتاب:

Säve-Söderberg, T.: Studies in the Coptic Manichaean Psalm-Book. Cambridge, 1949.)


وتعتبر نصوص الكتاب المندائي الرئيسي كنزا ربّا (الكنز العظيم) من أقدم النصوص المندائية المعروفة الى جانب المجموعة الشعائرية الشعرية المعروفة بـ “نياني” (الأغاني)، ولربما وضعت في القرون التي سبقت الميلاد قبل تجميعها وتدوينها في كتاب واحد خلال القرون اللاحقة (انتهت هذه العملية في أوائل فترة الحكم العربي). بالتالي ليس هناك شك في أنها كانت معروفة قبل نصوص نجع حمادي، وأن الأخيرة هي التي اقتبستها. ونلحظ في المثال السابق نقل المترجمين الأجواء المنعكسة عن البيئة الرافدينية إلى ما يلائم الطبيعة في وادي النيل، فاستبدلت ريح الشمال والأمواج التي تسببها في مساحات واسعة من الماء (كمياه الأهوار مثلا) بالفيضان العظيم، ففي مصر تعتمد الزراعة على الفيضان المنتظم لنهر النيل. أما في وادي الرافدين، ففيضان دجلة والفرات مدمر وغير منتظم الحدوث، وهو أبعد مما يمكن وصفه بالظاهرة المرغوبة.

ولا نجد أفضل من التأكيد على كلمات المؤلف عزيز سباهي في خاتمة مقدمة الطبعة الثانية: “لقد أقنعتني دراسة المصادر التي حصلت عليها مؤخراً بأن المسألة المندائية هي شائكة حقاً، كما يقول عنها أحد الباحثين، ومع ذلك فليس أمتع للباحث من أن يخوض غمار القضايا الشائكة، وقد يخطئ أو يصيب”. وقد لانخطئ إذا قلنا بأن الكتاب الذي نحن بصدده قد دلنا على طريق الصواب.


ثائر صالح

كانون الثاني 1998


الخميس، 4 يناير 2024

ليدي درور: أهوار العراق


توفيت الباحثة والمستشرقة البريطانية ليدي درور في شباط 1972 عن عمر قضته في البحث والتأليف وترجمة النصوص المندائية المختلفة الى اللغة الإنكليزية. بدأت درور حياتها ككاتبة روائية نشرت باسم أثل سسل ستيفنس، ومنذ زواجها من سير أدوين درور في العام 1910 حملت اسمه، ثم بدأت بالنشر بأسم ليدي درور بعد حصوله على هذا اللقب. وقد عمل سير درور مستشاراً في وزارة العدل العراقية في الفترة بين 1922-1946، ورافقته زوجته هناك حيث تعرفت الى هذا البلد وشعبه العريق. وأثار اهتمامها التنوع الاثني والديني، فتوجهت لدراسة الأقليات الدينية مثل الأيزيدية في كردستان العراق، وتخصصت ببحث دين الصابئة المندائيين. وكانت أول باحث غربي يجري مسحاً ميدانياً لحياة وتقاليد وطقوس هذه الطائفة حيث يعيش أفرادها. فقد كتب علماء الساميات الكبار عن المندائية استناداً الى مؤلفات المندائيين وهم في مكاتبهم في برلين أو لندن، مثل العلامة نولدكه والمستشرق العبقري ليدزبارسكي. بذلك عنيت درور بالفولكلور الحي لهذه الجماعات، ومن هنا جاء اهتمامها بتقاليد الأحراز والتنجيم المندائيين الذين يعود أصلهما إلى الجذور الكلدانية والبابلية مباشرة. كذلك اهتمت بالحياة الاجتماعية للجماعة، وبشكل خاص بدور المرأة الاجتماعي. وهذان الأمران انعكسا في محاضرتها عن حياة سكان أهوار العراق، إذ ركزت على موضوعي السحر وحياة النساء بشكل أساسي، لكنها تناولت مواضيع اخرى لا تقل أهمية، مثل العمارة والطبيعة والعادات والتقاليد.

جمعت درور كل النصوص المندائية الأساسية (وهذه محفوظة في مكتبة بودليان بجامعة اوكسفورد تحت عنوان مجموعة درور، وهي أكبر وأشمل مجموعة نصوص مندائية في مكتبات العالم)، وترجمت العديد منها بعد إتقانها اللغة المندائية، وهي لغة من اللغات الآرامية الشرقية وبذلك فهي قريبة من السريانية والتلمودية (وهي مشتقة من لغة سكان جنوب العراق الآرامية قبل الإسلام كما هو معروف)، وكتبت بالتعاون مع العالم ماتسوخ القاموس المندائي - الانكليزي. وأحد أشهر كتبها "الصابئة المندائيون في العراق وإيران" الذي صدر في العام 1937، وهو في عداد المراجع، وترجمه إلى العربية الاستاذان نعيم بدوي وغضبان الرومي، وصدرت منه طبعة انكليزية جديدة مؤخراً.

قدمت ليدي درور محاضرتها عن سكان الأهوار في جنوب العراق في 12 حزيران 1946 بعد عودتها من العراق، وعرضت أثناءها صوراً (سلايدات) عن الحياة في الأهوار. وعكست المحاضرة روحية ونمط تفكير البريطانيين في تلك اللحظة، عقب انتصار الحلفاء على ألمانيا النازية. وبالتأكيد كان نشاط الوطنيين العراقيين في تربية التلاميذ بروح حب الوطن والعداء للمستعمر البريطاني يمثل تعليماً مشوهاً معادياً للأجانب بنظر الغالبية الساحقة من البريطانيين. لكننا إن أزلنا هذه القشرة الاستعمارية من محاضرة درور، نلمس مدى تعلقها بهذا البلد وإعجابها بشعبه.

ومن المؤسف أن نرى اليوم الحالة المأساوية لمنطقة الأهوار في جنوب العراق (وهي واحدة من أهم وأغنى وأكبر المناطق الطبيعية في العالم) بعد المشروع الضخم المشبوه الذي أنجزه النظام الدكتاتوري لتجفيف الأهوار ونقل سكانها الى مجمعات سكنية قسرية، مما أدى الى القضاء على نمط الحياة فيها، هذا النمط الذي يعود الى أكثر من خمسة آلاف عام. وكان اسم الشركة المنفذة للمشروع يحمل دلالة بليغة على الهدف من هذه الحملة الهمجية: شركة الأنفال للمقاولات، وهي من شركات مؤسسة التصنيع العسكري…. فهذه الأنفال هي ما أصاب عرب الأهوار بعد أنفال كردستان العراقية العام 1988!!


ثائر صالح

1998

درور في عشرينات القرن العشرين


أخشى أن تكون الرحلة التي سأتحدث عنها مساء اليوم هي الرحلة الأخيرة التي أقوم بها إلى الأعماق الحقيقية لأهوار جنوب العراق، وقد جرت قبل زيارتي لبعض أصدقائي القدماء في العمارة وقلعة صالح في الربيع الماضي. إن المرء معرض للتعلق بأصدقائه الذين استضافوه في العديد من المناسبات، ومن الصعب اقتلاع جذور الإنسان نهائياً من بلد تنجذب إليه أوتار القلب حيث عاش لثماني وعشرين سنة.

طرت الى الوطن العام 1940، وعدت بحراً في الخريف ووصلت بغداد في كانون الثاني من العام 1941، ولعلكم تذكرون بأن هذا العام شهد دسيسة رشيد عالي [الكيلاني]. وعندما عدت، لاحظت نجاح الدعاية المؤيدة للمحور والمعادية لبريطانيا. واستمرت الدعاية المعادية لبريطانيا بهمة عالية ومن دون تدخل يذكر من قبلنا لفترة طويلة. فقد تربى طلاب المدارس على أن بريطانيا العظمى المجرم الأزلي وعدو الحرية، وأضحى اليوم العديد من هؤلاء التلاميذ شباباً متشرباً بالكراهية للأمة التي تعتبر نظرياً صديقة وحليفة للعراق. وكان السوق، بتأثير من الصحافة المحلية والراديو، يتنبأ بكل صراحة انتصار ألمانيا، وقد بدأ أولئك الواقفون على الحياد بالانزلاق الى الجانب الخاطئ.

لم أجد نقصاً في حميمية أصدقائي في بغداد، ومع ذلك كان تحول الهمهمة الى قرقعة بالغ الوضوح، وكنا نتوقع حدوث ما حدث منذ فترة مسبقة. وقد خططت للقيام برحلتين ربيع ذلك العام، الاولى الى أهوار الجنوب - وهي منطقة "صيد" قديمة بالنسبة لي - والثانية الى الشمال، كمحاولة لتشجيع أصدقائنا أينما وجدوا، كوسيلة متواضعة، ربما ليست ملائمة - لتوصيل قناعاتنا في النصر النهائي إلى المترددين والمشككين. وقد أنجزت الرحلة الأولى، لكن الثانية لم تنجز، فقد كنت على وشك السفر عندما تفجرت العاصفة. ونقلنا نحن النساء الى [قاعدة] الحبانية وابقي علينا هناك لحين نقلنا لاحقاً جواً الى بر الأمان، فأصبحنا لاجئات في الهند. وجاءت زيارتي الاولى الى أهوار وجنوب العراق قبل سنوات عدة أثناء الفترة التي درست خلالها الجماعة المندائية، حيث تعودت الذهاب الى ذلك الجزء من العراق كل ربيع بشكل منتظم.

ومن المعتقد أن هذه الأهوار الواسعة كانت موجودة منذ أزمان سحيقة، إذ أنها تقع في سهل رسوب يتعرض إلى الانغمار بالمياه متى ما فاض النهران العظيمان. وكانت المناطق المعروفة يوماً بأرض المياه لدى الكلدانيين، مسكونة منذ الحقبة البابلية، ولربما منذ الحقبة السومرية. وترتفع فوق الماء والقصب هنا وهناك تلال قديمة لم تستكشف بعد. ويطلق السكان المحليون على هذه التلال اسم "ايشان"، ويعتقدون بأنها مسكونة بالجن. وهذا الاعتقاد يوفر نوعاً من الحماية ضد التنقيبات غير القانونية، على رغم أن أسماء مثل "أبو ذهب" التي أطلقوها على أحدها تشير الى احتمال وجود كنوز مدفونة فيها. وتاجر سكان الأهوار الأثرياء أبان العهد البابلي - بالتأكيد كما هي الحال لدى أحفادهم اليوم - بالحبوب والسمك والتبن والقصب والبواري [جمع بارية وهي بساط يحاك من القصب] وغيرها من المنتجات. إن تجفيف وتمليح السمك كان صناعة أساسية على الدوام، ولربما جاءت زراعة الرز على مساحات واسعة في أزمان لاحقة.

في المناطق المزروعة مثل تلك التي على ضفتي الكحلاء والمِجَر وغيرها من الأنهار الصغيرة والممرات المائية، يجد المرء نفسه على أطراف الهور. ومع أن القرى هناك اقيمت من قصب والشوارع ممرات مائية، فإن غالبية هذه القرى متصلة بالبر ويمكن الوصول إليها بالسيارة. وتستعمل السكة الحديدية القديمة بين البصرة والعمارة بمثابة طريق عام لأنها بنيت بمستوى أعلى من المناطق المحيطة بها، وهناك طريق سيارات جيد بين الحلفاية والعمارة.

وكلما توغل الانسان عميقاً في الأهوار، تصبح الممرات المائية الوسيلة الوحيدة للانتقال. وتؤلف هذه الشبكة هنا وهناك متاهة حقيقية، وتروى الكثير من القصص عن تيه أغراب لأيام في هذه المتاهة، فالقصب مرتفع ومتين، بحيث تنحجب الرؤية وتحك صفوف القصب الكثيفة جوانب قوارب الأهوار الرشيقة المرتفعة القيادم والكواثل التي تحرك بالتجذيف وتدفع بالمردي [عصا طويلة من خيزران سميك].

وتنفتح أحياناً صفحات عريضة من الماء، حيث تسبب الرياح أمواجاً كأمواج البحار. وقد حصل الأمر معي أيضاً عندما كادت الرياح المفاجئة أن تغرق الطرادة العائدة لأحد شيوخ الأهوار، فقد كانت مثقلة وبدأ الماء بالتسرب إليها، وعند وصولنا بر الأمان كنا نجلس في بركة من ماء ولا تفصلنا عن الموت سوى بضعة انشات. وأذكر كيف كان الشيخ فالح الصيهود يحمد الله على نجاتنا ثم يعود فيلعن ويسب. ولعل بعضكم يذكره، فقد كان هائل الجثة ويزن ما يزيد عن 130 كيلوغراماً، ولم يستعمل سوى نظارات قراءة على رغم تجاوزه الثمانين. وكان يصوب ببندقيته أفضل من كثير من الشباب، وصنعت هذه البندقية خصيصاً له، ثقيلة يتعذر على غالبية الرجال حملها، كما صنعت له في بريطانيا دراجة هوائية خاصة كان يركبها لبضع خطوات، واعتاد عدد من الرجال إعانته عند الركوب أو النزول. وكعادة شيوخ الأهوار، فقد تزوج سبعين أو ثمانين مرة .. لكن بنت عمه الوسيمة عفرة كانت الأثيرة لديه. وقد سألتها مرة كيف نجحت في ذلك، فقالت إنه السحر: "انهن يأتين ويذهبن" وقد قصدت الزوجات الأخريات، "لكني أتخلص منهن". وحدثتني عن بعض الطرق السحرية التي اعتمدتها، أغلبها ترديد تعاويذ مقفاة تنتهي عادة بعبارة "انه سليمان ملك الجن من يقول هذا وليس أنا". وهذه إحدى التعاويذ: "خذ هدهداً. قف بين قبرين أحدهما قديم والآخر حديث. سر الى الوراء قارئاً التعويذة ماسكاً الهدهد خلف ظهرك واقطع رقبته. يجب ألا تتحدث الى أي شخص، اسلق الطائر الى أن يهترئ اللحم. خذ عظم الجناح مع عظمتين اخريين وقطعة من الذهب وقطعة من المرجان ولؤلؤة مع قليل من المحلب والعطور، وضعها كلها في منخل واحملها في الماء في جدول أو نهر. إن للعظام التي ستطفو باتجاه التيار قوة عظيمة ضد الضرة". وهناك تعويذة اخرى تتطلب قراءتها عند دهن سرير الضرة أو كوخ القصب بسمن الخنزير. لكن عفرة لا تحتاج المزيد من التعاويذ، فقد توفي الشيخ فالح الأسف منذ سنوات طويلة.

عليّ أن أعود الى سفرتي الى شيوخ الأهوار. كتبت الى كورنيليا والنبرغ في العمارة لأسألها مرافقتي، وكانت تعمل لدى مستشفى البعثة الأميركية هناك لسنوات في حقل رعاية الحوامل والنساء بين العشائر المحيطة بالعمارة. لم تجد غضاضة في أن يوقظوها في الثالثة أو الرابعة من صباح أي يوم شتوي وأن تسير لأميال بسيارتها الصغيرة أو بالقارب الى مناطق نائية لمساعدة إمرأة فقيرة في ولادتها العسيرة أو معالجتها من الأمراض. وكان الناس يعرفونها باسم ست شريفة في كل العمارة وقرى الأهوار. وكنا، ست شريفة وأنها، نعرف بعضنا لسنوات، وهي لم تزر قلب الأهوار بعد، وكنت أعرف بأنها ستسر لمرافقتي في هذه الرحلة. وقد استضافتني في بيتها في العمارة ومن هناك طلبت مساعدة متصرف العمارة ماجد بيك، وهو كردي ثري. وكان ماجد بيك في غاية اللطف ووعد بتقديم المساعدة. وبعد أيام في العمارة * قضيتها في الزيارات وتقديم عرض سينمائي في ساحة دار مس والنبرغ (التي سأسميها شريفة من الآن فصاعداً) - أرسل ماجد بيك في طلبي وعرض علي استعمال مركبه الخاص مع طاقمه وشرطي. وكان للمركب كابينة تتسع لشخصين، جد ملائمة لشريفة ولي. وفي الليل يتدبر خادمي والرجال منامهم على الضفة.

وقد خطط ماجد بيك للرحلة معي، ناشراً الخرائط على الأرض موجهاً التعليمات الى رجاله فيما يخص الطريق. وأخيرا، في صباح آذاري، انطلقنا ونحن مسلحين بالأواني والمقالي والمؤن وكمية من الهدايا لنساء العشائر. وكان المركب في انتظارنا عند مدرسة البنين. وبما أنهم كانوا واقعين تحت تشويه التعليم المعادي للأجانب، أصبح الأولاد المتحلقون عند الضفة ميالين الى الازعاج والخشونة. لكن بعض تعليقات المليحة ونكتة أو نكتتين سرعان ما بددت كل هذا، وعندما أرخينا المرساة وانطلقنا مع التيار، ودع جمعهم قاربنا بتلويح حميم.

كان النهر في الفيضان، محمر اللون من الطين، والرف على الجانبين منبسطاً، وقد تحددت الضفتان هنا وهناك بصفصافٍ تفجر لتوه بالأوراق. سرنا بسرعة كبيرة. وعندما تركنا دجلة وانحدرنا في نهر أصفر وجدنا قرى من القصب على الجانبين فطلبت من الطاقم تخفيض السرعة لأن الموج الذي سببه المركب أدى الى ذعر السكان. فقد غرقت أكداس من أقراص الوقود [المطّال] بالماء وانقلبت قوارير الماء [وتسمى المصخنة] وتلاعب الموج بالمشاحيف - زوارق الهور الواطئة المطلية بالقير - مما أرعب أصحابها، وتطاير الدجاج في كل الاتجاهات وسارعت العجول بالهرب مفزوعة إلى الصرائف التي تعيش فيها مع مربيها.

كلما توغلنا أكثر، بدا المشهد أقرب الى منظر الأهوار الحقيقية. أطفال نصف عراة يتراكضون صائحين على طول الضفاف، كلاب حراسة تنبح بصوت أبح تتزايد كلما توغلنا أعمق وأعمق في وطن القصب.

وتبنى منازل سكان الأهوار من القصب بالكامل دون استعمال مسمار أو برغي. وصريفة القصب تشبه الخيمة، والغطاء هو بواري توضع فوق هيكل من حزم مربوطة بعناية. وتسمى هذه الحزم شِباب [مفردها شِبه]. وتربط حزم القصب القوي بحبال من البردي. أما الأكواخ الأكبر حجماً، مثل مضايف الشيوخ، فهي بناء عظيم بحق، فالمضيف الجيد يكون أحياناً بحجم كنيسة صغيرة. وتغرس حزم القصب في الأرض عند البناء بصفين، ثم تحنى لتلتقي أزواجاً عند القمة وتربط بعناية فائقة بحيث يستحيل رؤية موقع الاتصال بين الحزمتين. ويبلغ سمك هذه الأضلاع القدمين [62 سم]. ويعتقد الكثير من الآثاريين بأن هذه هي أسلاف القوس المعماري.

والضوء يدخل المضيف من الباب، وفي الطقس الحار عبر مشبك من الجوانب. إنها أشعة كهرمانية لينة تتسلل الى برودة وعتمة مضايف الشيوخ، مطعمة بزرقة أشعة الشمس البراقة أحياناً، وإن وقعت على سجادة ثرية بألوانها تتموج في الباطن الوقور للمضيف بحيرة من زمرد وياقوت.

ويفضل بعض أثرياء الشيوخ بناء مضايف من الطابوق، وهو تغيير يرثى له بحق. وتؤثث هذه عادة بأثاث أوروبي: كراسي ومناضد رديئة النوعية والذوق. أما في مضايف القصب فيجلس الضيوف على مفروشات على الأرض، ويسندون ظهورهم إلى وسائد محشوة بعناية.

وكوخ الفقير أكثر بساطة، فهو يبنى بالطريقة نفسها، بواري فوق هيكل لكنه أصغر حجماً وأقل ترتيباً. ولربما يتم تكديس الأغصان والدغل على جوانب الصريفة للوقاية من ريح الشمال الباردة، وعند المدخل تترك كمية من الحلفاء دون ربطها من القمة، فتتلاعب الريش برؤوسها الريشية. والمدخل يواجه الجنوب عادة، وغالباً ما تجد صفوفاً من أقراص الوقود البنية اللون المسطحة الرقيقة ملتصقة على جدران الصريفة الخارجية لتجفيفها. وهذه تصنع من خليط روث الجواميس مع القصب المفروم.

تبنى قرى القصب على الأرض، وأحياناً على حافة الماء مباشرة، وعند الوصول الى قلب الأهوار نجد بيوتاً يقف كل منها على جزيرته الصناعية الخاصة به. في الفصل الجاف، عندما ينخفض منسوب المياه، يوضع أساس من طين وقصب وحصائر القصب على شكل طبقات وتداس كلها بعناية، لحين تكون منصة كبيرة وقوية كفاية لتحمل الصريفة وبعض والمواشي. ويمكن رفع مستوى هذه المنصة عند الفيضان بإضافة مواد اخرى وحلفاء وتراب يجلب بالقارب. وفي قرى مثل الچبايش (جمع چبشة، اسم الجزر الصناعية هذه) تتوزع البيوت كل على جزيرته الصغيرة. والشارع ممرات مائية، والطريقة الوحيدة لزيارة جارك هو التجديف بالقرب أو على حزمة قصب، أو السباحة. ويتعلم أطفال الأهوار السباحة في نفس الوقت مع تعلمهم السير، وأغلب الأطفال يمسكون بالمجداف كما لو أنه أحد أطرافهم.

والأثاث مصنوع من الطين والقصب مثل الصريفة. وتعلق الستائر على سكة مصنوعة من حلفاء مبرومة، السرير من قصب، أما سرير الطفل المنسوج من صوف الخروف فهو معلق بحزم القصب. وتصنع أوان حفظ الرز والطحين من طين، وكذلك رحى طحن الحبوب، وتصنع المناول التي تحوك بها النسوة الحصران من الطين والقصب. وهناك على الدوام وعاء طيني مع غطاء - هو العدة - حيث يحفظ براد الشاي والأقداح. وتعرض زوجة الشيخ علينا صندوق مهرها أيضاً وكمية من البسط، تصل أحياناً من الأرض حتى السقف. ولكل بيت على جزيرة صغيرة كلب حراسته الأشعث وقطيع جواميسه الصغير وبعض الدجاجات النحيلات، وبقرات شاحبات قليلات. والأبقار ليست سعيدة البتة في هذه القرى المكونة من العديد من الجزر، لأنها مقيدة الحركة في مكان ضيق، وما لم تخض الى أرض جافة فإنها تطعم الحلفاء، والشيء ذاته ينطبق على الأغنام الموسمية، غير أن الجواميس تجد نفسها في الجنة، فهي تخوض وتعوم بتراخٍ إلى أماكن رعيها المفضلة خلال النهار، وتعود في أوقات الحلب حسب مزاجها أو تقاد من قبل طفل صغير يركب على ظهر إحداها، وكأنها مخلوقات من قبل التأريخ. 

ويعتمد سكان الأهوار عليها في طعامهم، لأنها تزودهم بالقيمر الفاخر واللبن الرائب والزبد والأجبان، ويصنع سكان الأهوار الخبز من طحين الرز بدلاً من طحين الحنطة. وتصنع النسوة نوعين من الخبز، سيحا [في الأصل السِيّاح] والرِصّاع الذي هو أقل سمكاً. ولصنع السلاطة يستعملون أبو خنجر (جرجير الماء أو الكرسون المائي) ونبات له أزهار وردية اللون يسمى لگاط، والذي قدم لنا أحياناً مطعماً بالخل والزيت. ثم هناك نوع من الحلفاء قابل للأكل يسمى عجيل Ageyl، وطلع البردي الذي تصنع منه حلويات [يجمع غبار الطلع ويطبخ بالبخار لتكوين كتلة صلبة صفراء اللون حلوة المذاق تسمى خِرّيط].

أود أن أحدثكم المزيد عن رحلتنا. لقد انتقلنا من مضيف الى كضيف، فيرسل مضيف يوم أو وجبة رسولاً الى التالي كي يتهيأ لاستقبالنا. وكرم الشيخ أمر لا يمكن رفضه، لأن كبرياءه سيُثلم وسمعته تُنتقص عندما يعجز عن تقديم أجود ما يمكن تقديمه لضيفه. لقد وفرت السفرة فرصاً عدة للحديث عن الحرب، الأمر الذي كان وقتها يوافق رغبتي. وفي اللحظة التي يصل المرء يقدم له شاي حلو وسگائر في المضيف، ولا تبدأ التحضيرات وإعداد الطعام إلا بعد أن يجلس الضيف. ولا تذبح الخراف والدجاج التي كانت تنتظر إلا في ذلك الوقت، بعدئذ تسلخ الخراف ويُنتف ريش الدجاج وبعدها تطبخ. ويعد الرز والسمك والحلويات (عادة يقدم  المحلبي الذي يصنع من الرز المطحون المطبوخ بالحليب والمُطيب بماء الورد)، لذلك تجهز الوجبة خلال ثلاث أو أربع ساعات، ومع ذلك غالباً ما تقدم باردة. وتفوت ساعات الانتظار بالأحاديث، وعرب الأهوار متحدثون ماهرون. وبعد تناول الطعام وغسل الأيدي، نقوم بزيارة النساء في المنزل، ونوزع هدايانا المكونة من بضعة أمتار من الحرير أو القبعات أو الألعاب للأطفال وبعض الحلويات.

وتبذل جهود لتسليتنا، فقد اقترض أحد الشيوخ الراديو القديم لمدير إحدى المدارس وربطناه الى بطارية المركب كي نستمع الى الأخبار. وللأسف، وعلى رغم التدوير الصبور للأزرار، لم نلتقط سوى إذاعات ألمانية أو إيطالية، وبدأ مضيفنا بالاعتذار. أخيراً وفقنا إلى التقاط موسيقى قوزاقية وطلبنا الاستماع الى هذه على الأقل. أحيانا كنا نصاحب الشيخ على الرماية أو الى حقول الرز. وفي إحدى الليالي تمتعنا بالاستماع الى "البستة"، وهي حفلة الأهوار الموسيقية. وقدم المطربون أغاني غرامية، وعندما طلبنا أغنية حرب، قدموها مصحوبة بإيقاع طق الاصبعتين، واحياناً أُستعمل الطبل في مصاحبة الأغاني.

وحاولنا، شريفة وأنا، إصدار صوت عن طريق طق السبابة والوسطى، وهم يفعلونها هكذا، دون أي نجاح. وبعد أن أرانا قائد المشحوف الذي نقلنا في اليوم التالي كيف يجب أن نعمل، ذكر لنا بأنه من المشين على المرأة طق أصابعها أمام الرجال. لقد كان عجوزاً قبيحاً. "لو فعلت زوجتي ذلك، فإني أقطع رقبتها بيدي وأشرب دمها" قال ذلك مؤشراً بيديه. وقد غضبت قليلاً، وعندما سألته لماذا لم يمنعنا من ذلك، قال "آه، أنتن النساء الانكليزيات تختلفن، أنتن كالرجال".

وتتمتع النساء في الأهوار بالرقص عندما يكن وحدهن، لكنهن يعتقدن بأن الرقص أمام الرجال مشين. وهذا يختلف كثيراً عن النساء في شمال العراق، فالمرأة الكردية ترقص مع الرجال الدبكة في كل الاحتفالات.

وتقوم النساء في الأهوار بأداء شكل من أشكال الرقص في مراسيم الحداد. عندئذ يجري تمزيق الثوب وحل الشعر ورميه ذات اليمين والشمال، واللطم على الصدر والترديد في كورس بعد العدّادة. والعدّادة محترفة، تعدد حسنات الميت وأسباب الحزن. وقد حضرت مثل هذه المناسبة قبل سنوات، وكانت العدادة هذه المرة رجلاً بلباس امرأة، بارعاً في ارتجال القافية، ويعمل في أرجاء الأهوار. كان حليق الوجه ويضع المكياج، ويستعمل اسماً نسوياً، وهو مندائي أسلم.

إن الرجال والأولاد الذين يرتدون ملابس النساء شعبيون في أفراح الزواج في الأهوار. وفي الربيع الماضي، عندما حضرت حفل زواج ابن أحد رجال الدين في إحدى قرى الأهوار، كان أحد هؤلاء الراقصين بشعره الطويل وملابس النساء يتندر مع الموسيقيين. كان منظره مقززاً عندما يتلوى ويقوم بحركات تؤديها النساء عادة، لكن ذلك أثار حماساً شديداً لدى الحاضرين كما كان واضحاً.

ذكرت دين المندائيين قبل لحظات، وهناك في الأهوار تجمعات من هؤلاء الناس المثيرين للاهتمام، وعوائل هنا وهناك متفرقة، ويعرفون محلياً باسم الصبة. وهم حرفيون ماهرون، يصنعون القوارب والحلي للعشائر، والفالات وصنارات صيد السمك والمساحي والمحاريث وغيرها من أدوات. ونشاطهم الآخر هو كتابة الرقي، إذ يذهب سكان الأهوار الى الكهنة المندائيين للحصول على تعاويذ باللغة العربية أو المندائية، والأخيرة تعتبر شديدة الفاعلية لأنها تكتب بخط ولغة غير معروفين. فهم يكتبون أحرازاً ضد المرض وسيطرة الأرواح الخبيثة وتعاويذ الحب بمختلف أنواعها، وأدعية لإرباك العدو أو الغريم، وتدفع مبالغ كبيرة لقاء هذه الكتابات.

كنا محظوظتين في النوم في كابينة المركب، فالربيع هو موسم البراغيث، حيث تعج حصائر بيت القصب بها. وقد اشتكى الطاقم وخادمي في البداية: حتى هم الذين تعودوا عليها وجدوا النوم مستحيلاً بسبب البراغيث، وقالوا "چان السمچ ينام بالهور إحنا نمنا". وتتألف تنويمة الربيع في الأهوار من نقيق ملايين الضفادع والنباح الأبح للكلاب، فقد أصر شرطينا على إقامة معسكرنا الليلي قرب مضيفينا.

وفي الليلة الأخيرة قررنا، شريفة وأنا، الانزواء لقضاء ليلة هادئة وتناول وجبة بسيطة على ظهر المركب. لكن الشرطي لم يأكل معنا على رغم توافر الطعام لكل الطاقم، إذ قال إن الشيوخ يبعثون بشخص للمراقبة قرب المركب للتأكد من عدم تعرضنا لأي مكروه. وقد أرسينا مركبنا قرب أحد البيوت التي يمتلكها الشيخ فيصل بن مجيد - وهي دار من طابوق بناها لعائلته، والعائلة هي النساء - حيث يمكننا تناول طعامنا في المركب بهدوء. لكن بعد فترة وجيزة جاء رجل حاملاً دعوة للعشاء مع فيصل الذي يبعد لمسافة عن الموقع الذي نحن فيه. إعتذرنا بأننا جد تعبات حتى نقوم بهذه الرحلة وشكرناه على الدعوة. بعد ذلك جاءت رسالة من الدار: "السيدات يودن رؤيتنا". هذا الأمر لم نستطع رفضه. عبرنا وسرنا على أرض مزروعة بالثيل (وعلمنا لاحقاً بأن مضيفتنا وجيهة هي التي زرعته) ودخلنا الدار بمرافقة عبد أسود. وما كدنا ندخل حتى نهضت السيدة الشابة، وحدقت فيّ لحظة، وصاحت: "أهذه أنت؟" واندفعت نحوي وقبلتني على الخدين. حييتها بحرارة ولكني لم أتذكر من هي وأين التقيتها. شيئاً فشيئاً عرفت بأنها وامها كانتا من بين زواري حينما أقمت في كوخ في قلعة صالح، الأمر الذي تعودت القيام به كل ربيع. وقلعة صالح مدينة صغيرة أو قرية كبيرة في منطقة العمارة. ولم تكن البنت من العشائر، بل ابنة تاجر من البصرة. والام أرملة ميسورة الحال سكنت قلعة صالح، في حين كانت البنت تدرس في المدرسة وقد تطلقت من زوجها. وكانت شغوفة بالقراءة والكتابة وكانت مغنية جيدة، وغالباً ما يطلب منها الغناء في الموالد، وهي المناسبات الدينية التي يجري فيها الغناء. وطلبها فيصل لسنوات بعد أن سمع بجمالها ومواهبها، غير أن أقاربها كانوا ضد الزواج العشائري. لكنه في النهاية حصل عليها، من المحتمل بعد دفع مبالغ كبيرة، والآن هي زوجته المفضلة. وهناك المزيد مما يمكن أن أرويه من قصتها، أطول مما يمكن أن يُقص هنا لكنه رومانتيكي جداً.

وعدناها بالعودة. وعند زيارتنا لها في المساء، طلبت منها أن تريني خزانة ثيابها بعد أن رأيت ملابسها المختلفة عن ملابس نساء العشائر. أخرجت الثوب بعد الآخر، وبدأت الثياب تتكوم في حضني حتى وصلت حنكي. وكانت تعرف عدداً من الأدعية السحرية التي كتبتها. ان منظرها الحسن وذكاءها يسهلان علينا فهم سبب كونها الزوجة المفضلة لفيصل المزواج. ويشاع أن أبا فيصل، مجيد، اتخذ له زوجة جديدة كل مساء. لربما كان في ذلك مغالاة، لكنه من المعتقد أن كثرة الزوجات والمحظيات دلالة على قوة الرجال وثرائهم. وترتدي زوجة الشيخ الحجاب عند ملاقاة الأغراب، لكن نساء الأهوار غير محجبات على العموم. وهن مُجدات في عملهن، مرحات ومحبوبات، وجميلات الطلعة غالباً. وحياتهن ليست بسهلة، فأزواجهن يطلقونهن لأتفه الأسباب ويحتفظون بالأولاد الذكور. ولا يمكن للبنت أن تتزوج من دون موافقة ابن عمها. ويمكنه الزواج منها إذا شاء، وإن لم يشأ فإنه قادر على منع زواجها من أي شخص كان، وإن تزوجت البنت حبيبها من دون موافقة ابن عمها فإنها تعرض حياتها للخطر، وعدد البنات اللائي خرقن هذا القانون كبير، ولذلك لا غرابة في تحدث الأغاني عن الحب الخائب أو المأساوي.

لكن النساء يواصلن الدرب: يطحنّ الحبوب ويطبخن ويحلبن الدواب وينسجن الملابس ويصبغنها، يُعلفن المواشي، ينجبن الكثير من الأطفال ويحملن العبء، إلى أن يعجزن قبل أوانهن. والزلم، أزواجهن ومضطهدوهن، هم أولادهن أيضاً، فهم يتوجهون اليهن طلباً للنصح والراحة، والعديد من النساء يحكمن أزواجهن دون معرفتهم.



(صدرت في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية) 

الاثنين، 11 سبتمبر 2023

 كيف أصبح السومريون أجداد المجريين؟







ما زال بعض الكتاب المجريين يعتقدون بأن لغتهم تمت بصلة الى اللغة السومرية، وذهب البعض الآخر إلى اعتبار السومريين والمجريين شعبين من أصل واحد. وهم في هذا المنحى يحاولون استغلال حقيقة عدم معرفة أصل السومريين ومن أين أتوا، وعدم تشابه اللغة السومرية مع أية لغة 

أخرى معروفة. ودلائلهم التي يسوقونها لدعم افتراضهم هذا تعتمد على ”تشابه“ بعض الكلمات المجرية مع أخرى سومرية في اللفظ والمعنى، وعثور العلماء على نصوص مكتوبة برموز تقرب الرموز السومرية وعلى خزفيات صنعت بتقنية سومرية في منطقة أردَي (ترانسلفانيا رومانيا اليوم). ولحسن الحظ، لم يتبن العلماء المجريون هذه الفرضيات بل سخروا منها ودحضوها. وتتركز هذه الأفكار لدى المجريين الذين يقيمون خارج المجر، مثل الولايات المتحدة الأميركية وكندا، وعلى وجه الخصوص في الأرجنتين. وأغلبهم ليسوا متخصصين بالسومريات، بل باحثين في التأريخ الحضاري المجري أو مؤرخين أو متخصصين لغويين في لغات أخرى.

وظهرت اولى هذه الفرضيات في أواخر القرن التاسع عشر، أثناء النهضة القومية المجرية التي أججتها الاحتفالات بالذكرى الألفية لقدوم القبائل المجرية الى حوض الكاربات حيث يقيمون اليوم، إذ أن اتحاد القبائل المجرية السبع قدم الى هذه الأرض في فترة متأخرة. وحدد العلماء التاريخ التقريبي لهذا النزوح في العام 895 ميلادي. ويفترض العلماء أن أواسط آسيا هي الموطن الأصلي للمجريين وباقي الشعوب الفنوغورية، بعبارة أوسع الشعوب التي تنتمي لغتها الى عائلة اللغات الأورالية. بذلك يكون المجريون والفنلنديون والاستونيون شعوباً تتحدث - نظرياً - بلغات متشابهة، على الرغم من ندرة الكلمات المشتركة التي نجدها في هذه اللغات المعاصرة اليوم.


اللغات الاورالية وتطورها


يتفق العلماء على أن اللغة الأورالية القديمة ازدهرت بين الألف السادس والرابع قبل الميلاد، قبل أن تنشطر الى عائلتي اللغات الفنوغورية والسامويدية. وتكرر هذا الانشطار مراراً عبر القرون لتتفرع اللغة المجرية من اللغة الأوغرية، ولتكون لغات أقوام صغيرة تقطن أنحاء من روسيا الأقرب إلى اللغة المجرية، مثل الأوستياك والفوجول الذين يقطنون الجزء الغربي (الأوروبي) من الأورال. ويعتقد العلماء المجريون أن موطن الشعوب الأورالية الأصلي هو السفوح الشرقية لجبال الأورال في غربي سيبيريا.

بدأت اللغة المجرية بالتكوّن قبل 2500-3000 سنة، عندما أخذت الأقوام المجرية بالترحال بسبب الضغط الذي تعرضت له على يد الشعوب التركية التي فقدت مراعيها جراء الجفاف الذي أصاب المنطقة التي تسمى بشقيريا اليوم. وكان هذا أحد نقاط اللقاء الكثيرة بين اللغات التركية واللغة المجرية. وحدث لقاء آخر بين اللغتين في القرون السادس - الثامن بعد الميلاد عندما تخالطوا مع الخزر الذين تحدثوا لهجة خاصة من اللغات التركية - البلغارية (والبلغار كانوا من الأقوام التركية في الأصل).

وهناك نحو 300 كلمة تركية وافدة في اللغة المجرية، مقابل وجود نحو 1000 كلمة فنوغورية مشتركة، علاوة على تشابه تركيب اللغة مع اللغات الفنوغورية الاخرى. هذا الكم من الكلمات التركية كان الأساس الذي استند إليه البعض  لإطلاق فرضية القرابة التركية المجرية، وهي تعرف بنظرية الأصل الطوراني واللغة المشتركة.

ومثلما اكتسبت اللغة المجرية 300 من الكلمات التركية، هناك نحو 100 كلمة هندوأوروبية (فارسية على الأغلي) استعارتها من الشعوب التي قطنت سهوب أوراسيا. ومن الكلمات فارسية الأصل الكلمة الدالة على رقم ألف وهي أزَر (من هزار الفارسية)، وتعود كذلك كلمة چاردا Csárda المجرية المعروفة التي تعني مطعم ريفي وتقابل چار طاق الفارسية (سقيفة مفتوحة مبنية على أربع قوائم، چرداغ بالعامية العراقية).

لكن على رغم اكتساب هذا الكم من الكلمات التركية والهندوأوروبية، لا توجد قرابة بين اللغة المجرية وهاتين العائلتين اللغويتين. والأمر مماثل لحالة اللغات العربية والتركية والإيرانية الحديثة، فبالرغم من أن الكلمات العربية تشكل نسبة عالية من قاموس اللغتين التركية والإيرانية، لا يجرؤ أحد على الافتراض بأن اللغات الثلاث تنتمي الى عائلة لغوية واحدة. لكن المفكرين القوميين المجريين في القرن التاسع عشر وحتى في القرن العشرين كانوا يعتبرون القرابة مع شعوب الفولغا والأورال ”المتوحشين“ نقيصة، ويحاولون السكوت عن علاقاتهم بشعب اللاب Lapp الذي يقطن شمال فنلندا والسويد لبساطة حياته المشابهة لحياة الأسكيمو. لذلك انطلقوا يبحثون عن أقارب يفتخرون بهم أمام الشعوب الأخرى، ومَن هم أصلح لتمثيل هذا الدور من السومريين مجهولي الأصل الذين قدموا للحضارة الإنسانية الكثير؟


القرابة السومرية - المجرية


يحاول عدد من الباحثين إيجاد نقاط التشابه بين اللغتين المجرية والسومرية سواء في الكلمات أو في القواعد والنحو (وهو الدليل الأكثر إقناعاً عند مقارنة لغة بأخرى). في الواقع، لا يعرف أحد معرفة اليقين نظام الأصوات في اللغة السومرية، وبالتالي بنى علماء السومريات قراءتهم للمقاطع المسمارية على أساس افتراضي، لأن القيمة الصوتية للمقاطع غير معروفة. ويعود سبب ذلك الى جملة أسباب، منها أن تدوين اللغة السومرية مقطعي ولا يجري باستعمال حروف ذات قيمة صوتية محددة كما هو متبع ومعروف في التدوين الأبجدي، وكذلك اختلاف اللغة السومرية عن اللغات القديمة والحديثة المعروفة مما يجعل الدراسة المقارنة لها أكثر صعوبة.

ويؤكد المجريون أصحاب نظرية الأصل السومري أن قراءة النصوص السومرية (أي إعطاء المقاطع قيماً صوتية) ستسهل كثيراً لو استعمل النظام الصوتي للغة المجرية. من جانب آخر، يعتقدون بأن الإقرار بقرابة السومرية والمجرية سيساعد في تفسير الكثير من الكلمات وحل العديد من المشاكل التي تواجه علماء السومريات. بالطبع لا يتمنى المرء عادةً تعقيد حياته بنبذ النصائح المفيدة، لكن علماء السومريات واجهوا افتراضات القرابة اللغوية المجرية السومرية بتحفظ على الأقل، إن لم نقل برفض شديد.

وفي الواقع هناك تشابه بين بعض القراءات للكلمات السومرية (وهناك كلمات لها العديد من القراءات) مع كلمات مجرية. وتجري محاولات لإيجاد الصلة بين الكلمات المجرية والسومرية باستعمال الميثولوجيا والدين، مثلاً يذكر المؤرخ تيبور بارات Tibor Baráth عدداً من المصطلحات التي يعتقد بأنها تفسر بعض الكلمات السومرية. من بين الكلمات كلمة ”أور“، اسم المدينة السومرية الشهيرة، فهي عنده مماثلة للكلمة المجرية المستعملة اليوم أيضاً: úr، التي تعني سيد، وبالتالي ”رب“ (أنظر كلمة الرب التي جاءت من كلمة رب السامية المشتركة وتعني السامي، الكبير، السيد بمعناها الدنيوي والديني على حد سواء). لكن لو بحثنا عن معانٍ أخرى لكلمة أور السومرية سنجد الكلمات التالية: بطل، مدينة (وانتقل هذا المعنى إلى العبرية، اورشالايم = مدينة السلام)، كلب، أرضية، قلب، صياد، أرجل، كبد، مزاج… إذا ما أهملنا الأفعال، وهي كثيرة أيضا.

ويعتقد بارات أن منظومة من المصطلحات يمكن تفسيرها بالاستعانة باللغة المجرية، وينطلق من فرضية أساسية هي اعتبار إله الشمس المحور الأساسي للحياة الدينية والدنيوية في سومر ووادي الرافدين، وأن ديانة السومريين هي ديانة توحيدية، فهو بذلك يختلف مع ما اتفق عليه علماء السومريات بشأن البانثيون السومري. على هذا النحو يفسر اسم سومر مستعيناً بالكلمة المجرية Szem Úr أي سيد العين، إله العين. والعين هي عين الشمس، بذلك فإن بلاد سومر هي بلاد إله الشمس. أما أكد السامية أول إمبراطورية في التأريخ والتي خلفت السومريين في السيطرة على وادي الرافدين، فهي مقاربة للكلمة المجرية Égető أي الحارق، وهي من صفات الشمس أيضاً، أي أن أكد هي أرض إله الشمس. وللأسف، يصعب قبول اعتبار إله الشمس الإله الأول في وادي الرافدين، إذ نعرف أن إيا إله الماء سبقه على عرش الآلهة.

وفي حالة ثانية يعتقد أندراش زاكار András Zakar في كتابه ”المحيط الديني السومري والكتاب المقدس“، بأن كلمة إشتين Ishtin (وتعني واحد أو أوحد بالسومرية) تقابل كلمة Isten (إشتَن) المجرية التي تعني إله. برأيه أن الوحدانية هي صفة الإله، لذلك يطلق عليه هذه التسمية بطريقة قسرية، متناسياً هو الآخر أن الدين السومري يؤمن بتعدد الآلهة وليس بالتوحيد (على الأقل يؤمن بمجموع آلهة المدن وليس بإله واحد لجميع المدن). 

تشع من هذه الأمثلة إرادية التفسير، مما يذكرنا باعتبار بعض العرب شكسبير الشاعر الانكليزي الأعظم عربي الأصل لأن اسمه يقترب من "شيخ زبير". ولا أعرف إلى اليوم هل كان من أطلق هذه الطريفة جاداً في قوله أم هو يسخر من هذا المنحى في مقارنة الكلمات المتشابهة في اللغات المختلفة دون أي أساس علمي واقعي.

من الأجدر الانتقال لدراسة التشابه النحوي، فالحال في هذا المجال أكثر إثارة. يعقد البعض مقارنات نحوية بين اللغات الفنلندية والمجرية والسومرية والتركية ولغات أخرى. ويشيرون إلى وجود ثمة تشابه في بعض حروف الجر وظروف المكان والتملك وغيرها من الأدوات التي تدمج عادة بالكلمات ولا توجد بصورة منفصلة (رغم أن هذا الأمر يتعلق بتكنيك التدوين!). كذلك هناك تشابه في بعض الحروف الملتصقة بالأفعال (سابقات) والتي لا تنفصل عنها إلا في حالات خاصة مثل النفي. كذلك يسوق هؤلاء أمثلة بعض التعابير والتراكيب التي يعتقدون بأنها مشتركة. والمشكلة التي تواجه هذا المنحى هي كيفية مقارنة المقاطع السومرية بالحروف التي تستعملها اللغات الأخرى. إن تشابه النحو اللغوي هنا وهناك لا يعني أن اللغات يمكن تصنيفها ضمن عائلة واحدة، مثلاً تشترك العربية واللغات السامية عموماً مع اللغات الحامية والهندوأوروبية واللاتينية والمجرية والبولينيزية كلها في استعمال الإضافة: ففي هذه اللغات يقال مثلاً  كتاب أبي. كما تشترك الساميات والحاميات واليونانية واللاتينية والقوقاسية الشمالية والغربية في تأخر الصفة عن الموصوف: بنت جميلة. في حين تستعمل لغات أخرى مثل القوقاسية الجنوبية (الجورجية) والمجرية والتركية والسنسكريتية وباقي اللغات الهندواوروبية الحالة المعكوسة: جميلة بنت. فما هو مقياس التشابه والاختلاف إذن؟ يبدو مما سبق أن تحديد قرابة لغة بأخرى عملية طويلة ومعقدة، لها قواعدها وقوانينها.

من جانب آخر، هناك دراسات أكثر جدية، تتعلق بالدراسة المقارنة للأساطير المختلفة للشعوب، من بينها الأساطير المجرية. وفي هذا المجال، نشاطر رأي العديد من العملاء الذي يميلون إلى أن مواضيع الأساطير المختلفة ورموزها الأساسية متشابهة، ويمكن العثور على نفس العناصر في أساطير أقوام تبعد بعداً جغرافيا وحضارياً وتاريخيا كبيراً، مثل شعوب المحيط الهادئ أو السكان الأصليين لأميركا. ولا تزال بقايا الأساطير المجرية حية في الشعر والعادات الشعبيتين، مثل اسطورة الوعل العجيب، أو اسطورة النسر الذي قاد قبائل المجريين السبع إلى حوض الكاربات حيث يقيمون اليوم. تقول واحدة من أغاني عيد الميلاد التي جمعت من المجريين الچانگو (من التجمعات المجرية في شرقي رومانيا وفي مولدافيا في الأصل):

الوعل العجيب قرنه ألف فرع وعقدة،

ألف فرع وعقدة، ألف شمعة مضيئة،

يجلب ضوء الشمس المبارك من بين قرنيه

على جبهته النجمة وعلى صدره القمر

ينطلق من الشاطئ المضيء للدانوب السماوي

لينقل كرسول سماوي البشارة 

في هذا النص نجد نفس الرموز التي تستعملها الشعوب الأخرى: الشمس والقمر والنجوم، دورة الخليقة (النور والظلام، الموت والحياة، الصيف والشتاء). وتتحدث بعض الأساطير المجرية عن المملكة الغنية التي شيدها الملك الصياد "نمرود" سلسيل "تانا" بعد الطوفان في الأرض الممتدة بين البحر في الجنوب والجبال في الشمال والتي يخترقها النهران العظيمان (وادي الرافدين). وتانا يقابل "إتانا" البطل - الملك السومري الذي أسس مدينة كيش حسب اسطورة كلكامش. وتتحدث الأسطورة عن زواج تانا من أنث (= عنات؟)، التي ولدت له توأمين، اسمهما هُونور ومُوگور. في يوم من الأيام انطلق نمرود بصحبة التوأمين إلى الصيد، وحدث أن افترق عنهما، فانطلقا في تجوال طويل وحدهما. ثم التقيا بحيوان هو الوعل العجيب، الذي قادهما عبر بلاد العجم وعبر مستنقعات خطيرة عن بحر ميوتس (بحر آزوف؟) ليصلوا إلى أرض كثيرة الخيرات، عندئذ اختفى الوعل العجيب. تتحدث هذه الأسطورة في الجوهر عن أصل قبائل الهون والمجريين، فهونور هو جد الهون ومُوگور هو جد المجريين. وقبائل الهون معروفة في التاريخ، ونعرف أن الهون استقروا في حوض الكاربات قبل المجريين بقرون، وأسمى الرومان هذه المنطقة هُنغاريا نسبة إلى الهون. واشتهر ملكهم أتيلا الذي قاد القبائل الوثنية ضد روما ليقضي على الإمبراطورية الرومانية الغربية في القرن الخامس. ويبدو من مقارنة الاسطورة المجرية بالأساطير الاخرى، أن عناصرها متشابهة، وكذلك تتشابه الأسماء الواردة فيها لدرجة ما. والأساطير المجرية ميدان خصب للباحثين الذين سيجدون تزاوج العناصر التي أنتجتها حضارات مختلفة، سومرية وسامية وهندوأوروبية وتركية وكلتية وغيرها.



لكن البعض يستعمل الاسطورة كوسيلة لبرهان نظرية الأصل السومري أو الطوراني. ولتبيان القسرية في التفسير، ننتقل إلى مقالة نشرتها في العام 1953 باحثة مجرية هي إدا بوبولا في مجلة جامعة بوينس آيرس عنوانها "الوعل العظيم، الآلهة السومرية" تتحدث فيها عن الإله السومري "إيا" إله الماء. وتذكر بوبولا بأن لإيا (أنكي) أسماء اخرى، مثل "دارا - ماه" أي الوعل الكبير، مما يذكرنا بمحور الاسطورة المجرية التي ذكرناها قبل قليل. كما تعقد مقارنات بين بعض الأسماء التي وردت في الأساطير المجرية مع أسماء سومرية. فتتناول إبن أيا، دوموزي، وهو تموز إله الرعي، الذي تحول بعد ذلك إلى أدونيس عند اليونانيين، الإله المضحي الذي يولد ويموت سنوياً، وتفتر أن تموز هو الوعل الصغير، لأن أبوه إيا الوعل الكبير، لذا يجب أن يكون لقب تموز بالسومرية "دار - جي" الذي سيتحول لاحقاً إلى أسماء مثل ترك وطوران!      

كما حاول البعض استغلال عثور الآثاريين على فخاريات رافدينية الطابع وكتابات مسمارية وأخرى تقلد الخط المسماري في بعض أنحاء شرق أوروبا لنفس الأغراض. لكن البحث أثبت أن هذه الفخاريات والنصوص جاءت الى هذه البلاد البعيدة عن وادي الرافدين عن طريق التجارة عبر الأناضول، ثم قلد السكان المحليون الأشكال الرافدينية في صنع أدواتهم وأضافوا إليها الكتابات والنقوش. وقد طور المجريون السيكيّون (Székelyek) (وهم فرع من المجرين قدموا الى ترانسلفانيا قبل قدوم باقي القبائل المجرية الى حوض جبال الكاربات) خطاً أبجدياً استنبطوه من الخط المسماري الذي وجدوه على الفخاريات.

لكن العلماء المجريين الذين رفضوا مثل هذه النظريات المزيفة التي تحدثنا عنها قبل قليل، قدموا للإنسانية خدمة كبيرة، وبرز بينهم مستشرقون كبار مثل إگناتس گولدسيهر وشاندور كوروشي - چوما (چوما دي كوروش). ونشطوا في تجميع وتحليل التراث الشعبي مثل بارتوك وكوداي اللذان جمعا كنزاً من الموسيقى الشعبية المجرية وموسيقى الشعوب المجاورة وحتى الموسيقى العربية والتركية وصنفاه ووثقاه. وعلم الفولكلور (الأثنوغرافيا) يدينان كثيراً للعلماء المجريين الذين كشفوا جذور الفنون الشعبية المجرية التي تعود أيضاً الى اصول آسيوية وشرق أوسطية. 


(صدرت في صحيفة الحياة اللندنية يوم 29/10/1998)


الأحد، 7 مايو 2023

هايدن



الطفولة


مرت بالأمس الأول 31 آذار ذكرى ولادة فرانس يوزف هايدن (1732 - 1809)، واحد من أهم الموسيقيين في تاريخ الموسيقى الغربية. تشير كنية بابا هايدن التي نعته بها الموسيقيون وقتها إلى هذا، فهو من مهّد الطريق أمام موتسارت وبيتهوفن، وهو من صقل شكل السوناتا، أحد أهم الأشكال الموسيقية في أوروبا منذ القرن التاسع عشر. وطوّر العديد من الأشكال الموسيقية، بالدرجة الأولى شكل السيمفونية.

ولد هايدن في قرية روراو شرقي فيينا في عائلة هوت الموسيقى، فأبوه كان عازفاً ومغنياً شعبياً من الهواة، ومنه تعلم الغناء في صغره وبرع فيه، حتى أخذه معه أحد أقارب العائلة يوهان ماتياس فرانك في 1738، الذي كان مدير مدرسة وقائد جوقة غناء في مدينة هاينبورغ القريبة الواقعة على الدانوب. كان يوزف في السادسة من العمر وقتها. 

لم تعتنِ عائلة فرانك بالطفل النابغ كثيراً، كانت ملابسه قذرة ولم يحصل على طعامٍ كافٍ، وكثيراً ما كان يُضرب. لكنه تعلم عندهم أساسيات الموسيقى والعزف على الهاربسيكورد والكمان وصقل موهبته الغنائية بالاضافة إلى الدروس الاعتيادية مثل اللاتينية والدين والكتابة والرياضيات حتى قدوم الموسيقي المعروف جورج فون رويتر (1708 - 1772) مدير الكورس في كاتدرائية سنت شتفان في فيينا (الكاتدرائية الجميلة الموجودة في مركز المدينة) بحثاً عن مواهب جديدة يعزز بها كورس الأطفال في الكاتدرائية، وذلك في سنة 1739. انتقل هايدن الصغير إلى فيينا في ربيع 1740، ليقضي تسعة أعوام في الكورس ويسكن مع الأطفال الباقين. حصل على تأهيل عملي ممتاز لكنه لم يتلق تعليماً موسيقياً مناسباً في النظرية والتأليف، ولا حتى الطعام الكافي أحياناً. يقول أنه كان مضطراً لتقديم أفضل أداء أملا في الحصول على دعوات لتقديم حفلات في بيوت النبلاء أو في القصر الإمبراطوري حيث يمنح الأطفال بعض الطعام. وكان يحصل كذلك على بعض المال من تدريس الموسيقى أو كعازف مصاحبة عند الموسيقى الإيطالي نيكولا بوربورا (1686 - 1766) مؤلف الأوبرا الشهير خلال عمله في فيينا. وقد حصل هايدن اليافع على الكثير من التقريع والسباب من بوربورا، لكنه كان ممتناً له رغم ذلك، فقد تعلم منه الكثير من علوم الغناء والتأليف وحتى اللغة الإيطالية. 

وحادثته مع ماريا تريزيا أمبراطورة النمسا في 6 حزيران 1745 مشهورة، فقد كان يلعب مع زملائه فتيان الكورس على منصّات بناء قصر شونبرون خلال واحدة من العروض التي قدمت في هذا القصر الجديد. رأته لوحده من دون أقرانه وطلبت من رويتر "ضبطه". وكانت ماريا تريزيا قد أشارت لرويتر سنة 1748 بأن صوت يوزف هايدن قد بدأ يغلظ بسبب البلوغ (استعملت تعبير نعيب)، فخلفه أخوه ميخائيل هايدن (1737 - 1806) في أداء الأدوار المنفردة، وكان قد التحق بكورس سنت شتفان في 1745.

آخر مشاركة لهايدن مع فرقة كنيسة سنت شتفان كانت في 22 تشرين الأول 1748 قبل أن يطرده رويتر من الفرقة في تشرين الثاني عقب مقلب دبّره هايدن لأحد زملائه (وبالطبع بسبب تغير صوته)، إذ كان هايدن صاحب دعابة منذ صغره، وتنعكس روح الدعابة في أعماله بشكل جلي كذلك. 


القداس القصير في فا الكبير، أول عمل موثّق لهايدن بتاريخ 1750

https://www.youtube.com/watch?v=Puke9tHFoQ0


قصر أسترهازي في فرتود - المجر


الشباب والنضوج


بدأ هايدن حياته العملية سنة 1750 في البحث عن مصدر دخل لإعالة نفسه. عمل بأعمال مؤقتة مختلفة مثل العزف والتدريس والقيام بخدمات متنوعة، خاصة المرافقة الموسيقية والغنائية عند نيكولا بوربورا (1686 - 1766) ومساعدة الشاعر وكاتب الليبرتّو (نصوص الأوبرا) الإيطالي المعروف بيَترو مَتاسْتاسيو (1698 - 1782) الذي كتب نصوص الكثير من الأوبرات باللغة الإيطالية لموسيقيين معروفين مثل ليوناردو فنتشي (1690 - 1730) وأنتونيو كالدارا (1670 - 1736) ويوهان آدولف هاسه (1699 - 1783) وهو الألماني الذي بزّ الموسيقيين الطليان في الأوبرا الإيطالية. في نفس الوقت درس التأليف عند بوربورا وواصل دراساته الذاتية وانهمك في تأليف اوبرات هزلية وأعمال دينية غنائية وموسيقى الحجرة بتكليف من بعض النبلاء. بنى هايدن لنفسه سمعة بين النبلاء وحاز إعجابهم تنامت بدأبه ومثابرته، فحصل على أول وظيفة له كمدير موسيقي في بلاط الكونت مورتسين سنة 1758. وكان يقضي الشتاء في فيينا والصيف في قصر الكونت قرب بلزن في بوهيميا. ألف في هذه الفترة أولى سيمفونياته التي تألفت عموماً من ثلاث حركات، لكنه بدأ بكتابة سيمفونيات من أربع حركات مبكراً كذلك، وهو العدد الذي أصبح العدد المعتاد لحركات السيمفونية لفترات طويلة، قبل أن يبدأ الموسيقيون بالتحرر من هذا التقييد في الفترة الرومانتيكية.

لم يستمر عمله طويلاً عند الكونت الذي اضطر لتقليص نفقاته بسبب أزمة مالية فحل الفرقة الموسيقية، لكنه أوصى الأمير المجري أنتل (آنتون) أسترهازي بهايدن. حصل هايدن على عمل في أوركسترا الأمير في نيسان 1761 مساعداً لقائد الفرقة غريغور يوزف فرنر (1693 - 1766) بأجر مضاعف عن أجره السابق عند الكونت. لكن الأمير آنتون توفي في العام التالي ليخلفه أخوه ميكلوش الأول (نيكولاوس) الذي عُرف بحبه للموسيقى والفنون، وقد أصبح هايدن قائداً للفرقة بعد وفاة فرنر. 

تُعد عائلة أسترهازي المجرية من أثرى العوائل في الامبراطورية النمساوية. يقع مقر الأمير ميكلوش الأول في قصر فخم في آيزنشتات (بورغنلاند النمساوية)، لكنه بدأ بين 1762 - 1766 بتوسيع قصر آخر للعائلة في أسترهازا (في الريف المجري) وجعله مشابهاً لقصر فرساي، وألحق به في 1775 دار أوبرا صغيرة قدمت فيها أوبرات ومسرحيات، منها أعمال هايدن. وقد اعتاد الأمير قضاء الصيف في هذا القصر الباذخ، فيأخذ معه حاشيته وخدمه بضمنهم الفرقة الموسيقية لكن من دون استصحاب عوائلهم. وهنا حصلت حادثة تأليف هايدن سيمفونية الوداع سنة 1772 لإيصال رسالة إلى الأمير مفادها أن إقامة أعضاء الفرقة في القصر الصيفي قد طالت، وحان وقت العودة إلى منازلهم وعوائلهم. فقد كان تعامل النبلاء مع الموسيقيين لا يختلف عن تعاملهم مع خدمهم كثيراً، وكانت المؤلفات الموسيقية التي يكتبها هايدن ملكاً لمخدومه. لكن الأمر تغير بعد تجديد عقد العمل سنة 1779، فتمكن هايدن من تلبية طلبات خارجية بالإضافة إلى مهامه الموسيقية المتعددة لدى الأمير وبلدية آيزنشتات. عندها ألف الكثير من الرباعيات الوترية والسيمفونيات، بينها السيمفونيات الباريسية (1785 - 1786).


من السيمفونيات الأولى في بلاط الأمير أسترهازي: سيمفونية رقم 6 (الصباح) من 1761. جوفاني أنتونيني يقود Il Giardino Armonico 

https://www.youtube.com/watch?v=XtWEvUnC1Vs&t=852s


جوفاني أنتونيني يقود Il Giardino Armonico في سيمفونية الوداع من سنة 1772

https://www.youtube.com/watch?v=GMaM6ivx8X8





الشهرة والزيارة الأولى إلى بريطانيا


كان الأمير نيكولاوس (ميكلوش) أسترهازي (1714 - 1790) سخياً فيما يتعلق بالموسيقى، وقد خصص ميزانية تبز ميزانية البلاط الإمبراطوري ذاته. ساعد هذا هايدن على التعاقد مع أفضل الموسيقيين والمغنين، وتجربة الجديد من الأفكار في تطوير الأشكال الموسيقية واستخدام الأوركسترا والتوازن الصوتي فيها وتثبيت إستعمال المزيد من الأدوات فيها (الترومبيت والكلارينيت مثلا)، ونسمع هذا التطور التدريجي في سيمفونياته بمرور الوقت. وقد زادت سمعة بلاط الأمير أسترهازي في أوروبا وزاره النبلاء والملوك وتمتعوا بالأعمال التي ألفها هايدن خصيصاً في مثل هذه المناسبات، من سيمفونيات أو أوبرات أو مسرح الظل أو المسرحيات الموسيقية، كل هذا ساعد في نشر سمعة هايدن في أوروبا. وبدأت المدن الأوروبية تقدم أعماله بنجاح كبير. مثلاً أرسل الملك الإسباني كارلوس الثالث علبة تبغ من الذهب مرصعة بالألماس هدية لهايدن بواسطة سفيره في فيينا الذي سافر إلى أسترهازا خصيصاً لهذا السبب. أما فرنسا فقد هامت بموسيقاه وقدم الفارس دو سان جورج (1745 - 1799) في باريس ست سيمفونيات كتبها هايدن بتكليف من كونت فرنسي سنة 1787. وبلغت شهرته هناك حد قيام موسيقيين مغمورين بتأليف وطبع ونشر سيمفونيات لكن بتوقيع هايدن لضمان المبيعات. ووصلت شهرته بريطانيا حيث تلقى دعوات لزيارتها وقيادة أفضل الفرق هناك، لكن هايدن اعتذر عن ذلك لأنه لم يود الاستقالة من عمله عند الأمير ميكلوش الذي لم يكن يسمح لهايدن بترك موقعه في إجازات طويلة. رغم ذلك كان هايدن يعاني من عزلة "فنية" بسبب اقتصار إقامته على آيزنشتات وأسترهازا، بخلاف أقرانه الذين كانوا يقومون بجولات فنية في كل أوروبا. وحتى فيينا العاصمة الامبراطورية كان يزورها لمرات قليلة ولفترات قصيرة، وهناك التقى بموتسارت وعقد معه صداقة رغم الفارق في السن (أصبح الإثنان أعضاء في نفس المجمع الماسوني سنة 1785).

لكن الأمر تغير فجأة بعد وفاة الأمير ميكلوش في خريف 1790، عندها خلفه ابنه أنتون (أنتل) (1738 -1794) الذي حل الأوركسترا بسبب الديون الكثيرة على البلاط وبسبب عدم اهتمامه بالموسيقى والفنون. لكنه أبقى هايدن في وظيفته عنده دون مهام محددة ودون قيود، فاستأجرهايدن بيتاً للسكن في فيينا على الفور. الآن فقط سنحت له الفرصة لزيارة لندن في 1791 للمرة الاولى، وبقي هناك لعام ونصف حيث حقق نجاحاً ساحقاً جلب له ثروة صغيرة. قدم هناك العديد من السيمفونيات ومُنح الدكتوراه الفخرية في جامعة اوكسفورد في تموز 1791، حيث قدمت سيمفونيته المعروفة باسم اوكسفورد (رقم 92) عدة مرات. وقد أطلق الاسم على هذه السيمفونية رغم تأليفها في أسترهازا سنة 1788. تأثر هايدن عند سماع أوراتوريات هندل التي قدمت في مهرجان ضخم في ويستمنستر استمر عدة أيام في أيار وحزيران 1791.

التقى هايدن بيتهوفن الشاب في مدينة بون وهو في طريقه إلى لندن، ومرة ثانية كذلك في عودته صيف 1792، قبل أن ينتقل بيتهوفن إلى فيينا شتاء نفس العام، ليصبح تلميذاً عند هايدن لفترة وجيزة. لكنه لم يحب دروسه في النظرية التي اعتمدت كتاب الموسيقي النمساوي الكبير يوهان يوزف فوكس (1660 - 1741) بقدر اهتمامه بحديث أستاذه عن التأليف الموسيقي وخبراته وكيف بنى سمعته الموسيقية.


سيمفونية اوكسفورد في صول الكبير (رقم 92) آدام فيشر يقود اوركسترا هايدن النمساوية - المجرية

https://www.youtube.com/watch?v=hEFiTZF9E9E


نصب الموسيقى (هايدن وموتسارت وبيتهوفن) في متنزه تيرغارتن - برلين



القمة


أصبح هايدن أهم موسيقي في أوروبا خلال عقد التسعينات، فقد توفي موتسارت في 1791 وبدأ بيتهوفن للتو خطواته الأولى ليرتفع نجمه لاحقاً في سماء فيينا عاصمة الموسيقى الأوروبية. قام هايدن بزيارة ثانية إلى بريطانيا في بداية 1794 قدم فيها ستة سيمفونيات جديدة. هذه المرة عرضت عليه العائلة المالكة البريطانية الاستقرار هناك لكنه رفض العرض السخي متعللا بالتزاماته لدى الأمير أسترهازي، فيعود إلى فيينا في أوائل أيلول 1795. 

عاد هايدن من لندن وفي جيبه ثروة تحقق له الاستقلال الاقتصادي عن أي مخدوم، وفي جعبته الجديد من الأفكار، سيما بعد سماعه أوراتوريات هندل التي قدمت هناك باستمرار. وكان قد تسلم من الملكة هدية ثمينة هي مخطوطة عمل هندل آلام المسيح وفق النص الألماني الذي كتبه الشاعر بارتولد هاينريش بروكس سنة 1712 (وقد استعمل نفس النص العديد من المؤلفين مثل جورج فيليب تلمان ويوهان فريدريش فاش وغوتفريد هاينريش شتُلتسل علاوة على هندل وكلهم من عظماء موسيقيي عصر الباروك المتأخر).

توفي الأمير أنتون في 1794 ليخلفه ابنه نيكولاوس الثاني (1765 - 1833) الذي قرر تكليف هايدن بإعادة تشكيل اوركسترا أسترهازي وفرقة الأوبرا. لم يكن الأمير الجديد يحب قصر أسترهازا، فكان يمضي الصيف في آيزنشتات والشتاء في قصره في فيينا. أهتم الأمير الجديد بالموسيقى الكنسية، بخلاف أسلافه، وتميز بذوقه المحافظ الذي يقرب من فن الباروك. لذلك لم يكتب هايدن  سوى القليل من الأعمال الدنيوية، رباعيات وترية (مجموعة رقم 76 بتكليف من الكونت المجري أردودي) وكونشرتو وبعض السوناتات للبيانو، بينما كتب ستة قداديس للأمير، والأهم من ذلك كتب اوراتوريو الخليقة الذي استند نصه على عمل ميلتون "الفردوس المفقود" وأجزاء من العهد القديم. كتبت النص الشاعرة الانكليزية آنّ هنتر (1742 - 1823) التي كتبت كذلك نصوص 14 أغنية إنكليزية لحنها هايدن. قُدّم الأوراتوريو للمرة الأولى في نيسان 1798 بنجاح كبير، وهو بنسختين، إنكليزية وألمانية. تبعه بأوراتوريو الفصول الذي قدم في نيسان 1801، لكنه لم يلق نفس النجاح مثل الخليقة.

تغيرت أوروبا بعد الثورة الفرنسية بشكل كبير، فقد قامت حروب وتغيرت الخارطة السياسية وزالت دول ونشبت حرب التحالف الأول (1792 - 1797) بين إمبراطورية هابسبورغ والفرنسيين. كتب هايدن النشيد الوطني النمساوي في هذا المناخ الملتهب مستلهما حماس الانكليز عند سماع النشيد البريطاني "ليحفظ الرب الملك / الملكة"، وقدم للمرة الأولى في 12 شباط 1797 في فيينا. استعمل هذا النشيد رسمياً حتى "ضم" النمسا إلى ألمانيا سنة 1938 (عدل النص بعد سنة 1918 عندما انهارت إمبراطورية هابسبورغ لتستقل الدول التي كانت تحت سيطرتها وتولد الجمهورية النمساوية). في نفس الوقت استعملت جمهورية فايمار ولاحقاً ألمانيا النازية نفس اللحن الذي كتبه هايدن لكن بنص مختلف واعتمدته نشيداً وطنياً استمر استعماله في جمهورية ألمانيا الاتحادية (الغربية) حتى اليوم بعد توحيد ألمانيا.

في مثل هذه الأجواء قُبل هايدن على الفور رئيساً فخرياً مدى الحياة في جمعية الفنون الموسيقية في فيينا في كانون أول 1797، بعد أن اُهمل من قبل الجمعية لعقود بسبب بعده على الحياة الموسيقية في فيينا والبلاط الإمبراطوري.


النشيد الوطني النمساوي (ثم الألماني لاحقاً) Hob. XXVIa:43: "ليحفظ الرب الإمبراطور فرانتس" ألفه هايدن بعد اعجابه بالنشيد البريطاني "ليحفظ الرب الملك / الملكة".  

https://www.youtube.com/watch?v=4SOy4R3085M


الرباعي الوتري عمل رقم 76 / 3 في دو الكبير (المعروف برباعي الامبراطور)، عزف رباعي كوداي. الحركة الثانية البطيئة هي النشيد الوطني النمساوي (1797)

https://www.youtube.com/watch?v=LahomNDksQg&t=6s


اوراتوريو الخليقة، كريستوفر هوغوود يقود أكاديمية الموسيقى القديمة (AAM)

https://www.youtube.com/watch?v=5gYREY8kLRE



 مسودة نشيد ليحمي الرب قرانتس القيصر بخط هايدن


الشيخوخة


عاش هايدن عمرا مديداً مقارنة بمعدلات الحياة في تلك العصور، فقد توفي ولم يتم الثامنة والثمانين من العمر. وشهد العقد الأخير من حياته المزيد من الاضطراب في أوروبا بسبب حروب نابليون. فقد انتصرت فرنسا على النمسا وروسيا في معركة آوسترليتس الحاسمة في كانون الأول 1805، نفس العام الذي دمّر الأميرال نيلسون الأسطول الفرنسي - الإسباني في معركة ترافالغر (الطرف الأغر كما تسميها العرب). وقد زار لورد نيلسون آيزنشتات سنة 1800 فقدم هايدن عدة حفلات على شرفه، بين الأعمال التي قدمها قداس أصبح يعرف باسم قداس نيلسون، وأهدى له أغنية "سطور من معركة النيل" (معركة وقعت في 1798 وهي واحدة من أهم انتصارات نيلسون). وقد قتل نيلسون في معركة الطرف الأغر كما نعرف.

استمر هايدن بالعمل على طبع أعماله وقيادة الفرق لتقديمها بوتيرة متصاعدة مع تصاعد شعبيته، لكنه لم يؤلف في سنواته الأخيرة أعمالاً موسيقية ذات بال. قال لكاتب سيرته في 1799 "للأسف تتكاثر أشغالي، بقدر ما تتكاثر سنين عمري". وبدأت أعماله الأخيرة الناضجة، اوراتوريو الخليقة والفصول على الخصوص، تقدم في مختلف العواصم الأوروبية لتجلب له المزيد من المردود، وأصبح هايدن عضواً فخرياً في المزيد من الأكاديميات والجمعيات الموسيقية الأوروبية. بالمقابل نشط في جمع التبرعات للأعمال الخيرية وتمويل المشافي ودور الأيتام عبر تخصيص ريع بعض حفلاته لهذا الغرض. وكان تقديم أعماله وحضوره فيها مناسبة اجتماعية هامة، يحضرها النبلاء والشخصيات والموسيقيون.

احتلت جيوش نابليون فيينا في تشرين ثاني 1805 للمرة الأولى، أما احتلالها في منتصف أيار 1809 فترافق مع أيامه الأخيرة. كان هايدن الشيخ يهدئ من روع خدمه أثناء قصف المدفعية الفرنسية قائلا: "يا أولادي، لا تخافوا، حيثما يوجد هايدن، لا يحصل أي مكروه". وتشتهر حادثة زيارة كابتن في الجيش الفرنسي الذي احتل فيينا هايدن في بيته للتعبير عن إعجابه بهذا المؤلف الكبير في 17 أيار وغنائه بعض أغاني هايدن. 

جلس هايدن عند البيانو للمرة الأخيرة يوم 26 أيار وأنشد "ليحمي الرب فرانتس القيصر" ثم مات يوم 31 أيار. سُجي جثمانه في كنيسة أيجيديوس القريبة من داره قبل دفنه ثم قُدّم فيها قداس من تأليف أخيه ميخائيل هايدن في اليوم التالي، وأقيم له استذكار كبير في الكنيسة الاسكتلندية في قلب فيينا قُدّم فيه قداس من تأليف موتسارت بعد اسبوعين من وفاته عقب عودة الحياة إلى العاصمة الإمبراطورية المحتلة. لكن في مفارقة من مفارقات القدر قدم عمل هايدن Te Deum في كاتدرائية سنت شتفان حيث كان هايدن صبياً في الكورس، احتفالاً بمناسبة بلوغ نابوليون عامه الأربعين في 15 آب 1809.

وصفت موسيقى هايدن ذات مرة بأنها تجلب السعادة. إذا أمعنّا في الأمر سندرك إن هذه السعادة تكمن في الوصول إلى حالة من التوازن. فقد كان يجمع بين الفكاهة والجد بلا تعارض وبشكل نادر. أما الحركات التي استعملها في السيمفونية والرباعي الوتري فهي سريعة (بعد مدخل بطيء قصير)، بطيئة، راقصة، وختمها بحركة سريعة، وهذا السعي إلى التوازن هو مصدر من مصادر السعادة. 


قداس نيلسون. غريته بدرسن تقود كاميراتا أوسلو وفرقة الهوائيات النرويجية وكورس أوسلو:

https://www.youtube.com/watch?v=O1lGDuB9NP8

سطور من معركة النيل غناء دوروتي ميلدز ولوسيوس رول على الفورتبيانو:

https://www.youtube.com/watch?v=6_UXVyZSK6Q


نشرت في صحيفة المدى بين 2 نيسان - 7 أيار 2023 في خمس حلقات

بحث هذه المدونة الإلكترونية

صدر مؤخراً

مرة اخرى عن كتاب اصول الصابئة المندائيين ومعتقداتهم الدينية للباحث عزيز سباهي

بعد شهور قليلة من نفاذ طبعته الأولى، صدرت الطبعة الثانية من كتاب الباحث العراقي عزيز سباهي “اصول الصابئة المندائيين ومعتقداتهم الدينية” عن د...